مجلة العودة

أم صالح... عندما يروي الأجداد قصة النكبة للأحفاد

أم صالح... عندما يروي الأجداد قصة النكبة للأحفاد
أحمد سعد الدين - عمان

في بيت تسكنه المحبة والأمل، على ضفاف شرقي النهر، في أرض كُتب أن تكون المقام والمسكن، تعيش عائلة الحاجة بهية عويس، أم صالح، في الأردن، ترقب حلم العودة من بعيد، بعد أن مر ما يتجاوز 64 عاماً على "الهجرة" والاستقرار في بلاد اللجوء والشتات.
الحاجة أم صالح، المحافظة على زيّها الفلسطيني التقليدي، توحي للنظر أنها ما زالت على العهد مع وطنها، الذي لم تذكر منه الكثير، لكنها تعرف عنه الكثير الكثير من حكايات أبيها ودموع أمها.
بهية اختارت أن تعيش بين مرارة فراق الوطن وأكناف حنانها وعطفها على أحفادها الذين بلغوا اثني عشر حفيداً، مع بلوغها عمر الثانية والسبعين من العمر.
تحضن حفيدها الأصغر محمداً، وتقول له في أُذنه: "لا تنسى يا ستي أرضنا بعد موتي. تذكر دائماً أنك أنت وأبوك وجدك وجد جدك كنتوا من بلد أسمها قرية البرج، في مدينة الرملة. ولا تنساني بيوم العودة إلى الوطن، بلغ فلسطين سلامي وأخبرها إنّ ستي انتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر حتى تشاهدك، بس يا خسارة ما لحقت تفرح بيوم العودة".
 تكمل رسالتها والدموع تسيل على خديها: "يا ستي قول لأولادك غداً انه مهما طال ليل الغربة والفراق أكيد راح نعود ذات يوم على بلادنا".
أم صالح التي لم تعرف يوماً أقسى من يوم الفراق، تعيش اليوم بين سبعة أولاد تركهم لها زوجها لتتكئ عليهم في عجزها وغربتها عن الوطن. تعرف أن حلو عيشها وهناءه، الذي كان مع أبو صالح لم يكتملا يوماً؛ لأنها كانت دائماً متيقنة أنهُ كان يحلم بأن يموت في أرض فلسطين، و"إن لم يكن هذا فسيبقى حزيناً في قبره".
البيت الذي اكتمل دفئه بعد زواجها بالسيد محمد عويس ابن العم في بلاد الشتات، زُيّن بالأولاد والبنات والأحفاد الذين يملأون باحة المنزل المتواضع الذي استملكته العائلة بعد أن غادرت المخيم الذي احتضنهم طوال ثلاثين عاماً منذ ذلك اليوم المشهود.
حياة أشبه بذاك الطير المهاجر الذي حاول أن يرسم لنفسه بيتاً وجواً ومناخاً يعيش فيه، بعد أن ترك مسقط الرأس، لتحضنه بعد رحلة البؤس أرض الله الرحبة. وكذلك حال الحاجة بهية، التي حاولت أن تكون خير سند وعون لأهلها وزوجها وعائلتها من يوم فرق الأرض والبيت والسماء.
غياب أبو صالح الشريك والزوج والأخ والحبيب كما سمته أم صالح قبل قرابة العامين كان له جل الأثر في نفسها، بعد أن كانت أحلام الزوجين الوحدة الموحدة في ذلك اليوم، "يوم الرجعة إلى البلاد".
لكن صبر أم صالح وجلدتها على الحياة حتمت عليها أن تكمل الرسالة إلى النهاية، وأن تحمل الحلم والأمل لتنقله إلى أبنائها وأحفادها التي ربتهم على حب الوطن والحفاظ على العهد والوعد في صدورهم أبداً ما بقوا.
