مجلة العودة

طريق النكبة من القدس إلى بيروت كما وصفها الراحل واصف جوهرية 1897 -1973

طريق النكبة من القدس إلى بيروت كما وصفها الراحل واصف جوهرية 1897 -1973

خليل الصمادي - دمشق

واصف جوهرية إنسان موهوب جمع الفن من أطرافه؛ فقد كان موسيقياً مشهوراً وعازفاً مبدعاً وباحثاً ومؤرخاً ترك لنا سفراً من جزأين: الأول باسم "القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية"، والثاني باسم "القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية" في نحو 650 صفحة من الحجم الكبير، وهو موثَّق بالصور والوثائق النادرة، نشرته مؤسسسة الدرلسات الفلسطينية في بيروت عام 2005؛ إذ كان المؤلف مولعاً بالآثار القديمة؛ فقد أنشأ داراً في القدس سمّاها الدار الجوهرية، وهي عبارة عن متحف فني ضمّ الصور والتحف النادرة من الخزف والأواني والقيشاني والآلات الموسيقية وغيرها.

وتُعَدّ هذه المذكرات بحقّ صورةً حقيقية للحياة اليومية في القدس الشريف وما جاورها، امتدت في حقبة تاريخية مهمّة شهدت البلاد فيها تطورات عظيمة من حرب كونية، أولى وثانية شهدتا زوال الحكم العثماني وبداية الانتداب البريطاني والاستيطان اليهودي والمقاومة الفلسطينية والنكبة وآثارها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، ووصف في الجزء الثاني هجرته من القدس إلى بيروت.

يعرض المؤلف في الجزء الأول وضع القدس منذ أن وعيها في عام 1904 إبّان الحكم العثماني الذي كان برغم مسيحيته معجباً هو ووالده وعائلته بهذا الحكم الذي لم يفرّق المواطنين دينياً أو عرقياً. ويُعَدّ الجزء الأول سجلاً حافلاً لوضع القدس الاجتماعي والمعيشي، يروي أدقّ التفاصيل ويصف الأعراس والأفراح والأغاني الشعبية والعادات والتقاليد والمخترعات الحديثة وغيرها. أما في الجزء الثاني، فيعرض وضع القدس في أيام الانتداب البريطاني وما لحقته هذه الفترة من استعار الهجمة الصهيونية على البلاد وما خلفته من دمار وإرهاب أجبر كثيراً من ساكنيها للنزوح عنها كما يرويها لنا صاحب المذكرات.

حالة البلاد بعد انتهاء الحرب العظمى الثانية بالقدس

يحلل واصف جوهرية حالة البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، ويُظهر كيف استغل اليهود البريطانيين أثناء الحرب، فدخلوا في صفوف الجيش وتمتعوا بمنشآته وحركاته الحربية، فربحوا أموالاً طائلة، ولم يزاحمهم أحد في ذلك. وبعد الحرب ازداد استغلالهم للوضع الراهن فبدأوا يطالبون الإنكليز بالعمل الجدي لسرعة تنفيذ هدفهم، وهو الوطن القومي، فزادوا الهجرة، وزادوا التسلح، وباشروا بعمل الإجرام والحوادث المثيرة ضد حكومة الانتداب بصورة يعجز القلم عن وصفها. ويبين أنّ المجازر اليهودية العارمة ارتكبها أفراد العصابتين السريتين الأرغون وشتيرن بعد مقتل اللورد موبين البريطاني في مصر. ومن خلال نقده لليهود، يبين لنا واصف جوهرية المتأثر بالثقافة الإسلامية السطحية؛ إذ يقول فيهم: حتى قلنا فيهم سبحان الذي قال: {اتق شر من أحسنت إليه} صدق الله العظيم. فكما هو معلوم، إن القول المذكور حكمة وليس قرآناً.

حادث إنذار اليهود بنسف دائرة الحاكم

يروي واصف حادثة إنذار اليهود للموظفين بإخلاء مبنى عمارة الروس المعروفة باسم "المسكوبية" نسبة إلى موسكو، التي كانت مجمعاً لأكثر دوائر الحكومة، وذلك عام 1946م؛ فقد كان يعمل واصف آنذاك مديراً لدائرة إيرادات مدينة القدس، وفي قصة طريفة ومثيرة يصف حال هيجان الناس وهروبهم من المبنى وتلاقيهم مع موظفين آخرين من دوائر حكومية أخرى هدفها بثّ الرعب والفزع في مدينة القدس، وشلّ الحركة التجارية فيها. ولعل هذه العملية هي بداية عمليات التفجير والتفخيخ التي قامت بها العصابات اليهودية المسلحة لبثّ الرعب والفوضى في المدينة المقدسة.

نسف فندق الملك داوود

يصف لنا المؤلف مشهد نسف العصابات اليهودية للفندق عام 1946 وصفاً دقيقاً، بالرغم من أن أغلب أجنحة الفندق يشغلها موظفون حكوميون كبار بريطانيون وعرب، وتبين أن العصابات اليهودية بالرغم من الإجراءات الأمنية المشددة التي يخضع لها الفندق قاموا بإدخال الألغام بواسطة سطولة الحليب التي كانت عادة تدخل في كل صباح من المدخل الشمالي للفندق المؤدي إلى المطبخ؛ إذ حجزوا العمال العرب في الطابق السفلي ولغّموا زوايا الفندق وفجروه مع عماله ورواده. ويذكر الكاتب أنه لم يكن بين الضحايا يهودي واحد؛ لأنّ العصابات اليهودية أمرت موظفيها بالتغيب عن العمل.

