في حضرة أم نضال فرحات
ساري عرابي /الضفة الغربية
أثناء التفكير في مقالة هذا العدد من مجلة "العودة"، توفيت المجاهدة أم الشهادة والشهداء، أم نضال فرحات، رحمها الله، وهو الأمر الذي كان جديراً أن يغير من خطة الكتابة لهذا العدد، كما هو جدير أن يحتل مكانة أولى في أجندة أي وسيلة إعلامية، أو مطبوعة ثقافية، أو حديث سياسي، أو تعبئة جهادية، أو وعظ إيماني، في حياتنا الفلسطينية والعربية والإسلامية.ليس لأن حدث وفاتها فريد؛ فالناس كلهم يموتون، لكن هذا الحدث كان جاذباً للتأمل بقدر ما كان مفجراً للحزن؛ لأن المرأة نفسها، لم تكن امرأة عادية، وحياتها كانت استثنائية تماماً، حتى في السياق الفلسطيني، فليست كل امرأة، في فلسطين، تدفع أبناءها شهداء في سبيل الله طوعى ورضا ومحبة ووداً، كذلك ليس كل رجل في فلسطين خاض طريق الجهاد، وتعرض عن إصرار للشهادة.
استولت أم نضال على قلوبنا، ليس لأنها نائبة في المجلس التشريعي؛ فهذا الأمر، بكامل الصدق، ليس فيه ما يستأهل أن يصل القلوب، فضلاً عن الاستيلاء عليها، بل بسيرتها، التي التصقت بالجهاد والمجاهدين، من إيواء المجاهدين، وقد استشهد في بيتها عماد عقل، رحمه الله، إلى إطعامهم وسقايتهم وتفقد أحوالهم. لكن ذلك كله يغدو على عظمته لا شيء، ونحن أمام امرأة ترسل ابنها للجهاد لعملية استشهادية بنفسها، ثم تبقى طوال الليلة تتبع الأخبار تنتظر خبر نجاح العملية ورقي ابنها إلى الله تعالى.
لا أزال أذكر، عملية ابنها محمد، رحمه الله، حينما كنا في سجن مجدو في عام 2002، وكان عاماً حافلاً بالعمليات الاستشهادية، والعمل الجهادي عموماً، لكن تلك العملية، على وجه الخصوص كان لها حضور مهيب لدى الأسرى، لأجل هذه المرأة التي أرسلت ابنها، وانتظرت الخبر طوال الليل تدعو لابنها بالشهادة والإثخان في العدو، حتى وإن كانت العملية مميزة عسكرياً، فإن دور هذه المرأة فيها، هو ما وهبها كل هذا التميز والأثر. ومنذ تلك العملية، وهذه المرأة تظلّل فلسطين كلها، وتستحيل مثلاً مضروباً في ضمائرنا وقلوبنا وعقولنا، وفي كتب التاريخ والوعظ والجهاد، ما بقي مسلم وصاحب حق في هذه الدنيا، نعم، هي في ذاتها مثل، وليست الخنساء لها مثلاً؛ ففي تجربة ومسيرة ودور أم نضال ما لم يكن حتى للخنساء.
والحق، أنه لو بقي الحديث في قضايا اللجوء واللاجئين، لكان أهون وأيسر، فأي محاولة لمقاربة حدث الشهادة باللغة، ينتقص من هذا الحدث، كذلك فإن حضور موقف الشهادة في النفس تنتقص منه محاولة تصويره لغوياً؛ فالشهادة لغة أخرى، مفارقة لأبجديات البشر المنطوقة والمكتوبة؛ لأن مجرد الوعظ والدعوة لا يكفيان للتغيير في مسيرة البشر؛ فضرب الله للناس موعظة بليغة أخرى، بأن يتخذ من عباده شهداء، يفعلون في النفوس لحظة الشهادة، ثم يكون من صور خلودهم، استمرار أثرهم في الناس، عابراً للزمان، وللجغرافيا، إضافة إلى طلاب الحق، والمجاهدين، وأصحاب الرسالات العظيمة.
والإحساس بموقف الشهادة، كأي تجربة روحية، وحالة وجدية، تضيق به العبارة؛ فالموقف في ذاته فوق الإدراك العقلي المجرد من الإيمان. والإحساس به، مما لا تحتمله طاقة اللغة التي وجدت لتعبر عن المألوف، فهي أعجز من أن تطيق الشعور الذي دونه المحسوسات، وهو الشعور الذي لا يعرفه إلا من عاناه، فلا تنقله لغة، وأي لغة تحاول ذلك؛ إن كان الشعور بموقف الشهادة عميقاً، غالباً، متدفقاً، فائضاً، ولم يقتصر على ملامسة سطح الموقف، فإنما تكتشف عجزها وهزالها وبؤسها.
فالحديث عن أم نضال صعب، ورثاؤها ليس له أن يطاول تجربتها، ولا أن يتعدى ملامسة سطح الشعور بالمعاني العظيمة التي تكثفت في تجربة هذه المرأة العظيمة، والتي تستحق أن تكون رمزاً مقدماً بين رموز شعبنا وأمتنا، وأنا أُقرّ، بأنّ وفاة أم نضال هزتني، حيث صارت تدور تلك المعاني بشدة في وجداني؛ فهي وإن لم يتوفّها الله شهيدة، فإنها الأم التي أرسلت أبناءها للشهادة.
