مجلة العودة

طارق حمود : ثورة يناير.. هل تنجح في اختبار غزة؟

ثورة يناير.. هل تنجح في اختبار غزة؟
طارق حمود/اسطنبول

غزة، وفي وسط الزحام من ربيع العرب الذي احتكر كل الشاشات، تأبى إلا أن تجد لنفسها موطئ قدم، وهي التي لم تتعافَ من جراحها بعد، بل ازداد حملها بقطع الكهرباء عنها وتشديد الحصار.
التصعيد الإسرائيلي المرتبط بسلسلة مشاريع منها، ما هو استراتيجي، ومنها ما هو قريب من تكتيك عسكري أو سياسي داخلي يحمل في طياته انعكاسات كبيرة وكثيرة حول قواعد اللعبة في المنطقة والخلل الذي يتصاعد في أسسها؛ فالربيع العربي وثوراته التي خلطت كل الأوراق جعلا فهم المشهد جدلياً لدى البعض، فيما عبّر البعض الآخر عن يقين راسخ بنتائج حتمية لا يحيد عنها التاريخ جعلت من قواعد لعبة الحزام الإقليمي «لأمن إسرائيل» موضع شك؛ فالحدود الآمنة التي وعد بها كثير من قادة الاحتلال منذ حرب 1967م والتي تحولت إلى واقع لعقود من الزمن باتت موضع شك اليوم لدى «إسرائيل» بعد ثورات الربيع العربي، وخصوصاً بعد خروج مصر من دائرة الاعتدال في المنطقة. وقد لا يبدو الوضع في مصر حتى الآن واضحاً، فيما ستتمخض عنه نتائج ثورة يناير في ما يتعلق بالموقف الاستراتيجي من «إسرائيل». إلا أن هذا هو بيت القصيد في السؤال الذي تبحث «إسرائيل» عن جوابه بقوة هذه الأيام: ما هو شكل العلاقة الذي سيربط «إسرائيل» بدول الربيع العربي مستقبلاً، وخصوصاً مصر؟ وما هي تأثيرات تلك العلاقة على الحزام الإقليمي الذي طالما وفّر حروباً عليها؟