يتابع واصف جوهرية وصف مدينة القدس بعد نسف العصابات اليهودية لفندق الملك داوود وحالة سكانها، حيث دبّ الفزع في الأحياء المجاورة للفندق، ويصف كذلك قرار التقسيم الغادر عام 1947 الذي سمعه من المذياع، ويصف استنكار العرب لهذا التقسيم الجائر الذي وقع عليهم كالصاعقة. أما اليهود، فقد أقامواالأفراح والليالي الملاح يرقصون ويهلّلون فرحاً طوال الليل، ويشربون ويسكرون مع الجيش البريطاني في شوارع المدن الرئيسية في فلسطين.

يتابع المؤلف مذكراته في مدينة القدس، ويذكر الأيام العصيبة التي تلت قرار التقسيم، ويذكر مسلسل الجرائم التي استمرت بها العصابات اليهودية من تفجير وقتل وترويع، عاشت وقتها القدس على هدير التفجيرات اليومية من ألغام وهاون، ونسف عمارات مشهورة في أغلب أحياء القدس، ويرصد أيضاً ردّ فعل الفلسطينيين وما قاموا به من عمليات، ردّاً على الاعتداءات اليهودية من نسف بعض العمارات في شارع بن يهودا والوكالة اليهودية الذي قام به البطل أنطون داوود من بيت لحم، بصفته سائقَ قنصل أميركا في القدس، وذلك بالتنسيق مع القائد عبد القادر الحسيني.

يتابع واصف في مذكراته ما جرى في القدس وحولها من آثار حرب 1948، ويصف بعض البطولات الفردية والعامة ضد المحتلين وبعض المعارك الشهيرة كمعركة كفارعصيون والقسطل ومجزرة دير ياسين وغيرها.

رحلة النكبة من القدس إلى بيروت

يذكر واصف الأسباب التي دعته إلى ترك بيته في القدس والنزوح عنه، ومنها موقعه الخطر؛ إذ يقع بالقرب من فندق الملك داوود وتعرضه للقناصة من اليهود يومياً من حيّ "المونتيفيوري"، وقد غادر القدس نهائياً إلى دير قرنطل في منطقة أريحا، وذلك يوم 18 نيسان 1948، وكان هذا الدير لبعض النساك من الطائفة الأرثوذكسية. ويصف لنا جمال الدير والبساتين المحيطة به، ثم يصف لنا هجرته الثانية بعد مئة وتسعين يوماً إلى أريحا؛ إذ نزل في بيت سعود عريقات المقابل لقصر موسى بك العلمي، ويصف لنا حال النازحين في أريحا التي كانت تغصّ باللاجئين ويصفها كأنها يوم القيامة. ولم ينسَ واصف العمل الوطني؛ إذ أصبح عضواً في اللجنة الاستشارية للاجئين في أريحا، التي من مهماتها تنظيم شؤون اللاجئين وتوزيع المساعدات عليهم.

الرحلة الأخيرة إلى بيروت

ضاق واصف ذرعاً بالحياة في أريحا، فقرر الرحيل حيث بعض أقاربه في بيروت، فغادر أريحا مع زوجته فكتوريا إلى عمّان، وهناك زار المفوضية البريطانية وقبض راتبه التقاعدي عن أربعة أشهر، وبات ليله هناك، ومنها توجه إلى بيروت، فعرّج كما يذكر على الرصيفة، الزرقاء، المفرق، البويضة، الرمثا، درعا، داعل، أبطع، الشيخ مسكين، غباغب، خان دنون، الكسوة، القدم، حيّ الميدان الفوقاني، وأخيراً دمشق، وكانت الساعة الواحدة تماماً. ويضيف: غيّرنا السيارة وتركنا دمشق في الساعة الواحدة والنصف، فعرجنا على: الربوة، دمر، الهامة، الحدود اللبنانية وعملنا معاملة جواز السفر في مركز أمن وادي الحرير، وشاهدنا اللاجئين في عنجر ثم بر إلياس، وشتورة، المريجات، وظهر البيدر، ثم رأينا حمانا في الوادي عن يمين الطريق، فدخلنا صوفر وبحمدون وعاليه ورأينا، عاريّة ثم الكحالة، فالجمهور، فالحازمية ، ففرن الشباك، فالحدث. فعرجنا على بيروت الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، وأخيراً اهتدينا إلى بيت ابنتي يسرى. ويذكر أن الرحلة إلى بيروت لم تكن بموجب جواز السفر الفلسطيني لحكومة الانتداب، بل بموجب وثيقة صادرة عن الحاكم العسكري لأريحا، يسمح لناقله بالسفر إلى سوريا والأردن ولبنان ومصر.

هذه هي رحلة البؤس كما ذكرها واصف جوهرية، الفنان والموسيقي والمبدع والموظف في حكومة الانتداب، يصف فيها ما ناله الشعب الفلسطيني من الأعداء والأصدقاء من ذلٍّ وهوان، وظل المؤلف مقيماً في بيروت إلى أن وافاه الأجل عام 1973 تاركاً مذكراته التي تُعَدّ بحق سجلاً يومياً لمعاناة الفلسطينيين خلال القرن الماضي.♦