مجلة العودة

جولة ميدانية في "عاصمة الشتات"

جولة ميدانية في "عاصمة الشتات"

 أمين أبو راشد / هولندا

ما إن عبرتُ الحواجز ووطئت قدماي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، حتى تيقّنت أن ما كنتُ أشاهده عبر التلفاز وما كان يُنقل شفهياً عن أحواله في ظل الأزمة السورية، هو جزء يسير من معاناة أشد. كيف لا والمخيم بمن فيه يبحث عن ملاجئ، ويعجز عن إيواء الجر حى وتقديم الإغاثة بكل معانيها.

فأن تسمع، شيء، وأن ترى، شيءٌ آخر. فمن خلال عملنا في إغاثة نازحي فلسطينيي سورية في لبنان والأردن، كنا نسمع الكثير من القصص والروايات المروّعة عن أوضاع اللاجئين في المخيمات، وكنا نتابع الأخبار أولًا بأول عبر الفضائيات ومواقع الت واصل الاجتماعي. لكن أن ترى بنفسك، فذلك شيء آخر يقلب حساباتك ويجعلك تفكّر من جديد لهول الأزمة.

بدأ الأمر بتوافر فرصة للقيام بزيارة ميدانية لمخيم اليرموك (الذي يُعدّ عاصمة الشتات للفلسطينيين)؛ فقد حزمت أمري وقررت، بعد الاستخارة والاستعانة بالله، القيام بهذه الجولة المحفوفة بالمخاطر في عمق المخيم للاطلاع عن كثب على أوضاعه وأحواله، نظراً إلى أن تأزّم الأوضاع الإنسانية فيه لا يعطي فرصة طويلة للتفكير.

كان لا بد من التنسيق مع جميع الأطراف لإنجاح الزيارة، التي تسبق حملة إغاثية لكل المخيمات الفلسطينية داخل الأراضي السورية، وكانت الوجهة مخيم اليرموك، أكبر المخيمات الفلسطينية، ويقطنه حالياً نحو ثلاثين ألف لاجئ يدافعون عن رمزية بقاء المخيم عنواناً للعودة.

انطلقت من بيروت باتجاه الحدود اللبنانية السورية لأدخل من طريق منفذ المصنع، وفي الطريق كان لافتاً للنظر العدد الكبير من الحواجز العسكرية؛ حيث تقف السيارات في طابور طويل للتفتيش والتدقيق في هويات الركاب، ولا نكاد نخرج من حاجز حتى يصادفنا آخر.

وبعد عشرات الحواجز، وصلنا إلى العاصمة حيث التقيت بعض الأصحاب وقمنا بجولة على مراكز الإيواء في دمشق، لنجد أن معظم الفلسطينيين من نس اء وأطفال وكبار في السن يحتمون الآن في المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"؛ فقد حوّل الأهالي مقاعد التلاميذ الدراسية مع بعض الأغطية إلى خيم صغيرة داخل الصف الواحد تكفي لعائلة بأكملها.

في مدارس "الأونروا" أيضاً، حيث المرافق قلي لة وغير كافية، والمكان شديد البرودة، يجد اللاجئون الفلسطينيون مطبخاً جماعياً يقدم لهم وجبة طعام واحدة فقط يومياً، فيما تنعدم الرعاية الطبية تماماً.

قضيت تلك الليلة في دمشق، وفي الصباح الباكر توجهنا إلى مخيم اليرموك، ووصلنا إلى ساحة "البطيخة"، وهي آخر مكان تصل إليه السيارات في ظل الظروف الأمنية الصعبة. نزلنا لنسير على الأقدام برفقة العديد من العائلات التي تجمهرت في المكان، وهي عادةً ما تدخل إلى المخيم في الصباح الباكر وتغادر مع ساعات الظهيرة قبل أن يشتدّ خطر الحركة في محيطه.

هنا بدأت مرحلة أخرى. دخلت مخيم ال يرموك المحاصر منذ خمسة وستين يوماً، وكان الدخول من جهة شارع الثلاثين، وما إن دخلت المخيم حتى فُجعت بما رأيت؛ فقد عادت بي الذاكرة إلى عام 1986 حين كنت محاصراً في مخيم شاتيلا.

