مجلة العودة

في ذكرى سقوط الصفصاف مذبحة أودت بحياة العشرات من أبناء البلدة

في ذكرى سقوط الصفصاف
مذبحة أودت بحياة العشرات من أبناء البلدة

نضال حمد/ أوسلو

يوافق ليل 28 وفجر 29 تشرين الأول (أكتوبر) ذكرى سقوط بلدة الصفصاف الجليلية الفلسطينية بأيدي القوات الصهيونية بعد معركة حامية تكبد خلالها الصهاينة خسائر كبيرة على أيدي مقاتلي البلدة وجنود جيش الإنقاذ العربي، الذين كان جلّهم من السوريين.

في الهجوم على الصفصاف استخدم اليهود الصهاينة المدرعات والطائرات والمدافع، ورغم ذلك عجزوا عن اقتحام خطوط دفاع البلدة من جهة مستعمرة عين زيتن وصفد.

يروي كبار السن في البلدة أنهم اتخذوا استحكامات جيدة بمساعدة جيش الإنقاذ وتحت قيادتها. لكنهم أهملوا جهة بيت جن على أساس أنها قرية عربية لم تسقط بيد المعتدين، وتعتبر ظهراً آمناً لهم. لكنهم لم يدروا كما قال السيد محمد أحمد حمد (أبو جمال) وكان له من العمر آنذاك 16 عاماً أن اليهود سوف يأتون إلى الصفصاف من ناحية بيت جن. من هناك دخل الصهاينة الصفصاف. ويؤكد كلامه السيد محمد حمد (أبو غازي) مواليد الصفصاف سنة 1929: «كنا حين وقع الهجوم نصطاد الطيور في أطراف البلدة على سفح جبل الجرمق. فشاهدنا الطائرات وهي تُغِير فعجّلنا بالعودة لكن المعارك كانت قد بدأت». ويقولان إنهما شاهدا مغنّي البلدة محمد محمود الزغموت شهيداً بعدما أصابته غارة الطائرات. حُمل الشهيد إلى داره، لكن الهجوم المتواصل على الصفصاف لم يُمكِّن عائلته من دفنه. والشهيد كان مغنياً شعبياً معروفاً وعمل مع الفنان الفلسطيني الشهير نوح إبراهيم.

في حديث له مع صحيفة الاتحاد السورية، قال أسعد زغموت، من مواليد الصفصاف سنة 1929، إن أبناء البلدة شأنهم شأن أبناء البلدات الأخرى حضّروا للمعركة بإمكاناتهم المتواضعة. فشكلت لجنة من قاسم زغموت، علي طه شريدة وإسماعيل حمد ونجيب يونس وآخرين. المرحلة الأولى بدأت بشراء السلاح والقيام ببعض التدريبات وتنظيم الحراسة والدوريات. ثم أصبحت عمليات التحضير أكثر جدية مع دخول فوج جيش الإنقاذ بقيادة النقيب غسان جديد والملازم جودت الأتاسي. وبحسب زغموت «اهتم جيش الإنقاذ بالصفصاف لأن سقوطها يعني نهاية الجليل الغربي كله، لأنها بوابة الجليل».

وفي حديث سمعته قبل سنوات من المرحوم أحمد حمد (أبو مروان) قال: «إن شرق الصفصاف كان ينقسم إلى قسمين هما الشمال الشرقي وهو سهل ومنه يمكن التوجه إلى القرية عبر منخَفض. أما القسم الآخر فهو الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية التي تمتاز بوعورتها وصعوبة اقتحامها. وأبو مروان كان مع أبي كامل يونس من شبان القرية الذين جمعهم الجنود بغية إعدامهم، لكنهما أصيبا بجراح وبقيا بين الجثت، ثم ما لبثا أن أُنقذا. عاش سنواته الباقية في مخيم عين الحلوة إلى أن توفي هناك.

أكد أسعد زغموت كلام أبي مروان عن تقسيمات البلدة «جرى تركيز الاستحكامات في المنطقة السهلية التي يتوقع أن يأتي منها الهجوم. فامتدت الاستحكامات من غرب القرية (العين التحتا) بمحاذاة الطريق الرئيسي الموصل إلى صفد وعكا مروراً بقرية ميرون المجاورة، فالجش، وصولاً إلى حدود لبنان. ومن جنوب القرية، قرب قرية قديثا، أقيم البرج الرئيسي بإمرة الوكيل حسن زيني وهو من أبناء اللاذقية على الساحل السوري».

