مجلة العودة

تفاصيل صغيرة : "أرجوحة وثوب جديد" حـلم أطفال مخيم خان يونس بالعيد

    "أرجوحة وثوب جديد" حـلم أطفال مخيم خان يونس بالعيد
العودة/غزة
 
 

بمجرد أن تطأ قدمك أولى عتبات مخيم خان يونس للاجئين، تصدم بأطفال بثيابٍ رثة يتقاذفون الحجارة ويلعبون هنا وهناك.. وما إن تتوغل داخل المخيم حتى تجد علب كرتون متراصة جنباً إلى جنب يطلقون عليها اسم "بيوت"، تفصل بينها بضعة سنتيمترات، يسمونها "شوارع وأزقة"."المهم نلعب"، هي حال الأطفال الذين تناثروا كالفَراش حفاة الأقدام؛ فالزجاج والأحجار التي خلفتها آلة الحرب الإسرائيلية أزيلت إلى حد ما، ولم يعد هناك داع للأحذية؛ فكل شيء هنا آمن إلا من لسعات الشمس الحارقة.

بينما كان بضعة من الصغار منهمكين بلعب كرة القدم في أحد الأزقة الضيقة، اقتربنا منهم قليلاً وسألناهم عن العيد، وبمجرد أن سمع الطفل سائد صاحب الستة أعوام كلمة "عيد" أخذ يغني:  "بكرة العيد ونعيد.. نذبح بقرة السيد". وأشار إلى أن والده سيذبح عجلاً كبيراً في العيد، فهو على ما يبدو يريد عيداً بغض النظر عن طقوسه أو اسمه، "المهم عيد".

تتزايد أحلام الأطفال بالملابس والأحذية والألعاب، فلا تكتمل إشراقة العيد بالنسبة إلى الفتاة ضحى ذات العينين الخضراوين والشعر الأشقر، إلا بالملابس الجديدة والحذاء اللامع وبعض قطع الحلوى.

وما إن علمت صاحبة السنوات الست أن العيد سيطرق أبوابهم بعد أسبوعين، أخذت تتراقص يمنة ويسرة والفرحة تعمّ وجهها، قائلة: "سألبس أواعي كتير حلوة.. وكل أقربائي حيعيدوني وسأجمع فلوس كثيرة وأشتري بها كل الألعاب والحلويات إللي نفسي فيها من زمان".

سنفرح بالعيد

وإذا كان والد ضحى يملك مالاً لتحقيق حلم عصفورته الصغيرة، فالطفلة ياسمين التي كانت تقف بجوارها قالت بصوتٍ خافت وحزين: "أبوي مش حيشتريلنا أواعي، ولا حتى حلويات؛ لأنه معوش فلوس".

ولدى أمثال الطفلة ياسمين، بنت مخيم خان يونس، تتحول أحلام ضحى إلى دموع، ما يزيد من آلام الأهالي وتسكن الحسرة قلوبهم؛ إذ من الصعب أن يستمع أي أب أو أم إلى أطفالهم يحلمون بملابس العيد، وهم لا يستطيعون تحقيق هذا الحلم البسيط، ولكن ضيق الحال يمنعهم من تحقيقه.

وبينما كانت ياسمين تبث شكواها من فقر والدها وضيق أوضاعهم الاقتصادية، التقط طرف الحديث والدها قائلاً: "أنتظر أهالي الخير ليطرقوا بابي، فالجميع يعرف أوضاعي، أكره التسول والاستعطاء من الناس، أفضل الموت جوعاً على أن أخسر كرامتي، وكم من رمضان لم يطرق بابي أحد".

والد ياسمين يكره العيد، فهو سيأتي محمّلاً بالأوجاع، قائلاً بحسرة: "لماذا يأتي العيد؟ فرحتنا ستقتصر على الصلاة في المسجد وزيارة الأرحام، هذا إذا زرناهم، فلا مال معنا نعطيهم، ولا فرحة نوزع عليهم، ففاقد الشيء لا يعطيه".

استرقت البصر جهة البحر لألتقط صورة للأطفال وفي خلفيتهم الماء الأزرق البعيد نسبياً، ففاجأتني امرأة يظهر نصفها من خلف الجدار، ونصفها الآخر يختبئ خجلاً، وقالت بعد أن بينت أنها أم ياسمين: "تخيلوا أطفالكم بلا ملابس جديدة يوم العيد، تخيلوا كيف يكون الشعور، تخيلوا نظرات الحسرة في عيون أطفالي يوم العيد".

حال مؤسفة

وكشمس غطست في البحر فغابت عن أعين الحالمين، غابت أم ياسمين بعد عبارتها تلك، وخاطبتنا بنتها ياسمين، وهي تضع يدها على خاصرتها وتشير بيدها إلى والدتها المتوارية قائلة: "أمي دايماً تبكي على حالنا، وكل ما تتذكر العيد بتبكي، الله يعينا على هالحال".

وفي وسط معمعة الحديث، أشار أحد الأطفال إلى بناية مهدمة قائلاً بنشوة: "سيكون هذا العيد مختلفاً؛ لأنهم سيصنعون لنا مراجيح حديدية بجوار العمارة وسنفرح بها ونلعب طوال النهار".

والألم يرتسم على وجهه تابع: "صحيح أنها ليست كالألعاب والمراجيح التي نراها على شاشة التلفاز ولا تشبها بأي شيء، ولكنها جميلة وتفرحنا".

ودفع الفقر الذي ملأ آفاق المخيم أحمد إلى فتح بقالة صغيرة يسترزق من خلالها. نعم، لم يهمه أن يفتحها على بعد أمتار من مكب النفايات؛ "فنحن في مخيم، وكل شيء هنا غير طبيعي، المهم نستر حالنا ونطعم الأولاد".

يريد أحمد أن يأتي العيد بسرعة؛ لأنه فرصته للربح من خلال بيع المسدسات والبنادق والسيوف والطيارات والدبابات البلاستيكية، التي يغرم بها أطفال المخيم؛ فهم ما زالوا حديثي عهد بالاحتلال الذي لم ينسحب من مزارعهم و"حواكيرهم" وشوارعهم إلا قبل 6 أيام، وقد رضعوا حليباً مخلوطاً بالغاز المسيل للدموع، وبرائحة الرصاص الذي كان يصب يومياً كزغردة أم العروس كل ليلة.

 

وفي كل ليلة من ليالي العيد ستعود ضحى وياسمين وسائد إلى أهليهم، بعد أن يغسلوا أرجلهم من آثار غبار الشوارع، ليقصوا عليهم مشوار يوم وليلة بين المراجيح، وفي ميادين القتال بالأسلحة البلاستيكية، التي لا تقدم ولا تؤخر، سوى "فرحة مكتنزة، وتفريغ هم مكبوت".