مجلة العودة

منارات في عتمة النكبة ( 2) الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود منارة مضيئة في ظلام النكبة

منارات في عتمة النكبة ( 2)
الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود
منارة مضيئة في ظلام النكبة


خاص - العودة


ربما ينظر بعضنا إلى الأيام العصيبة التي وقعت فيها نكبة فلسطين فلا يرى فيها غير ظلمة قاتمة , وهذه في الحقيقة نظرة تفتقر إلى بعض الدقة , فإن بعض التعمق في دراسة تلك الحوادث يظهر قدراً عظيما من البطولات التي ظهرت على أيدي المقاتلين الفلسطينيين ومن شاركهم من العرب في الدفاع عن الأرض والمقدسات فكانت تلك البطولات منارات مضيئة في ظلمة تلك الأحداث العصيبة .
ومن النقاط المضيئة في ظلمة تلك الحوادث نزول كثير من الأدباء إلى ساحات الوغى للمشاركة في الدفاع عن فلسطين ومقدساتها وكرامة شعبها ببنادقهم وحرابهم , كما شاركوا في الدفاع عنها بيراعهم وقراطيسهم , ومن هؤلاء المناضلين الأبطال الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود , فقد أقسم هذا الشاعر على أن يحمل روحه على كفّه وينقض على أعداء وطنه وأمته طالباً إحدى الحسنيين ؛ حياةً ينعم بها هو وشعبه بالهناء والسرور على أرضهم الطاهرة من أرجاس المغتصبين أو شهادةً في سبيل الله بعد أن يكون قد أنهك أعداءه وأبلى في إذلالهم وإرغامهم بلاء حسن?ً ( المتقارب ) :
سَـأَحمِلُ  رُوحـي عَلى راحَتي       
وَأُلـقي بِـها في مَهاوي الرَّدى
فَـإِمّا  حَـياةٌ  تَـسُرُّ الصَديقَ        
وَإِمّـا  مَـماتٌ يَـغيظُ العِدا
ويضع شاعرنا مواصفات لكل شريف , فالشريف في رأي الشاعر هو من يكون له هدفان في حياته أولهما أن يحظى بشرف اقتحام ساحات الوغى , وثانيهما أن يحقق أمنياته في هذه الساحات من دحر  للأعداء والتحرير أو فوز بالشهادة :
وَنَـفسُ الـشَريفِ لَها غايَتانِ       وُرودُ الـمَـنايا وَنَـيلُ الـمُنى
وتبدو لنا روح الإقدام لدى الشاعر فاقتحام ساحات الوغى في نظر غيره وسيلة للتحرير ورد الأعداء , لكنه في نظر شاعرنا غاية بذاته , يدفعه إلى ذلك نفس شجاعة وحب للقتال .
وتتجلى نظرة الشاعر للحياة , فهي ليس لها أية قيمة وليست جديرة بأن يعيشها مالم يكن مرهوب الجانب يخشاه أعداؤه ولا يجرؤون على الاعتداء على أرضه ومقدساته , ويعتقد كذلك أنه يجب أن يكون قوياً شديد المراس ليكون صوته مسموعا في أرجاء الدنيا فالقوي هو الذي يجلجل صوته في أصقاع الأرض ويتردد صدى مقاله في أرجاء العالم :
وَما العَيشُ لا عِشتُ إِن لَم أَكُن    
مَـخُوفَ  الجَنابِ  حَرامَ الحِمى
إِذا  قُـلتُ  أَصغى لي العالَمونَ      
وَدَوّى  مَـقاليَ بَـينَ الـوَرى
ويقسم الشاعر بعد ذلك بأنه يرى موته المحتم أمامه في ساحة القتال , ولكنه مع ذلك يسارع نحو الموت دون أي تهيّب أو تلكؤ , ذلك أنه يرى أن هلاكه في سبيل إنقاذ حقه وصيانة بلاده إنما هو كل ما يريده ويسعى إليه :
لَـعَمرُكَ إِنّـي أَرى مَـصرَعي        
وَلـكِن أُغِـذُّ إِلَـيهِ الـخُطى
أَرى  مَقتَلي دونَ حَقّي السَليبِ       وَدونَ بِـلادي هُـوَ الـمُبتَغى
ويتابع الشاعر وصف نفسه بكل اعتداد فهو ليس من صنف الناس الذين تطرب آذانهم بسماع الغناء أو الموسيقى .. وليس من الذين يبهج أعينهم مناظر الحسناوات أو مشاهد الطبيعة , ولكنه من الذين يتطربون بسماع قعقعة السلاح ويبتهجون لرؤية الدماء وهي تسيل على أرض المعارك :
يَـلَذُّ لِأُذْنـي سَـماعُ الصَليل        
وَيُبـهِجُ  نَـفسي مَـسيلُ الدِّما
ومما يسره ويسعده أيضا أن يرى شهيداً ممدداً في أرض المعركة تقتات من جسده الطيور الجارحة وسباع الأرض , وواضح أن هذا المنظر يروق للشاعر ليس لأنه رجلاً دمويّاً بل لأنه يتوق لأن يكون مكان هذا الشهيد الذي يكسو دمه الأرض بحلة حمراء أرجوانية وتفوح منه ريح الشهادة الطيبة التي ملأت الجو فحملتها ريح الصبا :
وَجِـسمٌ  تَجَدَّلَ فَوقَ الهِضابِ       تَنـاوَشُهُ جـارِحاتُ الـفَلا
فَـمِنهُ  نَـصيبٌ لِأُسْدِ السَماءِ       وَمِـنهُ نَـصيبٌ لِأُسدِ الثَرى
كَـسا دَمُهُ الأَرضَ بِالأُرجُوانِ       
