مجلة العودة

أي حماية للسكان المدنيين في ظل الاحتلال؟المدنيون في صبرا وشاتيلا نموذجاً

  أي حماية للسكان المدنيين في ظل الاحتلال؟

المدنيون في صبرا وشاتيلا نموذجاً

محمود الحنفي  / بيروت
 
 

في صيف 1982، احتلت "إسرائيل" جنوب لبنان ووصلت إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك بهدف إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، أو القضاء عليها، ووقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا. ومن منظور القانون الدولي الإنساني، "إسرائيل" هي دولة احتلال، وعليها مسؤوليات متعددة بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني، وخصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبروتوكولها الملحق الأول لعام 1977. وتُعَدّ "إسرائيل" دولة طرفاً في اتفاقية جنيف الرابعة، حيث وقّعت وصدّقت في وقت مبكر عليها. كذلك تُعَدّ أحكام القانون الدولي الإنساني آمرة، وإن لم توقِّعها الدول. إذا كانت "إسرائيل" تتهرب من مسؤولياتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبار أن هذه المناطق مدارة، أو مناطق متنازع عليها، أو أنها حصلت عليها بموجب حرب دفاعية، أو أنها أراض ذات وضع فريد، أو أنها تطبق الشق الإنساني من اتفاقية جنيف الرابعة، فإن الأمر بالنسبة إلى لبنان واضح جداً؛ فلبنان بلد عضو في الأمم المتحدة، وهو طرف في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1977، وهناك التزامات واضحة جداً، وأكثر فروع القانون الدولي العام تضمناً لنصوص قانونية هو القانون الدولي الإنساني.

وبموجب قواعد لاهاي للحرب البرية لعام 1907، وخاصة المادة الـ42، فإن الاحتلال الحربي هو الإقليم الذي يصبح واقعياً خاضعاً لسلطة الجيش المعتدي، ولا يمتد الاحتلال إلى الأقاليم التي تقوم فيها هذه السلطة على دعم نفوذها.

المادة الـ73 من البروتوكول الأول لعام 1977 تتناول الأشخاص الذين يتمتعون بالحماية، ومنهم اللاجئون والأشخاص الذين لا جنسية لهم (ينطبق هذا على الفلسطينيين وعلى حاملي بطاقات قيد الدرس المقيمين على الأراضي اللبنانية). كذلك فإن المواد 75-76-77 توسعت في نوعية الحماية   لتشمل حقوق النساء والأطفال بنحو خاص. وتُعَدّ أوضاع المخيمات في أوائل أيلول 1982 بيئة مدنيين تتسم بالهدوء والأمن، وهي ليست منطقة عسكرية، بل منطقة مدنية تسري عليها كاملاً القواعد المتعلقة بحماية المدنيين.

إذاً، من   الناحية القانونية "إسرائيل" مسؤولة تماماً عن حياة المدنيين الواقعين تحت نفوذها، ومسؤولة عن إعمال أحكام القانون الدولي الإنساني، وأي خرق خطير لروح القانون الدولي الإنساني وجوهره يعني ارتكاب جرائم حرب. وإسرائيل مسؤولة عن تصرفات كل الميليشيات التابعة لها، سواء بالنسبة إلى صناعة القرار الميداني، أو تنفيذه، أو إمداد المهاجمين بالسلاح وبكل الإمكانات اللوجستية المطلوبة. ووفق توثيق دقيق لمجريات الأحداث التي سبقت المجزرة المروعة، فإن مسؤولية إسرائيل حيال ذلك واضحة جداً. وثمة مسؤولية جنائية تطاول الميليشيات اللبنانية المتعاونة مع إسرائيل.

الضمانات الدولية والأميركية لحماية المدنيين

لم يقم المجتمع الدولي بواجبه تجاه المدنيين، حيث إن   الضمانات الدولية والأميركية   لحماية المدنيين لقاء خروج المقاتلين من صبرا وشاتيلا، والتي أدرجت في اتفاقية الهدنة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 12/8/1982 بعد مساعٍ أميركية حثيثة قادها فيليب حبيب، لم تكن كافية حتى في حدودها الدنيا. وقد بدأ الحديث عن الضمانات قبل شهرين من حدوث المجزرة المروعة، ولم ينته إلا قبيل خروج المقاتلين الفلسطينيين. تراجعت الضمانات الدولية إلى ضمانات أميركية، وحتى الضمانات الأميركية تلاشت تماماً في منتصف أيلول 1982؛ إذ ترك المجتمع الدولي السكان المدنيين في صبرا وشاتيلا فريسة سهلة لقوات الاحتلال الإسرائيلي والميليشيات اللبنانية المتعاونة معها.

بالنسبة إلى الضمانات للفلسطينيين المدنيين الباقين في لبنان تحت رعاية دولية ، فقد أدرج في مسودة الاتفاقية ثلاث مواد تناولت أوضاعهم بوضوح.

منها الفقرة السادسة التي قالت: "إن أمن المخيمات الفلسطينية ستوفره القوة الدولية مع ضمانة دولية. وهذا سوف يتم بالتنسيق مع م. ت. ف لتجنب ما كان قد جرى في المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني...".

كذلك قالت الفقرة التاسعة: "يجب أن يفهم جيداً أن حقوق الشعب الفلسطيني ستكون مصونة وأن القوات الدولية ستضمن هذه الحقوق المعترف بها من قبل الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة".

