مجلة العودة

سفراء الشعر الفلسطيني في جلق الشام شتّتتهم النكبة وناداهم الحنين

سفراء الشعر الفلسط يني في جلق الشام

شتّتتهم النكبة وناداهم الحنين

 
 بقلم د. محمد توكلنا

لطالما تغنّى الناس على مدى السنين والأجيال واستشهدوا ببيتي الشاعر أبي تمام الطائي (الكامل):

نَقِّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهوى        ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوَّلِ

كمْ منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفتى         وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ

ولعل الذي يطرب القلوب في هذين البيتين أنهما يوافقان فطرة كل من نأت به الغربة عن وطنه، ويبعثان فيه سُعار الحنين ولهيب الأشواق، فكيف إذا كان الوطن المفقود فلسطين، وهي ما هي من سحر طبيعة وعذوبة مياه وغنى مواسم وعراقة تاريخ وقدسية مشاعر؟

لقد حفرت نكبة سقوط فلسطين أخاديد عميقة في قلوب الذين أُكرهوا على هجرها والنزوح عنها، ولا شك أن تأثيرها كان الأعمق في قلوب الشعراء الذين هاموا بها وتغنّوا بسحرها وفتنتها.

لقد لجأ بعض الشعراء الفلسطينيون إلى دمشق يستعيضون بها عن مسقط رؤوسهم، وعلى الرغم من إعجابهم بجم ال دمشق وحسن طبيعتها، إلاّ أن الحنين إلى المنزل الأول ظل يراودهم مدى الحياة؛ فمن هؤلاء الشعراء عبد الكريم الكرمي الذي راح يتغنى بدمشق في قصيدته (سنعود)، فإذا بسحر فلسطين يخطفه ليجد نفسه يتغنى بروابيها وسهولها وشواطئها وجداولها (الوافر):

فلسطينُ الحبيبةُ كي فَ أحيا بعيداً عن سهولك والهضاب

تناديني السّفوحُ مخضَّباتٍ وفي الآفاقِ آثارُ الخِضابِ

تناديني الشواطئُ باكياتٍ   وفي سَمْعِ الزّمانِ صدى انْتِحابِ

تناديني الجَداولُ شارداتٍ   تسيرُغريبةً دونَ اغترابِ

تناديني مدائنُكِ اليَتامى   تناديني قُراكِ مع القِبابِ

والكرمي حين غادر فلسطين كان رجلاً على أبواب الأربعين من العمر؛ فهو قد تملّى من بلده وذاق نعيم العيش فيه، لذلك ظل يذكر داره التي فارقها، ويصف كل مرافقها ونواحيها وجميع ذكرياتها (السريع):

هل تسألين النجمَ عن داري  

وأين أحبابي وسُمّاري

داري التي أغفتْ على رب وةٍ  

حالمةٍ بالمجدِ والغارِ

تفتّحَ الزهرُ على خدِّها                 

فعطَّرتْ أيامَ آذارِ

الشمسُ لا تضحكُ إلاّ لها     

تُهدي إليها وَشْيَ أستارِ

والتّينةُ الخضراءُ في ظِلِّها    

تاريخُ أشواقي وآثاري

مَلعبُنا يومَ رفيفِ المُنى                 

ومُلْتَقى الجارةِ بالجارِ

والعينُ خلفَ الدارِ في المُنْحنى         

تَروي حِكاياتي وأخباري

والكرْمُ ما أرحمَ أفياءَهُ                  

أحلامُ عشّاقٍ وأطيارِ

مِن عرَقِِ الفلاّحِ أنداؤهُ               

أكرمُ مِن طَلٍّ وأمطارِ

والبيدرُ السَّمْحُ على صدرهِ   

حبّاتُ أكبادٍ وأبصارِ

أغنيةُ الرّاعي وراءَ الرُّبا     

منشورةٌ في الأفُقِ العاري

يا عَجَباً للحُبِّ ملءَ الدُّنى     

يموجُ في أنغامِ مِزمارِ

وأما حسن البحيري فأُكرِهَ على الخروج من مدينته حيفا، فخرج بجسده خالياً من قلبه؛ لأن القلب رفض المغادرة وأصرّ على البقاء هناك يكمل بقية العمر حسرة على ضياع فلسطين (الخفيف):

لم يُطِعْني الفؤادُ بالبُعدِ عنها  

ي ومَ أزْمَعْتُ عن حِماها الرُّكوبا

فجَفاني وظَلَّ فيها مُقِيماً                

يُكمِلُ العُمرَ حَسْرةً ووَجِيبا

والشاعر بقي حاملاً يراعته متأبّطاً شوقه، يتغنى بمدينته حيفا ويغازلها بأحرّ قصائد الشوق، برغم ذلك يبقى طوال عمره على اقتناع بأنّ كل ما ينظمه من شعر لا يمكن أن يكفي للتعبير عن شوقه إلى مدينته (البسيط):  