ومع أني أعتقد أن البعد الإيماني هو الأساس في دوافع هذه السيدة العظيمة، وهذا البعد هو الأصعب في محاولة مطاولته واستكشافه وفهمه؛ إذ هو تجربة إيمانية خاصة لامست اليقين في إدراك الغاية النهائية بالصعود إلى الله، والاستقرار في الحياة الآخرة، وبالتالي صار إرسال الأبناء للشهادة مقدوراً عليه، فإن في تجربتها دروساً وطنية ونضالية بالغة.
فإذا كانت المرأة المؤمنة، التي تنتمي وأبناءها إلى حركة جهادية؛ للبعد الغيبي حضور كبير في وعيها، قد انصاغت بهذا البعد وتشكلت، حتى صارت امرأة من الجنة تمشي على الأرض، كذا نحسبها ولا نزكيها على الله، فإنها أيضاً كشفت في تجربة ثرية، كيف يتجاوز المرء ذاته، وينتصر على أنانياته، ولا يكتفي بأن يسخّر حياته في سبيل قضية بطهر القضية الفلسطينية وعدالتها، بل يربي أبناءه على ذلك، ثم إذا استووا أرسلهم للشهادة، في درس جديد.
فنحن إذاً، لا نزال في طور الحديث عن اللاجئين، ونحن بصدد الحديث عن أم نضال فرحات؛ فعودة اللاجئين واحدة من أسس القضية الفلسطينية؛ فالجهاد، والأسر، والشهادة، على مستوى الإنجاز الدنيوي في سبيل تحرير فلسطين، وعودتها إلى أهلها، وعودة كل أهلها إليها.
نعم، فلسطين، وكل القضايا المتعلقة بتحررها، تحتاج إلى مثال أخلاقي، ودون التحرر أولاً، من الذاتية، والفردانية المتضخمة، ودون تعزيز الدافعية للتضحية، واستعذاب العمل للآخرين، ودون فاعلية فكرة الخير للناس في النفس، لا يمكن أن يحصل إنجاز في قضية التحرر.
قدّم شعبنا تضحيات كثيرة، كانت تضحية أم نضال لؤلؤة فريدة في هذا النظم البديع، لكن طالما بقيت القضية، وبقي مشروع التحرير وعودة اللاجئين غير منجز، بقينا بحاجة إلى مثل أخلاقي، في التضحية، زاداً، ودافعاً، وموعظة بليغة، وحياة لأرواحنا التي سرعان ما تتصحر، بعوادي الظروف التي تنشب أنيابها فيها.
فاليوم، يراد إشغال الفلسطيني بهمّه الفردي الذاتي اليومي، بل إلى ما لا يرقى إلى مستوى الهمِّ، من تطلعات الحياة الاستهلاكية الزائفة، من إغراق الفلسطيني في نمط استهلاكي عجيب في ظل احتلال، حتى الفعل النضالي لدى قطاع من الشباب صار "نشاطاً في سبيل الشهرة" وتحقيق المنافع المادية. واليوم يراد تيئيس الفلسطيني من القدرة على تحقيق إنجاز على صعيد مشروع التحرر، وإزاء هذه المؤامرة على شعبنا وأجيالنا، نحتاج أن نتأمل في تجربة أم نضال فرحات، في تجاوزها لذاتها، واستجابتها لأمر ربها، وتلبيتها لنداء قضيتها.
وهذا يقودنا، إضافة إلى ضرورة وجود المثل الأخلاقي، وهو المثل الذي ينبغي أن نحتفي به، ونعيد تقديمه، والتذكير به، بكل أشكال الإبداع والعرض الممكنة، إلى أهمية البعد الغيبي الإيماني في قضية معقدة وصعبة كالقضية الفلسطينية، التي تتطلب مزيداً من البذل والعطاء لمجرد الاستجابة للأمر، ومع إيمان بعدل الله، وإيمان بحسن الجزاء في الآخرة.
إضافة أم نضال فرحات، لمسيرتنا النضالية، وتجربتنا الجهادية، أكثر مما ذكر في هذه المقالة، وهي إضافة لا تتسع لها مقالة، ولا تطيق عرضها اللغة العاجزة، لكن المهم أن هذه السيدة العظيمة، جديرة بأن تكون رمزاً متقدماً لهذا الشعب، ولعموم الأمة، ولأجيالنا القادمة، وللإنسانية جمعاء، ومن الضروري الكشف عن فاعلية هذه التضحيات وأهميتها، وأبعادها الإيمانية والأخلاقية والجهادية المتنوعة، في الدفع بالمسيرة الكفاحية، وتجاوز حالات التراجع والتصحر التي تعتري مسيرتنا هذه في بعض المحطات.
ولعل آخرين يضيفون في أهمية تأكيد رمزية هذه السيدة، وعظمة تجربتها، وفاعلية مثل هذا النموذج في مشروعنا التحرري، وجعله فاعلاً في جماهيرنا وشبابنا، فقد مضت ومضى أبناؤها الشهداء، رحمهم الله جميعاً، ويبقى دورنا من بعدهم في الإمساك بتراثهم، والحفاظ على فاعليته، والإلحاح على معنى تضحياتهم.♦