التصعيد الأخير في غزة لن يكون الأخير، وهو ليس الأول، لكنه يأتي في عدة سياقات، منها ما هو سابق وأزلي في العلاقة بين الاحتلال والمقاومة، ومنها ما هو طارئ مرتبط بالخريطة السياسية الجديدة قيد التشكل في المنطقة، وهذا بتقديري هو السبب الأهم لما سيقدم عليه جيش الاحتلال تجاه غزة بالتحديد في قابل الأيام؛ فأزمة الكهرباء غير المسبوقة في القطاع، حتى في زمن مبارك وبما حملته من نقطة ارتياح لدى «إسرائيل»، حملت في الوقت نفسه إنذاراً لما يمكن أن يمثّله الضغط الشعبي تجاه القضايا العالقة بين القطاع ومصر، وهو ما بدأ يتشكل من خلال محاولة رئيس الوزراء في قطاع غزة إسماعيل هنية وغيره من أركان الحكومة في بلورة حلول جذرية لأزمة الكهرباء بعيداً عن الاحتلال أو السلطة في رام الله، ومن شأن تطور خطير كهذا أن يقلب كثيراً من موازين المعادلة، سواء في علاقة الاحتلال بالقطاع وقدرته على التحكم بمفاصل الحياة فيها، أو في التركيبة الداخلية فلسطينياً؛ إذ إنها ستتجاوز «شرعية» حكومة رام الله التي حاول عرب الاعتدال، وخصوصاً مصر، تثبيتها في وجه الفائزين حقيقةً بانتخابات 2006 التي تشكلت الحكومة الفلسطينية بحكم نتائجها، مستثمرين حدثاً لا يتكرر بسهولة بالنسبة إليهم، وهو الانقسام الداخلي بعد الحسم العسكري في غزة 2007م. فمعادلة الانقسام التي نشأت قبل خمس سنوات وتطوراتها شكلت حالة خدمت الاحتلال بدعم مصري كامل آنذاك، واليوم بدأت هذه المعادلة بالتفكك، وهو ما دفع الفصيلين الكبيرين إلى تجاوز كثير من تفاصيل التحفظ بينهما وإتمام المصالحة نظرياً على الأقل، وهذا أضاف عامل قلق جديداً لدى الاحتلال؛ فالتأمل في واقع ما بعد مبارك قد لا يفضي إلى تلمّس أي تغيير، لكنه يعطي بلا شك إضاءات واضحة حول مواطنه. والملف الفلسطيني، وغزة خصوصاً بحكم الجغرافيا، سيكون أهم عامل معياري لتقويم تجربة الثورة التي يحاول الجميع في مصر الآن، بمن فيهم أركان النظام السابق، امتطاء صهوتها. لذا، تحاول «إسرائيل» أن تضع واقع ما بعد الثورة في مصر أمام اختبارات متكررة، أهمها هو التصعيد العسكري المضبوط بمساحة وحدود يقتضيها هدف الاختبار. وربما حاول الاحتلال ترويض ثورة يناير وما أفرزته على مشهد مألوف في غزة من خلال تكرار عمليات التصعيد واستهداف قادة في فصائل المقاومة، وهنا لا بد من الإشارة إلى كلام للمحلل الإسرائيلي في صحيفة يديعوت أحرونوت إليكس فيشمان الذي أشار إلى أهداف غير معلنة للتصعيد الإسرائيلي تتعلق بالوضع الداخلي الإسرائيلي من قبيل الموازنة التي طلبها الجيش من وزارة المال، واختبار فاعلية القبة الحديدية. إلا أن هذه الأسباب تبقى ثانوية ومكملة للهدف الرئيسي المتعلق باختبار مصر ما بعد الثورة، وهو ما أوردته وسائل إعلام عبرية أيضاً، وقد يكون ردّ الفعل المصري أقل بكثير مما هو مطلوب ومنسجم مع طموحات ثوار الربيع العربي؛ فمجرد موافقة مجلس الشعب على توصية لجنة الشؤون العربية بطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة وعدم تنفيذه لن يكون كافياً شعبياً، لا بمستواه العربي والمصري، ولا الفلسطيني. إلا أن قياس خطوة من هذا القبيل إسرائيلياً قد يكون بميزان ذي مؤشرات استراتيجية تختلف عن قياسات الشارع، وخصوصاً أن تصاعدت أكثر مؤشرات نجاح ثورة مصر باتجاه بناء نظام ديموقراطي بعد الانتخابات الرئاسية المنتظرة؛ إذ إن هذا الطموح سيتيح سلطة نافذة لقرارات مجلس الشعب.


إزاء كل هذا، يثار جدل آخر في طبيعة الموقف الشعبي اللازم من تردد مصر الثورة في دعم صمود غزة والتحرك باتجاه حلحلة قضاياها المرتبطة بمصر مثل الحصار، وهو جدل وزّع الناس بين متشدد للثورة يقبل التصديق على كل قراراتها ويحاكم كل تصرفات النظام المصري ما بعد مبارك بتلمس الأعذار لثورة لا تزال في المهد، وبين متشدد باتجاه الرأي الذي يقول بفشل الثورة من التخلص من بقايا مبارك، علماً بأن الثاني يقل عن الأول بكثير. إلا أن الموقف الشعبي يجب أن يبقى شعبياً من دون أن يلبس لبوس التحليل والأناة الذي يرتديه السياسيون والزعماء والمحللون، وإلا ما عادت هناك قيمة لهذا الموقف في صناعة القرار السياسي. يجب أن يضغط الشارع أكثر باتجاه ثورة مصر لتتخذ المواقف الأكثر جرأة من قطاع غزة؛ لأن هذا الموقف هو أحد ضمانات نجاح ثورة يناير التي انطلقت شعبية أساساً