مجلة العودة

السجون السرية الإسرائيلية... صورة حيّة للإرهاب الإنساني

السجون السرية الإسرائيلية...
صورة حيّة للإرهاب الإنساني

غسان دوعر - عمان


 توطئة

انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة تعسفية بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967؛ فكانت السجون ومراكز التوقيف والتحقيق والاعتقال مكاناً للقتل الروحي والنفسي للفلسطينيين. فقد غصت بعشرات آلاف الفلسطينيين دون تمييز بين طفل ومسن أو رجل وامرأة، لدرجة أنّ تقديرات متقاربة تقدِّر عدد الأسرى الفلسطينيين، بسبعمئة وخمسين ألفاً، مروا بتجربة الاعتقال والسجن التي طاولت أيضاً قرابة 12 ألف امرأة وفتاة وعشرات الآلاف من الأطفال والأشبال.

وهذا يعني أن ربع السكان قد تعرض للاعتقال والسجن لمدد متفاوتة تراوح ما بين التوقيف الإداري لمدة ثلاثة أشهر، والحكم بعدة مؤبدات وفوقها بضع سنين. وهذه الأرقام الخيالية، سواء ما تعلق بأعداد المعتقلين، أو بعدد السنوات التي يمكن أن يحكم بها المعتقل، هي الأعلى في العالم.

تحولت السجون التي ورث الكيان الصهيوني معظمها عن الانتداب البريطاني إلى مراكز لتصفية الإنسان جسدياً ومعنوياً بنحو تدريجي. فقد أراد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه دايان للفلسطينيين أن يتحوّلوا في السجن إلى حطام كائنات لا تمتّ للبشرية بأي صلة، كائنات مفرّغة من كلّ محتوى إنساني وتشكّل عبئاً على نفسها وعلى شعبها.

فقد برز السجن في الكيان الصهيوني كمؤسسة توافرت لها كافة الشروط المناسبة، وتجهّزت بكامل المقومات الضرورية لتحقيق هذا الهدف اللاإنساني والقذر بحق الفلسطينيين. وواجه الأسير الفلسطيني منذ اعتقاله جملة من الظروف والسياسات التي كانت تقضي إذا ما سار مفعولها حتى منتهاه بالإجهاز على هذا الإنسان وتحطيمه حتى لا يعود إنساناً بأيّ معنى من المعاني.

كثيرة هي السجون الإسرائيلية الموزعة من شمال فلسطين حتى جنوبها، قلاع مليئة بالأسرار، وأسماء لا يعرفها إلا من أمضى زهرة شبابه وسني عمره داخلها، أسماؤها مألوفة على الأسرى بداخلها، أسوار عالية وأسلاك شائكة وزنازين معتمة، ومساحات ضيقة وهواء قليل وشمس محجوبة وجدارن أكلت من أعمار آلاف المخلصين والصادقين من مجاهدين حُرموا الحدّ الأدنى من شروط الحياة، ومن الحرية والزوجة والزوج والأولاد ولقاء الأهل والأحبة، وحُرموا ألوان الطعام والشراب والبيت، فعاشوا صابرين وصامدين أمام قسوة السجن وسطوة السجان. ولا شك أن ما يعيشه ال?سرى في تلك السجون هو بحدّ ذاته معاناة إنسانية حقيقية بكل معنى الكلمة، وما يحدث في هذه السجون امتهان لكرامة الإنسان الفلسطيني.

معظم هذه المعتقلات عبارة عن ثُكَن للجيش الإسرائيلي ومقارّ لإداراته العسكرية والمدنية، بل إن العدد الهائل للمعتقلين الفلسطينيين الذين ارتفع عددهم خلال سنوات المواجهة، حوّل كل موقع لجيش الاحتلال إلى مركز لتوقيف المعتقلين.

وهذه السجون موزعة جغرافياً، وغالبيتها العظمى تقع في المناطق المحتلة عام 1948، مثل نفحة، بئر السبع، عسقلان، سجن الرملة، نفي ترستا، تلموند، أنصار 3، وكفاريونا، وسجن شطة، وعتليت والدامون، والجلمة، بالإضافة إلى بيتح تكفا، مجدو، هشارون، بيت إيل، قدوميم، والمسكوبية في مدينة القدس.

ونقل المعتقلين الفلسطينيين من المناطق المحتلة واحتجازهم في سجون داخل أراضي الدولة المحتلة مخالف للقانون الدولي، ويشكل جريمة حرب؛ إذ تنص المادة الـ47 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه "يجب احتجاز المتهمين من المناطق المحتلة داخل سجون تقع ضمن الأراضي المحتلة، وفي حالة صدور الأحكام بحقهم، يجب أن يقضوا محكوميتهم داخل سجون تقع في الأراضي المحتلة".