ليلة المعركة

تلك الاستحكامات ساعدت الناس وأعطتهم ثقة بالنفس. لكن الطائرات الصهيونية بدأت في الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) غاراتها المكثفة على تحصينات جيش الإنقاذ وأبراجه. وعلى البيادر حيث كانت تنتشر أعداد كبيرة من اللاجئين من مدينة صفد وعرب القديرية وعشائر من بدو طبريا والمواسي والزنغرية.. استبسل المدافعون في الدفاع عن البلدة، وأدى الوكيل حسن زيني دوراً محورياً من برجه، حيث كان يوجه المدافع التي قصفت المهاجمين الصهاينة جهة مستعمرة عين زيتيم وقديثا. وقاتلت كذلك ببسالة مجموعة الرشاش بقيادة الوكيل محمد إسماعيل بركات.

في ذلك اليوم تعرضت الصفصاف لهجمات عديدة متتالية دونما نتيجة، حيث صمد أهلها وقاتلوا دفاعاً عنها, وقد منحتهم المعركة ثقة أكبر بالنفس. بعد منتصف الليل وحوالى الساعة الثانية والنصف وصل النقيب جودت الأتاسي ومعه سعيد زغموت وطالب الأهالي بالثبات حتى الصباح فقط لأن النجدات قادمة وكثيرة. وفي ذلك الوقت كان النقيب محمد إسماعيل بركات صاحب الصوت القوي والجهوري يطلق كلمات التشجيع بين الفينة والأخرى: «اصمد، اثبت مكانك، عليهم». بحسب أسعد زغموت الذي أضاف أنه عند الثالثة والنصف فجراً صمت رشاش الوكيل محمد إسماعيل بينما أخذنا نسمع أصوات إطلاق رصاص كثيف من الجهة الغربية. ولما غاب صوت الوكيل محمد توجهنا لتفقده عبر الخندق الموصل إلى موقع الرشاش فلم نجد أحداً. في ذلك الوقت كان اليهود قد وصلوا إلى البلدة عبر أحراج الجش والمنطقة المجاورة، واشتد أزيز الرصاص فيها.. عندها لم يكن أمامه ورفاقه من خيار سوى التوجه إلى موقع الوكيل زيني الذي وجدوه لا يزال صامداً مكانه. وعند الفجر تبيّن أن البلدة سقطت واليهود قاموا بتنفيذ مذبحة ثأرية من أهلها، فقتلوا 54 من أبناء البلدة و60 ممن لجأوا إليها من القرى المجاورة.

النجدة

يبدو أن النجدة التي تحدث عنها النقيب جودت كانت من المتطوعين المغاربة الذين تضاربت الأقاويل والحكايات عن الكمين اليهودي المروع، الذي وقعوا فيه قرب بلدة الجش وهم في طريقهم لنجدة الصفصاف، حيث كانوا يعتقدون أن هذه المناطق ما زالت تحت سيطرة العرب، لكن الحقيقة أنها كانت قد سقطت بأيدي اليهود الغزاة. وقد حدثني والدي (أبو جمال حمد) عن ذلك لأنه عاش بداية الواقعة فقال: «بينما كنت متجهاً إلى الحدود اللبنانية بعد سقوط الصفصاف سالكاً الطرق الجبلية والوعرة وصلت إلى مكان غير بعيد عن الحدود اللبنانية حيث التقيت بالمتطوعين المغاربة. فسألوني أين تقع الصفصاف، فأجبتهم بأن اليهود احتلوها. لكنهم ظنوا أنني جبنت وهربت، فأقتادوني أمامهم ولم نتقدم كثيراً حتى رأينا اليهود أمامنا، وأخذوا يطلقون النار صوبنا، فقلت لهم ها هم اليهود. تركتهم يتبادلون إطلاق النار حيث إنني كنت بلا سلاح ومرهقاً، فضلاً عن أن فكري كله كان مشغولا بالبحث عن أبي وأمي وعائلتي الذين فقدت أثرهم بعد سقوط البلدة. يؤكد هذا الكلام في شهادته السيد أسعد زغموت حين يقول في روايته «إن المتطوعين المغاربة علقوا في الكمين وقاتلوا حتى الشهادة»، فاستشهدوا في اليوم الذي استشهدت فيه البلدة التي جاؤوا من أجل إنقاذها ومساعدتها والدفاع عنها.

