رؤيـة
اللاجئون... الهموم لا تقتل العودة
اللاجئون... الهموم لا تقتل العودة
بقلم - حمزة اسماعيل ابو شنب
مرّ شهر رمضان هذا العام على اللاجئين الفلسطينيين وهم بين هموم الحياة اليومية والغرق في تفاصيلها وملاحقة احتياجاتها والتفكير في كيفية الخوض في غمار حياة أفضل، والبحث في التفاصيل الدقيقة للأيام من أجل تجميل الصورة العامة لحالتهم في ظل البعد والفراق عن الأرض والوطن؛ فقد مضى أكثر من ستين شهراً كريماً عليهم وهم يتجرعون ألم البعاد. بينما مرّ هذا الشهر الفضيل والأوضاع في مخيمات اللجوء تمر بمرحلة جديدة من مراحل سنوات المشقة والعذاب؛ فاللاجئون في سوريا يعيشون اليوم أوضاعاً تختلف عن الأعوام السابقة؛ فبعضهم يعيش حالة من اللجوء الجديد بعد ترك بيته والخروج في رحلة جديدة من رحل التشريد، بعد الاضطرابات التي حصلت في سوريا التي كانت أكثر البلدان حناناً وأوسعها صدراً لهم، ولكن هواجس الماضي من تحمّل قرارات القيادات الفلسطينية جعلهم يختارون اللجوء رغم قسوته.
وعلى الجانب نفسه، سجل الفلسطينيون في سوريا صورة للتلاحم مع الشعب السوري عندما قرر اللاجئون أن يردوا جزءاً من الجميل لهذا الشعب، ففتحوا لهم البيوت في اليرموك وقدموا المساعدات واجتهدوا بكل السبل لخدمة السوريين الذين تركوا بيوتهم، فما قدمه أهل المخيمات ينمُّ على أن تفاصيل الحياة اليومية لا تنسيهم الهم والأمل في الوقت نفسه.
حالة لاجئي لبنان ما زالت تصارع وتقاتل من أجل حجر هنا أو تحسن هناك؛ فأوضاعهم من أكثر الأوضاع صعوبة ومأساوية مقارنة بالآخرين؛ فنهر البارد ما زال يبحث عن إعادة الإعمار، وتتسارع السنوات وتتلاحق الأيام، وما زال أهل هذا المخيم يعيشون مرارة التهجير وهدم البيوت. فبعد النكبات المتتالية التي تعرضوا لها من هجرة ديارهم عام 48، ما زالوا يعيشون همّ التشرد والهدم منذ أحداث نهر البارد، ولم يكتمل الإعمار والبناء. وحال غيرهم في لبنان ليست أفضل من حالهم؛ فالأرق اليومي والتفكير في المستقبل أصعب وأقسى من الرجوع إلى الماضي بكل ما يحمل من قتل ومعاناة ودفع أثمان وتشريد ومجازر؛ لأن الماضي معروف والمستقبل بالنسبة إليهم معدوم، ومع ذلك فإن بصيص الأمل لديهم لا يندثر، والدعاء على ألسنتهم لا يتوقف، وذكر فلسطين يرطب شفاههم، ففي كل رمضان يقولون: لعل رمضان القادم يأتي أفضل، في صورة ترسم ملامح التضحية والصبر ليقينهم بأن الأوطان لا تحرر إلا بثمن.
تفاصيل الحياة اليومية كما تُغرِق لاجئي الخارج فهي تُغرِق لاجئي فلسطين وأهلها؛ فالناظر إلى الحالة الفلسطينية في الداخل يجد أن التفاصيل تربك الحسابات وتشغل البال؛ فكل من اللاجئين المقسّمين إلى ثلاث مناطق: في داخل الأراضي المحتلة عام 48، والضفة الغربية، وقطاع غزة، كلهم يحمل هماً يختلف عن الآخر.
ففي داخل الـ48 يعاني أهلنا هناك تهويداً ممنهجاً وتشريداً وهدماً للبيوت، في محاولة لطمس هويتهم الحقيقية بعد فشل دمجهم في المجتمع الصهيوني، ويمارس ضدهم التمييز والتفرقة العنصرية من دولة عنصرية. ورغم قسوة المعيشة وظلمهم، إلا أنهم لم يتراجعوا أو يتغيروا، بل حافظوا على التراث الفلسطيني والعادات والتقاليد التي تنقل عبر الأجيال، لترسيخ حقيقة أن الأرض التي نراها ونُمنع من العودة إليها، رغم أنها تحت عيوننا، لا يمكن أن تغيرها كل المتغيرات أو المغريات أو المنغصات، بل هي حقنا وسنعود إليها إما نحن أو الأجيال من بعدنا.
أما الضفة الغربية التي تعيش كل يوم لجوءاً جديداً، وكل لحظة نَهبٍ للأرض فيها تلامس الألم يومياً، فمصادرة الأراضي وطرد ساكنيها هي سياسة الصهاينة في قتل العودة في نفوس أهلها؛ ففي كل يوم مصادرةٌ وبناءٌ جديدٌ ونهبٌ للأرض، في محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع. فالضفة الغربية تعيش اللجوء مع إطلالة كل فجرٍ جديدٍ، وهذا حال أهلها، أما حال من لجأ إليها فهو يحمل معه سلة من الهموم: الهمّ اليومي في ظل المعيشة الصعبة، والهمّ الوطني الذي أُلقي على ظهره ليقارع الاحتلال ويسجل اسمه في ملفات الاعتقال بشكل متواصل، فيصبح التعامل مع الاحتلال سمةً سائدةً لهم وهمهم الأول، ولعل قطاع غزة يغرق في همّ الحياة اليومية، ولكن يشترك مع الضفة في المسؤولية نفسها.
الحديث عن اللاجئين وهمومهم يحتاج إلى الكثير؛ فالذي يعيش خارج مخيمات اللجوء يكتوي بألم الفراق والغربة، وعندما يفكر اللاجئون في أنه لا وطن لهم ولا سقف يجمعهم، فهم يعيشون ضيوفاً في العديد من الدول، قد يقيدون إيواءهم بالمتغيرات، كما حدث للاجئين في العراق من قتل وهمّ تهجير جديد، لم يجدوا دولة عربية تحتضنهم فقصدوا البلاد البعيدة في معاناة ترسم معهم حالة البؤس التي يمر بها اللاجئ عندما يهجّر مرات ومرات، لا لأي ذنبٍ اقترفه إلا لأنه لم يلقِ المفتاح أو يغير طريقه نحو فلسطين، فما زالت خريطة فلسطين هي طريقه.
هي أيام وأشهر تمرّ على اللاجئين؛ فمن الأردن إلى فلسطين إلى لبنان وسوريا إلى كافة أنحاء العالم، وبعد مرور هذه السنوات ورغم كل ما يُبذَل لطمس هويتهم أو تقديم المغريات لهم، لم يفكر اللاجئ في أن يغير نظرته أو تعلقه بفلسطين. ولعل شهر رمضان يجدد دائماً معهم الحب والأهمية الدينية للوطن، ويعمق مدى الارتباطات، فلن يقتلوا العودة فينا رغم هموم الأيام، فسنصبر عليها حتى نصل أو يصل مَن بعدنا إلى الوطن، وسنصل. ♦