مجلة العودة

الشتات الفلسطيني: ضحية السلطة والانقسام

الشتات الفلسطيني: ضحية السلطة والانقسام
ساري عرابي/رام الله
 
 

كان مفيدًا لهذه المقالة أن تتزامن مع الاحتجاجات المتصاعدة في الضفة الغربية على غلاء المعيشة؛ وليس عجيبًا أن تكون هذه الاحتجاجات مدخلًا لموضوع هذه المقالة، فأساس الانقسام الفلسطيني هو مشروع السلطة الفلسطينية، والذي كان إشكاليًا ومحل انقسام منذ طرحه في صيغة النقاط العشر، قبل أن يتبلور في صيغة أوسلو القائمة على شطب الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، والتي جوهرها عودة اللاجئين إلى أرضهم التي سلبت منهم.حسنًا؛ مشروع السلطة في ذاته كان ينطوي على مغامرة بمصير قضية اللاجئين، ومن راجع النقاشات التي دارت في سبعينيات القرن الماضي يكتشف هذا الاستشراف لمصير المشروع، مع أن الحديث حينها كان منصبًا على النقاط العشر التي نصت على اتخاذ أرض السلطة الوطنية منصة لتحرير بقية فلسطين بالكفاح المسلح! أي كانت ثورية جدًا بالقياس إلى مشروع السلطة المصمم في أوسلو.

على أية حال؛مشروع السلطة من الناحية القانونية، وفق الاتفاقات الموقعة، صار أمرًا نهائيًا، بمعنى أنه لن يكون منصة لاستكمال التحرير، حتى لو تحول إلى دولة، ومن ناحية عملية، هو كذلك، حيث تختص السلطة الفلسطينية بشؤون الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 67، ولا تتمدد مسؤوليتها إلى بقية قضايا الفلسطينيين في الشتات، أو في فلسطين المحتلة عام 48، وقد تغولت السلطة على منظمة التحرير، حتى لم تعد المنظمة موجودة عمليًا، سوى في بعض المناسبات، ولأغراض سياسية تخدم السلطة، أكثر مما تفيد المنظمة المسؤولة عن كل قضايا الفلسطينيين.

وهذه نتيجة طبيعية، حينما ارتضت المنظمة لمشروعها أن يصغر إلى حجم مشروع السلطة، مما يعني أن تصبح المنظمة هي السلطة الفلسطينية، وأن يقتصر تحركها السياسي على أراضي السلطة الفلسطينية، وأن يتراجع حضور الشتات وقضية اللاجئين في أجندتها، بينما تنعدم قضية الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 48.

ثمة اعتبارات عملية، لا تقل أهمية عن الاعتبارات القانونية، وعن هذا التسلسل المنطقي لمآلات المنظمة بعد تبنيها لمشروع السلطة، حيث، ينصب كل جهد السلطة، ومواردها على تسيير أمورها داخل الأراضي التي تعمل فيها، ودفع رواتب موظفيها، وغير ذلك من الالتزامات الكبيرة في رعاية أكثر من 4مليون فلسطيني في الضفة والقطاع، على نحو لا تتحمله إلا الدول، بينما لا تتمتع السلطة بسيادة كاملة، ولا بصفة الدولة، وتبقى كامل قدرتها الاقتصادية والإدارية مرتبطة بالاحتلال، مما يجعلها أكثر انغماسًا في إدارة أراضي السلطة الفلسطينية.

رافق إقامة السلطة، عودة قيادات وكوادر «فتح»، وبعض قيادات فصائل منظمة التحرير، وصارت أراضي السلطة الفلسطينية، هي مقر قيادة الشعب الفلسطيني، واتخذ من موضوع العودة إلى فلسطين في سياق مشروع السلطة، سببًا في إطار المناكفات السياسية لمهاجمة القيادات الفلسطينية التي بقيت في الخارج بين أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات.