حيفا وأنتِ مِزاجُ الرُّوحِ في رَمَقي      

وعُمْقُ جُرحِ الجَوى في مُوجَعي الخَفِقِ

يَشُدُّني لكِ شوقٌ لو غَمَسْتُ لَهُ                    

يَراعَ شِعريَ في صَوْبِ الحَيا الغَدِقِ

ورُحْتُ بالحبِّ والذِّكرى أُصَوِّرُهُ                 

دمعاً على الخَد ِّ أو حَرْفاً على الوَرَقِ

لَجَفَّ حِبري ولمْ أبْلُغْ قَرارةَ ما                   

ضَمَّتْ جَوانِحُ صَدري مِن لَظى حُرَقي

لقد بلغ حبه لحيفا أنه يراها بتفاصيلها في عين محبوبته، ويتذكر هواه الأول فيها فيعجز عن التصبُّر وهو يتحسس ألم السهم الذي أصابه في مَقْتَلٍ يوم غادرها (ا لكامل):

ما أشرقَتْ عيناكِ إلاّ خانَني            

بِصبابَتي صَبْري وحُسْنُ تَجَمُّلي

وتَحَسَّسَتْ كَفّايَ مِن ألَمِ الجَوى                   

سَهْماً مَغارِسُ نَصْلِهِ في مَقْتَلي

فلقدْ رأيْتُ بِطَرْفِ عينِكِ إذ رَنَتْ                  

والتِّيهُ يَكْحَلُها بِمِيلِ تَدَلُّلِ

حيفا وشاطِئَها الحبيبَ وسَ فْحَها                   

وذُراً تَعالَتْ لِلسِّماكِ الأعْزَلِ

ومُنىً تَقَضَّتْ في فَسيحِ رِحابِها

وهَوىً تَوَلّى في الشّبابِ الأوَّلِ

ويرد الشاعر على من يلومونه ويعدّونه مبالغاً في محبته لدياره وهيامه بها بأن هذه الأرض تضاهي جنان الخلد، فالشِّعريان يتغنيان بجمالها، وهو ل ا يلام على حنينه إليها؛ لأن الضوء الذي يشعّ من الشمس والقمر إنما هو مقتبس منها (الخفيف):

في ديارٍ كرَفْرَفِ الخُلدِ طِيباً  

يَتغنّى بِحُسنِها الشِّعْرَيانِ

ومَغانٍ رفَّ النَّعيمُ عليها     

ورَعَتْها عِنايةُ الرَّحمنِ

ورُبوعٍ أنسامُها مُثْقَلاتٌ

بِعطورِ ال رّيحانِ والبَيْلَسانِ

لا تَلُمْني على حَنيني لأرضي          

مِن ضِياها ضاءَ الورى القَمَرانِ

ومن صوَر تعلقه الشديد بالأرض أنّ له جذوراً من الصخر متشبثة بها، هذه الأرض التي ذُرا جبالها المنتشرُ فيها الزيتون تلامس جبين المشتري، ويتردد فيها نشيد هادر على مدى العصور، بأن أمّته لا يمكن أن تقهر (مجزوء الكامل):

أنا لي جُذورٌ مِن صُخورٍ في تُرابي الأطْهَرِ

وذُراً مِن الزّيتونِ لامَسَها جَبينُ المُشْتري

ولِيَ النَّشيدُ الهادِرُ الدَّفّاقُ عَبرَ الأعْصُرِ

في مَوْكِبٍ للنَّصرِ مثلُ حُشودِهِ لَم يُحشَرِ

وبَعيدُ رَجْعِ هُتافِه ِ: "يا أُمَّتي لن تُقهَري"

ويشيخ البحيري، ويشعر بدنوّ الأجل، ولكنه لا يفقد الأمل بالعودة، فهو متيقنٌ من أنه سيعود إلى مدينته، ثم إنه يطَمْئِنُها بألاّ تيئَس من عودته حتى بعد أن يفنى؛ لأن القدَر سيحمل ترابه ويعيده إلى أرضه (المتقارب):

وإمّا تَولّى ربيعُ الش َّبابِ

وصُوِّحَ مِنه نَدِيُّ الزَّهَرْ

وحُمَّ الرَدى أجَلاً في كتابٍ   

بهِ مِن مَنايا البَرايا سُوَرْ

فَلا تَيْأسي مِن إيابي إليكِ     

ولَوْ غَيَّبَتْني طَوايا الحُفَرْ

فإنّي ولَو حَفْنةً مِن تُرابٍ     

سأرجِعُ في قَبَضاتِ القَدَرْ

والشاعر يوسف الخطيب يحمل ذكرى طفولته صوراً سحرية في داره حيث كان يقضي الأمسيات الطيبة تحت ضوء القمر الذي ينساب كالشلاّل، ويتذكر كيف كان يتمشى عند الأصيل أو عند السّحَر بين الروابي والمنحدرات ويعود مع أصحابه محمّلاً بسلال مملوءة بالغلال (مجزوء الكامل):