شهاداتهم

صادف 29/10/1948 يوم الجمعة حيث استطاعت القوات الصهيونية الغازية من عصابات الهاغانا، شترن والأرغون بقيادة الإرهابي مانو بن مردخاي من سكان بلدة الجاعونة احتلال الصفصاف. وجاء في كتاب «تصحيح غلطة»، تأليف بني موريس وترجمة هارون محاميد وفواز جرار الآتي: «يستطرد كوهين في تسجيل ما دار في جلسات اللجنة السياسية لحزب مبام بقوله: تحدث بعض المسؤولين عما جرى في قرية الصفصاف من أن 52 رجلاً ربطوا معاً في حبل طويل، وأنزلوا إلى حفرة سحيقة، ثم شرع جنود الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار عليهم وهم داخل الحفرة، فقتلوا من بينهم عشرة رجال، فصرخت النساء طالبات الرحمة من الجنود اليهود، فقام الجنود باغتصاب ثلاث نساء من بينهن فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، كما قتلوا أربع نساء أخريات، ثم قاموا بقطع أصابع النساء بالسكاكين لانتزاع الخواتم الذهبية منها».

أما يوسف نحماني الذي اشتهر في منطقة الجليل باسم يوسف «العَوَنْطجي» فيقول في مذكراته: إن الأعمال الوحشية التي ارتكبها جنودنا في قرية الصفصاف كانت في منتهى البشاعة، فمثلاً بعدما استولى الجنود على القرية، ورفع سكانها الأعلام البيضاء، قاموا بجمع السكان، وفرقوا بين النساء والرجال، ثم قاموا بتقييد أيدي الرجال بعدما أوقفوهم في صف واحد، وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعاً، وعددهم حوالى 60 رجلاً. ثم ألقوا بهم داخل حفرة واحدة. وبعد ذلك توجهوا للنساء وقاموا باغتصابهن. ثم نقلوا النساء إلى غابة مجاورة وقتلوهن. وقد رأيت امرأة مقتولة وبين ذراعيها طفلها المقتول هو الآخر».

بين الأمس واليوم

أقام الصهاينة على أراضي بلدة الصفصاف مستعمرة هشاحر (1949) التي سميت في ما بعد سفسوفاه، ثم شيدوا مستعمرة أخرى سموها بار يوحاي سنة (1979). في كتابه «كي لا ننسى» يروي وليد الخالدي أن قرية الصفصاف «كانت قائمة على تل غير مرتفع ومائل قليلاً نحو الجنوب الغربي، وكانت وصلة تربطها بالطريق العام المؤدي إلى صفد. وكانت تسمى سفسوفا (Safsofa) أيام الرومان. في سنة 1596، كانت صفصاف قرية في ناحية جيرة (لواء صفد)، وعدد سكانها 138 نسمة. وكانت تؤدي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون والفاكهة، بالإضافة إلى عناصر أخرى من الإنتاج كالماعز وخلايا النحل. في أواخر القرن التاسع عشر، ذكر الرحالة أن صفصاف كانت قرية صغيرة قائمة في سهل، وعدد سكانها 100 نسمة تقريباً. وأشاروا إلى أن بعض الحجارة المزخرفة التي كانت أجزاءً من بناء حكومي في ما مضى قد استُعمل في بناء مدخل المسجد؛ وربما دل ذلك على أن الموقع هُجر مدة من الزمن ثم أُهِّل ثانية. وكان سكانها يزرعون التين والزيتون والكرمة.

في الأزمنة الحديثة، كانت القرية تقع في الجهة الشرقية لطريق صفد- ترشيحا العام، وتمتد على محور شمالي شرقي- جنوبي غربي. وكان سكانها كلهم من المسلمين، لهم مسجد وسطها، وبضعة دكاكين، ومدرسة ابتدائية أُنشئت أيام الانتداب. وكانت الزراعة، التي اعتُبرت عماد اقتصاد القرية، بعلية ومروية بمياه بعض الينابيع. وكان شجر الزيتون وغيره من الأشجار المثمرة يُستنبت في الأراضي الواقعة شمالي القرية. في 1944/1945، كان ما مجموعه 2586 دونماً مخصصاً للحبوب، و769 دونماً مروياً أو مستخدماً للبساتين.

أما المؤرخ عارف العارف فيقول: «كانت صفصاف أولى القرى التي احتلّت في إطار عملية حيرام. كانت القرية في الأشهر الأولى من الحرب مقر قيادة فوج اليرموك الثاني- من أفواج جيش الإنقاذ العربي- الذي كان يقوده المقدم أديب الشيشكلي (أصبح رئيساً للجمهورية السورية فيما بعد)، وقد سقطت قبيل فجر يوم 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1948».

بلغ عدد سكان الصفصاف سنة النكبة 1056 نسمة. وفي أحصاء سنة 1998 وصل تعدادهم إلى 6483 نسمة. يسكن معظم أهالي الصفصاف في سوريا ولبنان، وبالتحديد في مخيمي اليرموك قرب دمشق وعين الحلوة بجوار مدينة صيدا جنوب لبنان.

* مدير موقع الصفصاف: www.safsaf.org