القوى الأخرى في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، وتحديدًا حركة «حماس»، قاطعت السلطة الفلسطينية، وهاجمتها طويلًا، ورفعت شعارات تقدم فيها القضايا الجوهرية، على قضايا اتفاق أوسلو، وبقيت الحركة مقاطعة للسلطة أكثر من عشر سنوات، وقد كان لهذه الحركة ميزة في تشكلها بالأساس داخل الضفة والقطاع، ولم تنشأ في الشتات وفي دول الطوق، كما بقية فصائل منظمة التحرير.

ومع مقاطعة «حماس»للسلطة في مرحلتها الأولى السابقة على انتخابات العام 2006، إلا أنها كانت تقدم أطروحة سياسة من شأنها التماهي مع مشروع السلطة بشكل أو بآخر، وهو الأمر الذي يعرِّض قضية اللاجئين ومصالح الفلسطينيين في الشتات للخطر، هذه الأطروحة؛ هي مبادرة إقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، ولم تكن صيغ هذه المبادرة ثابتة، فأحيانًا كان يضاف إليها عودة اللاجئين، وأحيانًا يسقط منها، إلا أن الثابت الوحيد فيها عدم الاعتراف بـ "إسرائيل"مما يجعلها أقرب إلى مشروع النقاط العشر، والخطير في هذه المبادرة أنها استباقية من جانب الطرف المستضعف صاحب الحق، بينما واجبه أن يقاوم حتى يجبر الاحتلال على تقديم مبادراته، فلا تكون أي مبادرة فلسطينية في سياق حلول سياسية تؤول إلى تسويات دائمة.

ولعل مثل هذه الأطروحة، حيث أن فكرة الدولة قبل التحرير الكامل حاضرة في فكر «حماس»، إلى جانب التغيرات التي شهدتها الساحة الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى، لصالح المقاومة على حساب السلطة، خاصة بعد تحرير قطاع غزة، دفعت «حماس» للمشاركة في الانتخابات التشريعية التي أفضت إلى فوزها، ومن ثم تشكيلها الحكومة، التي لم تستقر بسبب الرفض العملي من طرف «فتح» وفصائل منظمة التحرير في التسليم بنتيجة الانتخابات وانتقال "حماس" إلى مقدمة قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، وربما كان حاضرًا في دوافع «حماس» ألا تذهب تضحياتها –وبقية أبناء الشعب الفلسطيني- هدرًا حينما تبقى خارج السلطة، التي سوف تتخذ حتمًا من نتيجة صندوق الاقتراع سببًا لشرعنة مشروعها السياسي في حال قاطعته «حماس».

لم يُتح لـ «حماس»الانشغال برعاية أكثر من 4 مليون فلسطيني، بسبب الانقسام، لكن حصلت تغيرات عميقة على بنية الحركة، فلم تعد ترعى كوادرها لتعزيز صمودهم في مقاومتهم للاحتلال وحسب، ولا ترعى أبناء شعبها ضمن عمليات الدعم الاجتماعي كأي حركة مقاومة شعبية، فقط، بل تضخم فيها داخل قطاع غزة جهاز حكومي بيروقراطي، شكل عبئًا ثقيلًا على الحركة ومواردها، فضلًا عن ظروف إدارة القطاع ورعاية سكانه في ظل حصار مطبق، وحرب مستمرة، مما جعل مشروع الحكومة في غزة هو مشروع كل الحركة، ففشلها، أو إسقاطها، فشل لكل الحركة، خاصة مع تراجع الحركة في الضفة، وتشتت قيادتها في الخارج من بعد أحداث سورية، وهو ما يجعل اهتمام الحركة ببقية القضايا أقل مما يصرف لقطاع غزة.