وهناك سجون ومعتقلات تقع في مناطق الضفة الغربية كالظاهرية وعوفر، بينما لا توجد معتقلات في قطاع غزة سوى معتقل إيرز الذي يقع في منطقة معبر بيت حانون (إيرز)، والذي يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي.

لكن الاحتلال الإسرائيلي مُتهم بأنه يُدير زنازين وسجوناً بعيداً عن عيون العالم، وعن عيون مجتمعه نفسه، ليضع فيها أشخاصاً لا يرغب أن يعرف عنهم أحد، ولهم علاقة بقضايا كبرى تمسّ أمن الكيان من وجهة نظره. ومن الأمور التي يُتهم بها كذلك، التجارب العلاجية والعلمية التي يقوم بها أطباء الاحتلال في هذه السجون، انطلاقاً من سرية السجين، وأن لا علم لأحد بمكانه. وفي هذا الإطار خرجت على السطح العديد من الروايات والقصص التي تحتاج من ينقّب عنها ويقدمها للرأي العام.

هذا السلوك اللاإنساني تتعامل به أجهزة الاحتلال مع أبنائها وجنودها حين يقعون بمخالفات، فماذا بالنسبة إلى الأسير الفلسطيني أو العربي؟ الخطورة أكبر والجريمة أوسع، وهذا مدعاة لعلو الصوت، وخاصة أننا لا نعلم ما هي الإجراءات السرية التي يقوم بها الاحتلال بعيداً عن أعين رقابة مؤسسات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية.

انتحار أو إعدام عميل الموساد بن زيغير، الذي يحمل الجنسية الأوسترالية، داخل إحدى السجون السرية الإسرائيلية يضع قضية المعتقلين والمخطوفين والمختفين الفلسطينيين والعرب لدى الكيان الصهيوني على طاولة البحث والنقاش من جديد، ويبدو أننا بحاجة إلى حدث كبير أو وسائل إعلام غربية لفتح العديد من الملفات المهمة والعالقة، وبحاجة إلى قرار سياسي وتحرك شعبي ودولي لفتحها.

فمنذ عقود والمعتقلون الفلسطينيون يتحدثون عن وجود معتقلات وسجون سرية لدى الاحتلال الإسرائيلي تحتجز وتختطف العشرات من الأسرى الفلسطينيين والعرب.  وتحدثت العديد من التقارير والمؤسسات الحقوقية والإنسانية عن وجود معتقلات سرية أو أقسام ملحقة بسجون إسرائيلية، وهي منشآت محصنة جيداً، حيث إن بعضها هو عبارة عن ثُكَن وقواعد عسكرية، بعضها يعود لحقبة الانتداب البريطاني، وبعضها الآخر استحدثنه سلطات الاحتلال.

بن زيغير المعروف أيضًا باسم بن ألون وبن ألن وأحيانًا باسم بنجامين باروز، وكلها أسماء قانونية وضعها على جوازات سفر خلال السنوات العشر التي اشتغل فيها عميلاً للموساد قبل أن يرميه الجهاز في السجن بصورة مفاجئة عام 2010. وتوفي في الزنزانة رقم 15 في كانون الأول من ذلك العام، مشنوقًا في ما قال التحقيق الرسمي إنه انتحار. ولا يُعرف ما فعله زيغير، الإسم المكتوب على شاهد قبره، ليستحق الاعتقال والسجن،  ولا يُعرف ما قدمه من خدمات للموساد رغم أن جوازات السفر التي حصل عليها من وطنه الأم أستراليا تشير إلى احتمالات متعددة،?فإن العملاء من ذوي الجنسيات المزدوجة يصلحون لعمليات الاستطلاع والاستكشاف، بما يوفره الجواز غير الإسرائيلي من إمكانية السفر إلى دول مثل سوريا ولبنان وإيران دون قلق من السفر بوثائق مزورة.

وفاة بن زيغير يفتح الباب واسعًا على قضية جديدة – قديمة, وهي المعتقلات السرية الإسرائيلية. فقادة الاحتلال يرفضون الفكرة من أساسها, ويعتبرونها خيالًا وكذبًا، لكن جاءت قصة انتحار أحد منتسبي جهاز "الموساد" فيما أُطلق عليه بالسجين "إكس" ليفجر القضية من جديد.

السجون السرية جريمة تخالف القانون الدولي الذي ينص على مواصفات محددة ومعايير إنسانية عالمية للسجون ولمعاملة المساجين، الأمر الذي يتوجب عدم التوقف عن الحديث عنها, بل وتحريك الرأي العام العالمي تجاهها لفضحها لأنها من جرائم الحرب التي يراكمها الاحتلال على نفسه. وخاصة أن إثارتها الآن تتزامن مع معاناة غير طبيعية لأسرانا، وإضرابهم لنيل حقوقهم الآدمية وعلى رأسها الحرية. ♦