مجلة العودة

مخيم الدهيشة.. في الأفق وميض أمل رغم المعاناة

مخيم الدهيشة.. في الأفق وميض أمل رغم المعاناة

«العودة»/ الضفة الغربية

إنها حياتنا، بل إنها مأساتنا، تنطق بها آهاتنا نتحدث فيها كل يوم، تروي قصة شتاتنا، وتظهر معاناتنا الأولى التى حددنا بدايتها ولسنا نرى لها نهاية، حين تذكر المخيم تتزاحم في مخيلتك الصور، فمخيماتنا ظلمات بعضها فوق بعض، ومع كل ظلمة نبضة إرادة، تكسر الجمود وتُبقي على حياة القلوب رغم موت يعبق بالأجواء، وإمكانات بالكاد تسد الرمق، وأسر تُصدر لها جرعات البقاء عبر شاحنات الأونروا علّ العالم يفلت من خطاياهم.

لكن كما يقال: كيف يُنصر القمح في محكمة قضاتها الدجاج؟ مخيمنا اليوم لوحة تزدهي بألوان عديدة رسمتها ريشة المعاناة بألم وأمل فخرجت باكية ضاحكة وحملت اسم «مخيم الدهيشة».

النشأة والتسمية

أُقيم المخيم عام 1949، ويقع جنوب مدينة بيت لحم، ويبتعد عنها حوالى 3 كم، على يسار الطريق الرئيس من بيت لحم إلى الخليل، بينما يبتعد عن مدينة القدس 23 كم، ويرتفع المخيم 800م عن سطح البحر. المخيم الذي تبلغ مساحته 340 دونماً، يضمّ نحو 12000 لاجئ يشكلون 1780 عائلة تقريباً، جاؤوا مما يقارب 47 قرية فلسطينية جلّها من القرى المحيطة بمدينة القدس.

أما عن التسمية فقد تعددت الروايات، لكن الأغلبية ترجح أن التسمية تعود إلى الجيش المصري الذي دخل فلسطين أيامها وحين وصلوا منطقة المخيم وكانت منطقة كثيرة الأشجار وأشبه بالغابة رددوا باللهجة المصرية تعبير «ده هيشة» بمعنى هذه منطقة كثيرة الأشجار ودرجت العبارة حتى سُمي المخيم بالدهيشة.

أما القرى التي جاء منها أهل المخيم فكان أشهرها قرية زكريا، وقرية رأس أبو عمار، وقرية بيت أعطاب، وديربان ومعظمها من قرى القدس. وفي سؤالنا لأحد سكان المخيم عن سبب اختياره لمخيم الدهيشة وقد هُجّر من القدس قال: «لم نكن نريد الابتعاد عن القرية كثيراً، إذ إننا كنا نظن أن العودة قريبة». وتعتبر عائلة زكريا من أشهر العائلات في المخيم وأكثرها عدداً.

العلاقات خلاف علم الاجتماع

الحياة سلسلة من العلاقات الإنسانية المتشابكة، ولكنها في المخيم سلسلة من العلاقات الإنسانية المتداخلة المشتركة؛ فالباب بالباب، والنافذة تقابلها النافذة. في حديثنا مع السيد ناجي عودة، رئيس لجنة الخدمات في المخيم وصف العلاقة بين أهالي المخيم قائلاً: «استطاع أبناء المخيم من خلال علاقة المودة التي يحيونها أن يحطموا قوانين علم الاجتماع التي تقول إن الاكتظاظ السكاني وكثرة التجمعات تؤديان إلى زيادة المشاكل، وشيوع الانحراف والجريمة، فأهل المخيم تربطهم أكثر من 60 عاماً من الحياة المشتركة تغلبوا فيها على كل المصاعب وتخلقوا بضوابط تعمل فيهم ما لا يعمله القانون الغائب».

وفي سؤالنا عن علاقتهم بما حولهم من القرى والمخيمات أجاب: «تربطنا علاقة حميمة بالقرى المجاورة، وهم يلجأون إلينا في حل بعض المشكلات؛ لما عرفوه عن أبناء المخيم من إقامة الحجة وقوة المنطق، فنحن مرجعية للقرى والمخيمات الأخرى».

أعمال محدودة

تُعتبر الأسر الفلسطينية داخل المخيمات من الأسر الأكثر كفاحاً في واقعنا الفلسطيني؛ نتيجة سوء الظروف التي يحيونها، فالجميع في المخيم كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، يعملون ليقتاتوا، وبالكاد يقتاتون.

عمل أبناء المخيم مع بداية الهجرة بالأعمال الحرفية البسيطة، من تصنيع خشب الزيتون والخياطة والتطريز، إذ كان التعليم محدوداً وقتها، أما بعد انتشار العلم في المخيمات فقد توجه معظم أبناء المخيم إلى التدريس، حيث لم يكن أمامهم سوى الالتحاق بدار المعلمين التابعة لوكالة الغوث ليتخرجوا منها على ذات الطراز. ويذكر أن مخيم الدهيشة يعاني في هذه الفترة من بطالة تزيد نسبتها على 70% سببها الأساسي هو الاحتلال.