ولعل أكثر ما يستوقف المرء لدى دخوله مخيم اليرموك، أنه تحوّل إلى مدينة أشباح لا ترى فيها بشراً إلا من دخل معنا. الجميع صامت وهادئ. نسير في رتل بعضنا خلف بعض. الجميع يحبس أنفاسه؛ فأي حركة غير طبيعية قد تودي بحياتنا. قطعنا نصف كيلومتر سيراً على الأقدام في طابور واحد، وانعطفنا باتجاه المخيم، ليصبح الأمر أكثر أمناً، على الأقل من رصاصات القنص التي لم تتوقف طوال وجودنا في المخيم.

وما إن تركّز الانتباه، حتى ترى أن شوارع المخيم وحاراته التي كانت تحمل أسماء مدن فلسطين وقراها قد تغيّرت، وأصبحت تسمى أسماءَ أحداث القتل والدمار، فيما تحوّلت طرق المخيم إلى كومة من الدمار، وعند المسير كان يحذرنا بعض من له خبرة في الطرقات أن لا نسلك طرقاً معينة؛ لأنها مرصودة من القناصين. 

في مخيم اليرموك ترى المحالّ مغلقة والبيوت مهجورة وآثار الدمار ورائحة الموت تنتشر في كل مكان. تجد هنا وهناك بعض البسطات التي تبيع أشياء بسيطة، لكن أكثر ما ترك الأثر في نفسي هو الحصار الخان ق الذي ما زال مفروضاً على المخيم، منذ أكثر من سبعة وستين يوماً. فقد علمنا أن هذا الحصار سبّب وفاة عدد من المرضى بسبب نقص حاد بالأدوية، ولا سيما تلك الخاصة بالأطفال والأمراض المزمنة، وعدم توافر الكادر الطبي والمعدّات والمستلزمات الطبية اللازمة. لقد زرت "مست شفى فلسطين" في مخيم اليرموك، فوجدت أن المستشفى يعمل فقط بنصف طاقته، الأمر الذي من شأنه أن يفاقم من حدّة وسوء الأوضاع الصحية، في ظل تصاعد عدد الجرحى والمصابين جراء استمرار المعارك بداخلها وإغلاق بعض المراكز الصحية أبوابها بسبب نفاد الدواء.

لفت انتباهي حين أ ديت صلاة الجمعة في مسجد عبد القادر الحسيني بالمخيم (الذي أصبح يسمى مسجد الشهداء بعد استشهاد وإصابة العشرات فيه جراء قصف جوي)، أن الخطيب تحدث عن تقاسم اللقمة الواحدة وضرورة التكاتف والتعاضد في هذا الظرف الاستثنائي، وكانت المفارقة أنه جُمعت تبرعات من المصلين ، بما تيسّر معهم.

وفي صورة مؤلمة، تبادر إلى مسامعنا أن الحصار دفع بعض سكان مخيم اليرموك، في الوقت الذي يستمر فيه انقطاع التيار الكهربائي وشحّ المواد الغذائية والمحروقات، إلى إحراق أثاث منازلهم وأحذيتهم والثياب القديمة لإشعال النار لأغراض التدفئة وطهو الطعا م.

وبإيجاز شديد لنتائج الزيارة التي حاولنا أن نلتقي الجميع ونطّلع على تفاصيل المعاناة، فإن ما لا ينبغي القفز عليه في هذا الصدد، هو أن من بقي من اللاجئين الفلسطينيين والمواطنين السوريين في داخل المخيمات لا يصحّ بأي حال من الأحوال أن يُتركوا للمجهول؛ فلا بد من تقديم يد العون لهم فوراً، وعلى الجميع أن يصبّوا اهتمامهم على عنصر المبادرة والفعل عوضاً عن الاستئناس بالمواقف وردود الأفعال، ولعلنا سنكون في حملة الوفاء الأوروبية أول المبادرين إلى إرسال قوافل إغاثة شعبية إلى المخيمات في داخل الأراضي السورية قريباً جدا ً.