أما بالنسبة إلى الفقرة الحادية عشرة فقد أوردت أن ساعة الصفر هي حين يبلغنا قائد القوة الدولية باستعداد قواته لتنفيذ مهمتها ذات الشقين:

أولاً: حماية المخيمات الفلسطينية من أي اعتداء كان.

ثانياً: اتخاذ المواقع في مناطق فصل القوات وتأمين الطرقات، بما فيها طريق بيروت - دمشق الدولية.

تضمنت اتفاقية خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت معاني واضحة بشأن مسؤولية حكومة لبنان عن توفير الضمانات المناسبة لحماية المدنيين الفلسطينيين غير المقاتلين. كان الهم الأكبر بالنسبة إلى الحكومة اللبنانية بعد انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية اللبنانية هو خروج المقاتلين الفلسطينيين بأي ثمن وبأي طريقة، وقد صرح الرئيس الجميّل بذلك صراحة أمام التلفزيون الإسرائيلي.

نفذ الطرف الفلسطيني الشروط الواردة في الاتفاقية، وبدأ خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت إلى خارج لبنان بإشراف الأميركيين والفرنسيين، مطمئنين إلى سلامة خروج المقاتلين الفلسطينيين. توجس الفرنسيون من الضمانات المكتوبة لأمن المدنيين، كذلك فإن القوات الأميركية بعد أن تأكدت من خروج المقاتلين الفلسطينيين، غادرت لبنان قبل الأوان. وهكذا غادرت هذه القوات لبنان قبل أن تنفذ الضمانات لحماية المدنيين الفلسطينيين، وقد تركت هذه المغادرة أسئلة كبيرة عن ضعف المجتمع الدولي وحتى تواطئه مع الاحتلال الإسرائيلي، في مشهد إنساني يذكر بالمجزرة المروعة التي حصلت في سربرنيتشا في البوسنة والهرسك عام 1995 بعد أن تلقى السكان المدنيون هناك ضمانات دولية من أن القوات الصربية لن تمسهم بسوء، وقد حصد الصرب آنذاك ما يزيد على 8000 مدني.

مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين:

لم تراع القوات المهاجمة مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، بل فتكت على نحو فظيع بصفوف المدنيين العزل المختبئين في الملاجئ، الهاربين من القصف الإسرائيلي العنيف على أطراف المخيم. ولو توافرت الحماية المناسبة للمدنيين أو احترمت القوات المهاجمة هذا المبدأ، لجُنِّب المدنيون ويلات الموت والدمار.

تنص المادة الـ48 من البروتوكول الأول لسنة 1977 على ما يأتي: "تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية".

كذلك اشترطت المادة الـ51 عدم شن هجوم على المدنيين والأعيان المدنية إلا إذا شاركوا مباشرة في الهجوم، وحرمت أي هجوم لا يكون التمييز فيه بين المدنيين والمقاتلين.

وقد تحول مبدأ التمييز إلى   قاعدة اتفاقية بالإضافة إلى قوته العرفية.

يسري تطبيق هذا المبدأ على الجيوش النظامية والميليشيات التابعة لها.

لم تحترم قوات الاحتلال الإسرائيلية ولا الميليشيات اللبنانية الموالية لها هذا المبدأ. وقامت بعمليات قتل جماعي أودت بحياة ما يقارب من 3500 مدني فلسطيني ولبناني خلال ساعات معدودة، في مشهد إنساني قل نظيره فظاعة.

إن مبدأ التمييز يستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية في القانون الدولي الإنساني: الضرورات العسكرية، ومبدأ الإنسانية وأخلاق الفرسان. فالضرورات العسكرية تتطلب استعمال القوة بالقدر اللازم لإخضاع العدو جزئياً أو كلياً، وبأقل الخسائر في الأرواح والأموال. ويتطلب مبدأ الإنسانية من القادة العسكريين أن يزنوا المعاناة التي قد تترتب على هجومهم العسكري. أما أخلاق الفرسان فهي تحرم الاعتداء على غير المقاتلين والخيانة والغدر.

إن الذريعة التي ساقتها إسرائيل من خلال منظومة إعلامية ممنهجة بأن في صبرا وشاتيلا ألفي مقاتل فلسطيني، أو أن الفلسطينيين هم الذين اغتالوا بشير جميل، لاقت صداها لدى الميليشيات المتعاونة مع الاحتلال، التي كانت متعطشة لدماء المدنيين، ولو كان الألفي مقاتل موجودين فعلاً في صبرا وشاتيلا بكامل سلاحهم وعتادهم كما كانت تروج إسرائيل، لما تجرأ هؤلاء على ارتكاب جرائم الحرب بحق المدنيين العزل.

إن عدم توفير قوات الاحتلال حماية المدنيين في صبرا وشاتيلا، وهي التي كانت قادرة على توفيرها لو أرادت، وما سبب ذلك من قتل آلاف المدنيين بدم بارد، يمثّل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية جنيف الرابعة، وهو يمثّل جريمة حرب موصوفة تعاقب عليها القوانين الدولية ذات الصلة. إن ملاحقة المجرمين على جرائمهم مطلب إنساني ضروري وملحّ، وهي مهمة شاقة وصعبة، لكنها ليست مستحيلة.