أما ممارسات الاحتلال الظالمة فقد بدأت مع بدايته، فقد أقام الجيش الإسرائيلي سياجاً أمنياً حول المخيم وباباً دواراً معدنياً عند المدخل الرئيسي ظل في مكانه لأكثر من ثماني سنوات بغية منع رمي الحجارة على السيارات الإسرائيلية المارة على طريق القدس - الخليل الرئيسي حيث كانت تُغلق البوابة ويُمنع السكان من مغادرة المخيم. وبقي الحال كذلك حتى عام 1995 حيث خضع المخيم لسيطرة السلطة الفلسطينية وأزيل السياج. وقد كان لموقع المخيم دور كبير في بقائه كنقطة توتر دائمة، إذ إنه يقع على شارع رئيسي يصل بين معظم المستوطنات في الجنوب، وكان أبناء المخيم يُمطرون الجيبات العسكرية وسيارات المستوطنين الصهاينة بالحجارة والزجاجات الحارقة كلما مروا من أمام المخيم، وما زالت البوابة التي أقامها الاحتلال موجودة إلى الآن شاهداً على ظلم الاحتلال والذي أزيل هو السياج فقط. وسياسة الاحتلال تجاه المخيم وأبنائه ما زالت ماضية، إذ إن عمليات الاعتقال تطال العشرات من أبناء المخيم وبناته بشكل متكرر، وما انفك المخيم يقدم الشهيد تلو الشهيد إلى أن تعدى عددهم 35 شهيداً حتى الآن.

الأونروا: خدمات قليلة

شاحنات محملة بالمواد التموينية تمرّ من أمام عدسات الكاميرات، وكأنما العدسة تكررها فنتخيل أنها بالآلاف، ويحاسبنا العالم على صورة تخدع الناظرين، إذ إن الخدمات تقلصت شيئاً فشيئا حتى اختفت وما زال هناك من يصيح «تحيا وكالة الغوث».

حين سألت مجلة «العودة» السيد ناجي عودة عن خدمات وكالة الغوث أطلق تنهيدة وأجاب: «حسب الأجندة الخاصة بالأمم المتحدة المفروض أن وكالة الغوث تتكفل بمتطلبات كل اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أماكن انتشارهم، وكان هذا حالها حتى عام 1982، إلا أنها بدأت بعدها بتقليص خدماتها حتى ضمرت وانتهت إلاّ من أمور بسيطة تُبقي للوكالة ماء وجهها أمام العالم، كالتعليم الأساسي والإعدادي ولكن في ظروف سيئة جداً، إذ إن الشعبة الصفية تضم ما يزيد على 50 طالباً، ثم ينتقل الطالب إلى القرى المجاورة أو إلى المدينة لإتمام المرحلة الثانوية».

أما سبب التراجع في الخدمات التي تقدمها الوكالة فقد عزاه السيد عودة إلى السياسة الدولية المساندة للاحتلال وأوضح بقوله: «لقد قلصت الوكالة خدماتها من باب الاستهداف السياسي الذي يرمي إلى كسر عزيمة اللاجئ الفلسطيني، والنيل من إرادته، وإلهائه عن حقه في العودة إلى أرضه، حيث أصبح اللاجئ اليوم يعتمد على جهده وعمله في كسب قوت يومه».

مؤسسات تتقدم على الأونروا

رغم سوء الخدمات التي تقدمها الأونروا للمخيم، إلا أن هناك العديد من المؤسسات الأخرى أخذت على عاتقها حمل شيء من الأعباء، فقد استطاع أهل المخيم ومن خلال لجنة الخدمات أن ينفذوا العديد من المشاريع الخدماتية المميزة، ومنها مشروع «مركز الفينيق» الذي يضم مسرحاً وقاعة أعراس وقاعة مؤتمرات ومطبخاً ومكتبة ومضافة وحديقة عامة. إضافة إلى مستشفى شمس، ومستوصف المخيم، وجسر المشاة، ومركز شباب الدهيشة، ولجنة تأهيل المعاقين، ومركز الهدى الإسلامي، ومجموعة رياض الأطفال، ومركز أصدقاء مرضى السرطان، ومؤسسة إبداع. وتحاول هذه المؤسسات إدخال كل الخدمات إلى المخيم، وتلبية احتياجاته وهي إنجازات تسجل للمجتمع المحلي داخل المخيم وشعارهم في ذلك يقول: «لا شيء يعطى للاجئ كل شيء يؤخذ» أي إن الحقوق تنتزع انتزاعاً.

وحين سألنا عن دور وكالة الغوث في هذه المشاريع، أجاب السيد مدير لجنة الخدمات قائلاً: «وكالة الغوث تتكفل فقط بمعالجة الاكتئاب، إذ إنها لا تمول إلا برنامج الدعم النفسي وكأننا لا نموت من الجوع والرصاص بل نموت من الاكتئاب».

وفي الأفق وميض أمل

رغم أنهم يحيون حياة لا تماثلها حياة، يفتقرون فيها إلى كل شيء، إلاّ أن إرادةً تسكن دواخلهم ما زالت تحرّك فيهم رغبة في البقاء لا توجد عند كثير من شعوب الأرض، ليبقى اللاجئ الفلسطيني رقماً صعباً في معادلة الصراع فعودته أساس الحل وإن تعددت الحلول من دونه.

والنشاط الذي تميز به أهل المخيم في الذكرى الستين للنكبة، وخاصة من مواليد ما بعد النكبة، أكبر دليل على تفاعل الصغار مع الذكرى وإشرافهم على فعالياتها، وأنهم متمسكون بفلسطين كل فلسطين التي عرفها آباؤهم وأجدادهم. وليس فقط في مناطق الحكم الذاتي..