 ذكريات البلاد
تعود بنا أم صالح إلى يوم ما كانت تلعب في أرض البستان الذي كان يملكه والدها وأعمامها الذين ورثوه عن جدها في قرية البرج بالرملة الفلسطينية. أم صالح التي كانت حينها الطفلة بهية، والتي لا تتجاوز من العمر 12 سنة، تروي لنا الصور الراسخة في ذاكرتها عن البلاد، حيث تقول: "والدي كان من وجهاء القرية، وخاصة أن عائلتنا كانت من كبريات العائلات في البرج، ومن أكثرها ثراءً، وخاصة أنّ والدي وأعمامي اشتهروا بالمهنة التي ورثوها عن جدي، وهي التجارة بالبيض والأسماك من المدن الساحلية في فلسطين، فضلاً عن الزراعة التي كان يمارسها عمي عوض في أرض العائلة".
ضحكت الحاجة بهية كانت ظاهرة على وجهها عندما بدأت تسترسل بذكرياتها في فلسطين، حيث تكمل: "عشت أجمل أيام حياتي في الرملة، وأنا أقول الحمد لله حيث إنه مع كل الضيق والشح الذي عاشوه أهل المدن الفلسطينية أيام الانتداب البريطاني، وسياسة التجويع التي اتبعتها بريطانيا مع أهالي فلسطين، إلا أننا كنا من أصحاب الأملاك في قريتنا، التي لم تتجاوز تعداد سكانها 400 فرد قبيل نكبة 48".
 يوم الرحيل وأوجاعه
حكاية ليست بجديدة روتها لنا الحاجّة أم صالح. ربما هي حكاية عايَشها آلاف العائلات الفلسطينية في نكبة 1948، لكنها تختلف بتفاصيل الآلام من ذكرى لأخرى، وتختلف بالأحاسيس التي ارتحلت مع ذكريات الماضي، وترسخت في قلب الحاضر وسكنت فيه إلى ما شاء الله أن تعيش تلك النفوس المظلومة.
بدأت الحاجة بهية تحدق وتلمح دموعها التي غدرتها وانهالت على وجنتيها عندما وصلت بها الكلمات الى يوم "ما جاء لأهل القرية الخبر المشؤوم، الذي يقول إن العصابات اليهودية بدأت في تمشيط القرى المجاورة وقتل الناس وذبحهم والاستيلاء على أملاكهم من دون أي إنذار أو وعيد".
تكمل أم صالح كلماتها بذلك الصوت المبلل بالدموع: "كان على أهل القرية أن يقرروا سريعاً، إما أن نبقى ونلقى مصير ما لقيته بعض القرى والمدن الفلسطينية من ذبح وتنكيل، أو النجاة بالنفس والأهل والولد، وترك القرية واللجوء إلى أقرب نقطة يكون فيها أنُاس مسلحون أو فدائية لحمايتهم من اليهود".
خياران لم يكن الآخر أقل مرارة من الثاني، ولم يكن أمام العائلة إلا قرار اللجوء إلى إحدى القرى المجاورة، وخاصة بعدما وصل نبأ مذبحة دير ياسين، و"سرعان ما حملنا القليل من الأمتعة، وتركنا خلفنا أغلب ما نملك، وذلك لأننا كنا متيقنين من أن العودة قريبة ولن تتجاوز الأيام المعدودة أو الأسابيع إلى أن تهدأ الأوضاع ويعود الاستقرار إلى القرى والبلدات الفلسطينية".
"بالفعل وما كان لأبي إلا أن أقفل البيت، وحزم ما حزم على الحمار، ورحنا نسير ليلاً باتجاه الشرق حتى وصلنا إلى قرية نوبا غربيّ الخليل. لكن توقفنا لم يكن طويلاً، وذلك لأن عمي الكبير أصرّ على أن نستمر في المسير مع أهالي قريتنا حتى عبور النهر، بحجة أن العصابات ستنال من كل منطقة في فلسطين".
"لم يكن بوسعنا فعل شيء إلا ترك البيت والنجاة بالنفس، لم تتعدّ حمولتنا إلا الملابس التي تغطينا وقليل من الطعام، تركنا الغالي والنفيس في بيتنا، وذلك لأن والدي قال إن غيبتنا ليست إلا أياماً قليلة، (....) لكن الأسف على البلاد، وليس على المال".
