عندما تهتزّ الأرض في الجوار؛ فعلى فلسطين أن تنشغل بما يجري.
فما يتلاحق من تطوّرات جارفة في مصر جنوباً، وفي سورية شمالاً؛ يحمل في أحشائه تغييرات عميقة بالنسبة للقضية الفلسطينية وتفاعلاتها الاستراتيجية.
وقد بلغت تفاعلات المخاض المصري العسير حدّ التلاعب بالآصرة الوثقى مع فلسطين، حتى بلغ الأمر حدّ "اتهام" الرئيس المُنتخَب بـ"التخابر" مع المقاومة الفلسطينية. هي مفارقة تكشف عمق المأزق الداخلي المُفتَعل، واندفاعه للاستنجاد بأطواق النجاة من اللاعبين الدوليين، على نفقة فلسطين.
ومن تداعيات حمّام الدم في سورية، أنّه حيّد الشام ولبنان تقريباً في معادلة الصراع مع المحتلّ الصهيوني. فلا صوت يعلو فوق صوت التدمير الذاتي، ولا من أولوية مُقدّمة على مهمّة حرق الجغرافيا ومسيرة الخروج من التاريخ. هو التحييد الذي يعني ضمناً أن تنقلب جيوش وقوّات ومقدّرات، على مهمّة المقاومة لتتحوّل إلى وظيفة الاحتراب الداخلي طويل الأمد.
تترقّب فلسطين الزلازل المتعاقبة في الجوار، بما تنفتح عليه من احتمالات يصعب تخمينها. وفي هذا الترقّب ما يستحضر عناوين خمسة:
أوّلها؛ أنّ نكبة فلسطين، وما سبقتها من إرهاصات، وما أعقبها من تداعيات، لم تكن لتقع لولا أزمة الجوار وعمق الخلل البنيوي في الواقع الاستراتيجي للأمّة. فالاحتلال هو التعبير الصارخ عن أزمة الأمّة في نطاقها القريب، أي مصر والشام، وفي نطاقاتها الأوسع أيضاً. تتجاوز هذه الحقيقة قصّة الجيوش العربية التي دخلت فلسطين حرّة وودّعتها منكوبة (1948)، كما تتعدّى الحقيقة ذاتُها حكاياتِ التنصّل من المسؤولية عن احتلال الضفة والقطاع تحت عنوان النكسة (1967).
ثانيها؛ أنّ فلسطين ظلّت لصيقة بمصر والشام، ليس بمعيار الجغرافيا والتاريخ وحسب؛ وإنما في أحوال النهوض والضمور أيضاً. تكفي الإشارة في هذا إلى تلازم "الكنز الاستراتيجي" الذي حازه الاحتلال على ضفاف النيل؛ مع انقلاب الرسمية الفلسطينية على عقبيها بحثاً عن تسوية فاضحة مع المحتلّ.
ثالثها؛ أنّ الخروج من واقع الانسداد الذي يخيِّم على المشهد الفلسطيني الراهن منذ سنوات مديدة، يتطلّب حراكاً في الإقليم يفرض تأثيراته على القضية الفلسطينية وأطرافها.ولكنّ استمرار الانسداد يخاطر بتعميق الاحتلال الذي يسابق الزمن في فرض وقائعه في كلِّ اتجاه: بالهجمة الضارية على القدس، والاستيطان في الضفة، والحصار الخانق في غزة، وتكريس الهيمنة على الداخل المحتل سنة 1948؛ بما في ذلك مخطط برافر الذي ينشب أظفاره في النقب.
رابعها؛ أنّ اعتلال الواقع المحيط بفلسطين سيُعيق حتماً استنهاض الطاقات المعطّلة في الأمّة، وإشراكها الفاعل في معادلة الصراع، بما يكافئ الإسناد الخارجي الهائل الذي يحظى به الاحتلال. فكيف السبيل إلى نصرة فلسطين ونجدة القدس عبر حدود هادئة مع الاحتلال ومعابر موصودة مع فلسطين؟
خامسها؛ أنّ الاحتلال منشغل بتطوّرات الإقليم، انشغالاً يتجاوز الترقّب والمتابعة إلى الانخراط غير المرئي في صميم المشهد؛ بتوظيف أوراقه وأدواته في محاولة التأثير على التفاعلات الجارية والدفع بها صوب اتجاهات محدّدة.صحيح أنه لا يعمل في فراغ؛ لكنّ سياسة الصمت التي اعتمدتها حكومة الاحتلال إزاء التطوّرات العربية الجارفة، تُطلق في الواقع قنابل دخانية تعميةً على مجموعات العمل وغرف العمليات وخلايا الأزمات التي لن تتكشّف ذيولها إلاّ بعد عقود، أو في أوان أقرب .. بتفكيك الاحتلال ذاته.
حُقّ لفلسطين أن تترقّب، وأن تخفق القلوب لما يجري جنوباً وشمالاً، فهو انشغال لا تستدعيه عرى الأخوة والتلاحم المعنوي وحسب؛ بل تفرضه حسابات الاستراتيجيا أيضاً. أمّا قصّة التخابر مع فلسطين؛ فستبقى نكتة تتندّر بها الأجيال.
* باحث ومؤلف، استشاري إعلامي، كاتب ومحلل في الشؤون الأوروبية والدولية وقضايا الاجتماع والمسائل الإعلامية