عهدي بدارِ طفولتي سحريةَ الصُّورِ

معسولةَ الرّبَواتِ في شلاّلةِ القمرِ

أوّاهِ كم أمسيّةٍ عربيةِ السمَرِ

كانت لنا في كلِّ رابيةٍ ومنحَدَرِ

كم سَرحةٍ عند الأصيلِ ويقظةِ السَّحَرِ

بِسِلالِنا ملءَ الرُّبا، ومَسارِبِ الشّجر

ويمرّ بالشاعر عندليب آتٍ من جهة الأرض المحتلة فيرى شاعرنا في وجهه مسحة من الحزن، ويتوسم فيه مأساة اللجوء والغربة، فيراه لاجئاً مثله يعاني مصائب الغربة ولا مؤنس ولا شفيق (مجزوء الكامل):  

أتُراكَ مثلي يا رفيقُ تمرُّ في الزّمنِ

عبرَ المَهالكِ واللّيالي السّودِ والمِحَنِ

لا صاحبٌ يُرخي عليكَ غِلالةَ الكَفَنِ

تَذرو بقيّةَ عُمْر ِكَ الصّادي بلا ثَمنِ

لَكأنّ في عينيكَ بعضَ اللَّمحِ مِنْ وطني

وأكادُ ألمَحُ في وُجومِكَ لونَ مأساتي

جُرحي ومَلحمتي، وتَشريدي، وآهاتي

ويتمنى الشاعر على الطير لو أنه حمل إليك تذكاراً من وطنه، تذكاراً مهما كان صغيراً، حتى لو كان قشة من بيدر البلد أو حبّتي ر مل أو عشبة ومزقة سوسن، ولكنه يراه فعلاً خالي اليد لا يحمل إلاّ حنينه وحزنه كما جرى للشاعر:  

لو قشّةٌ مِما يَرِفُّ ببيدرِ البلدِ

خبّأتَها بينَ الجناحِ وخَفْقةِ الكبِدِ

لو رَملتانِ مِن المُثلَّثِ أو رُبا صَفَدِ

لو عُشبةٌ   بيَدٍ ومُزقةُ سَوْسَنٍ بِيدِ

أينَ ا لهدايا مُذْ بَرِحتَ مَرابِعَ الرَّغَدِ

أم جِئتَ مثلي بالحنينِ وسَوْرةِ الكَمَدِ

ومما يؤلم الشاعر الاحتفالات بالأعياد والمهرجانات الخطابية التي تقام في أرض الغربة والشتات، والتفاخر والتباهي بالبلاغة والفصاحة من دون ثورة حقيقية مسلحة يلبَّى فيها نداء القدس ا لتي تدعو أهلها لنجدتها وتحريرها من مغتصبيها (الخفيف):

فيمَ أعيادُنا، وفيمَ الأهازيجُ وحَشْدُ الآلافِ حول المنابرْ

ما لنا والفخار، والقدسُ تدعونا فهل حرَّكَتْ حَمِيّةَ ثائرْ

مِن دَوِيِّ الرّصاصِ يُغْتَصَبُ المَجْدُ اغتصاباً، لا مِنْ دَوِيِّ الحَناجرْ

وعلى الرغم ممّا يمر بالشعب الفلسطيني من مآسٍ ومصائب، وبرغم تآمر الشذّاذ على الشعب، فالشاعر يحمل في صدره أملاً يصل إلى حدّ اليقين بأن العودة إلى الأرض المحتلة لا بد منها، وهناك سيلتقي جميع أهل البلاد وسيعلم المتآمرون على الأمة أن هذه الأرض حرة لا يمكن أن تضيع (ا لسريع):   

سنلتقي يوماً على موعد       ٍ        

للثأرِ في يافا وفي الكَرْمِلِ

سيَجمعُ التاريخُ أشتاتَنا                  واحدةَ الرّايةِ والجَحْفَلِ

ويعلم الشذاذ من أمتي                   أيةَ دارٍ حُرّةٍ مَوْئِلي

لقد كان الحنين والشوق إلى الأرض التي هي مسقط رؤوس شعرائنا الفلسطينيين لا يفارق هؤلا ء الشعراء، فحملوا شوقهم وحنينهم في الأكباد المقروحة وترجموه قصائد تتلهب عشقاً وهُياماً فأغنوا مكتبة الشعر العربي بقصائد العودة، وكانوا بحقٍّ سفراء فلسطين في أرض الغربة والشتات، وحملوا الأمل بالنصر وبشّروا بالتحرير والعودة إلى ربوع الوطن.