"سرنا ما يقارب يومين وثلاث ليال، حتى وصلنا إلى بلدة الشونة الجنوبية. كنا أشبه بالأجساد الميتة من شدة التعب والألم، حيث كان الطعام والشراب لا يتجاوزان لقمات قليلة لكل فرد منا، حتى كادت تجف عروقنا ويتثنى علينا الجسد، وأصبح الشخص منا لا يكاد يقوى على النهوض من مكانه".
تخبرنا أم صالح بأن الخبر الأبرز الذي كان يتناقله جميع الناس في القرى الفلسطينية التي مروا بها أن جميع البلدات والقرى الفلسطينية كانت مهددة بالذبح من قبل العصابات الصهيونية، الأمر الذي أثار الذعر في قلوب النساء والأطفال، ما جعلهم يسرعون في خطوات المسير والاستمرار به حتى الخروج من فلسطين التي سلّمت إلى الجيش اليهودي بعد أن ترك الجيش البريطاني الأرض.
الألم، الجوع والعطش جعلتهم منهكين جسدياً، لكن الألم الفراق والحسرة على الأرض والبيت. تتنهد الحاجة بهية بعمق، لتلفظ كلمة "الصبر الصبر الذي عايشته ومرت به جميع النساء الفلسطينيات اللاتي ارتحلن عن البلاد، أتحدى كل نساء الأرض أن تمر على القليل منه فحسب".
كلمة الحاجة أم صالح لم تتوقف، كانت تبحث عن شخصٍ تلقي عليه متاعب الدهر، وتسترجع معه ذكريات أيام فلسطين وأيام الغربة. تقول الحاجة: "إن ما وجدناه في بلدة الشونة من ترحيب من أهالي البلدة الفقيرة، كان رائعاً، لكن المقام لم يدم طويلاً، حيث أجبرتنا الحكومة الأردنية على الرحيل إلى أحد المخيمات في العاصمة عمّان، المخصصة لإيواء اللاجئين الفلسطينيين"، وذلك من أجل أن يتسنى لوكالة غوث اللاجئين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة تقديم العون من خيم وأكل وشرب لهم.
 استقرار الجسد وشتات النفس
وكان يوم الإقامة الطويل يوم حلت عائلة عويس مع معظم عائلات قرية البرج قضاء الرملة في مخيم الوحدات في وسط عمّان. ليكن استقراراً للأجساد وبداية الشتات للنفوس في بعدها عن روحها.
استقرار كُلل بزواج بهية بابن عمها محمد بعد ثلاث سنوات من إقامة العائلة في المخيم، حيث بدأت تلك الحياة تضخ الدماء في شرايين المخيم الذي أخذ يشغل كل إنسان وكل عائلة بمتاعب الحياة وأفراحها العابرة وأحزانها القائمة.
اكتمل مشوار حاجتنا أم صالح محفوفاً بالكدح وتعب، حيث كانت نعم المربية لسبعة أبناء، وخير قائدة مع زوجها في خيمتهم. عملها لم يقتصر يوماً على تربية الأبناء فقط كما تحدثنا، لا بل كانت تعمل في مجال خياطة ثوب فلسطين الخالد، وذلك حتى تحقق لأبنائها طيب الحياة في بلدهم الثاني الأردن.
مكوث العائلة بعد نموها وتكاثرها حدّ من بقاء العائلة في المخيم أكثر من 30 سنة، وكانت المنزلة الأخيرة لهم في محافظة الزرقاء التي اختارها صالح لقربها من مكان العمل الذي جمعه هو وإخوته هناك.
أم صالح رأت أن مرور الأيام وتوارث الأجيال وزيادة تكاليف الحياة كانت لها السبيل في تسكين الجرح النازف من فلسطين، لكن حلم العودة بات يتوارثه أبناؤنا من جيل إلى آخر، ومن أرض إلى جارتها حتى تحرير فلسطين. ♦