وطالما أن الحركة قد رأت أصلًا الدخول في السلطة كأمر واقع يقرر في المصير الفلسطيني، فإنها ومهما كانت نواياها؛ قد صغرت نفسها على قدر هذا المشروع الصغير، وصارت ومنذ فوزها توائم خطابها السياسي لأجل حل الإشكالات مع حركة «فتح» وتشكيل حكومة وحدة وطنية على مقاس السلطة، ومنطقها القانوني، وحيزها الجغرافي، واشتراطاتها الإقليمية والدولية، ومن بعد الانقسام صارت المواءمات السياسية لإنجاز المصالحة أكثر ضيقًا، فإنها وإن شملت إعادة بناء منظمة التحرير مما قد يحيي قضية اللاجئين من جديد بما تستحقه كجوهر القضية الفلسطينية، فقد بقيت أكثر قضاياها الإشكالية إلحاحًا داخلية على مقاس السلطة، فلن يكون بمقدور «حماس»تجنب ضغوطات واشتراطات ومطالب وتصورات الشريك الآخر في السلطة الفلسطينية.

وفي الإطار الداخلي للحركة، وبعد اختلال التوازن لصالح غزة، مع غياب الضفة الغربية، وتشتت قيادة الخارج، ظهرت المطالب بنقل قيادة الحركة وأجهزتها بالكامل إلى داخل القطاع، الذي صار يُعبر عنه بالداخل! بل، وسُمعت أصوات قيادات وعناصر في القطاع تردد ذات خطاب السلطة الذي كانت تهاجم به القيادات المتبقية في الخارج، معطيًا الأفضلية للقيادة من الداخل، معتبرًا أن الوجود في الخارج لا يرقى إلى مستوى التضحيات في الداخل، وهو أمر لا يراعي الوجود الأصلي للشتات  بحكم اللجوء، ولا ضرورة وجود قيادة تنبثق عن هذا الشتات وتعبر عنه، وتنشء أجهزة لرعاية مصالحه، وتتبنى قضية عودته، ولا خطورة جعل كل مقدرات حركة مقاومة في مكان واحد داخل الوطن تحت سمع وبصر الاحتلال، ولا خطورة انحسار رؤية الحركة للوطن والقضية ككل بحكم الأمر الواقع لتكون على مقاس القطاع أو الـ 67 على أبعد تقدير،  ولا خطورة تماهي كامل جسم الحركة مع الحكومة في غزة، في استنساخ لتجربة حركة «فتح» التي هاجمتها «حماس» طويلًا!

والآن، ها هو مشروع السلطة لم ينجح في تحصيل أي قدر من الحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني، ولم تتحول السلطة الفلسطينية إلى دولة على الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس، بل ويا للمفارقة، لم تنجح حتى في توفير بنية اقتصادية قادرة ذاتيًا على إدارة شؤون أهل الضفة والقطاع، وتحرر السلطة من هيمنة المال السياسي الخارجي، كما بُشر به كثيرًا خاصة في السنوات الأخيرة!

أما «حماس»والتي لا يمكن مساواتها في موضوع السلطة، بمن أقام السلطة أصلًا وجعلها أمرًا واقعًا، فمع التأكيد على أن حكومتها في غزة لم تكن على حساب المقاومة، ومع وجود مبشرات برفع الحصار، فإن هذا لا يعني شيئًا لإعادة التوازن للمشروع الوطني، خاصىة مع مخاوف تحول غزة إلى كيان مستقل، وتمركز الحركة واهتمامها على القطاع.

 يعاد التوازن إلى المشروع الوطني، حينما تجري صياغة رؤية سياسية متسعة قدر اتساع الوطن والوجود الفلسطيني، تعطي الحكم في غزة قدره الذي لا يجور على بقية القضايا الوطنية، ومع إعادة النظر في كل المبادرات التي تقارب فكرة الدولة على الـ 67، وبما يجعل الحكم نموذجًا للإدارة الذاتية المتحررة من اشتراطات الاحتلال والقوى الدولية مع الحفاظ على الثوابت الأصيلة الأولى وفي مقدمتها عودة اللاجئين، ووجود بنية قيادية صلبة بين صفوفهم، والتمسك بالمقاومة فكرة وممارسة، في إطار رؤية جمعية توافقية داخل «حماس» أولًا، ثم على المستوى الوطني العام.