وَأَثـقَلَ بِـالعِطرِ ريـحَ الصَبا
لقد عفّر التراب جبهة ذلك الشهيد , ولكن الغبار زاده بهاءً ورونقاً , ذلك أن هذا الغبار أصاب الشهيد لأمر سامٍ هو قتال أعداء وطنه وطردهم عن حياضه , فما أبهى ذلك الغبار على تلك الجبهة الشريفة :
وَعُـفِّرَ  مِـنهُ بَـهِيُّ الـجَبينِ        
وَلـكِن عَـفاراً يَـزيدُ الـبَها
وَبـانَ  عَـلى شَـفَتَيهِ اِبتِسام        
مَـعانيهِ هُـزءٌ بِـهذي الـدُّنى
والشهيد الذي يبدو لرائيه قتيلاً مسجّىً على الأرض إنما هو الآن نائم يرى أجمل الرؤى ألا وهي ما أكرمه الله به من خلود في جناته العلا :
وَنـامَ لِـيَحلمَ حُـلْمَ الـخُلودِ        
وَيَـهنَأَ فـيهِ بِـأَحلى الرُوءى
والشاعر في وصفه لهذه الحال يظهر تناصّه مع قول الله  تعالى " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاْتًا بَلْ أَحْيَاْءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ " 
ثم بعد أن يصف الشاعر حالة الشهيد المسجى على الأرض , الغارق في دمائه , المعفر بتراب أرضه , نراه يغبط هذا الشهيد لأنه مات الميتة التي تليق بالرجال , فمن أراد أن يموت ميتة الشرفاء فليفعل كما فعل هذا الشهيد :
لَـعُمرُكَ  هـذا مَماتُ الرِجالِ        
وَمَـن رامَ مَـوتاً شَـريفاً فَذا
فهل بعد كل هذا يصبر الشاعر على عدوه الحاقد وهل يتحمل إيذاءه له ولشعبه , وهل يخاف من الموت وهو الشجاع الذي لا يأبه للحياة ولا يتعلق بها , وكيف يخضع ويخشع للأعداء وهو صاحب النفس التي تأبى الخضوع والمذلة :
فَكَيفَ اِصطِباري لِكَيدِ الحُقودِ     
وَكَـيفَ  اِحتِمالي لِسومِ الأَذى
أَخَـوفاً  وَعِـندي تَهونُ الحَياةُ      
وَذُلّاً  وَإِنّــي  لَـرَبُّ الإِبـا
ويطلق الشاعر هتافه مهدداً أعداه بأنه سيرميهم بقلبه الحديدي , وسيكويهم بناره التي تتلظى وهي تخرج من سلاحه نحو وجوههم , وسيبقى حاملاً سلاحه يدافع به عن حوزة بلاده ليعلم قومه بأنه هو الفتى الشجاع الذي يرجى لمثل هذه المهمة الشريفة العظيمة :
بِـقَلبي  سَـأَرمي وُجوهَ العُداة       وَقَـلبي حَـديدٌ وَنـاري لَظى
وَأَحـمي  حِياضي بِحَدِّ الحُسامِ       
فَـيَعلَمُ قَـومي بِـأَنّي الـفَتى
ولم يخب ظن الشاعر بنفسه ولم يطل انتظاره للشهادة , فقد انضم إلى صفوف المدافعين عن فلسطين ضد الزحف الصهيوني ما بين عامي ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين وألف وتسعمائة وثمانية وأربعين , فشارك في معركة ( بيار العدس ) ومعركة ( راس العين ) , وكان أن احتلت العصابات الصهيونية قرية الشجرة فحررها الثوار والشاعر فيهم بعد معارك استمرت خمسة أيام بلياليها , وفي اليوم الخامس من المعركة تحققت أمنية الشاعر بنيل الشهادة فقد أصابته شظية من قذيفة مدفع , وحمله أصدقاؤه في سيارة جيب إلى مشفى الناصرة وهم يرددون قول الشاعر الجريح : 
لَـعُمرُكَ  هـذا مَماتُ الرِجالِ        
وَمَـن رامَ مَـوتاً شَـريفاً فَذا
ولم يصل الشاعر إلى المشفى فأسلم الروح لبارئها في الثالث عشر من تموز عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين وهو لم يبلغ من العمر غير خمسة وثلاثين عاماً , وقد كان مثالاً رائعاً للأديب المناضل الذي لا يكتفي بحمل القلم للدفاع عن أمته , ولكنه كان يحمل قلمه بيد وبندقيته باليد الأخرى ليسطر في أرض المعركة من البطولات برهاناً على صدقه  فيما خطّت يمينه وفيما عاهد عليه من الثبات حتى يسلم روحه إلى بارئها في ساحة القتال , فإمّا حياة تسر الصديق ... وإما ممات يغيظ العدا .♦ الرّاحلونَ على ظلالِ الياسمينْ
والمُبعدونَ إلى مفازاتِ الأنينْ
والمُتعبونَ مِنْ التّخاذلِ والأنينْ
مرّوا على وجعي هُنا
كبُروا سريعاً عندَ جُرحي
يسألون عن الهَنا
ثمّ صاروا في دروبِ القهرِ
أطيافًا تُسمّى " لاجئين "
✽ ✽ ✽
من بين أشواكِ الحروفِ ورغمَ أسوارِ القصيدة
من بينِ أنيابِ الحتوفِ ، إلى حكاياتي الشريدة
يبستْ مواويلي على الشّفةِ الطّريدة
ثُمَّ صِرنا " نازحين " !
من أيّ بَرقٍ خُلّبٍ كَتبوا على وجهِ المدائن " عَائدونْ " ؟
والزّيزفونُ مَحاصرٌ، والذّكرياتُ مقابرٌ ، والأغنياتُ محابرٌ
سُكبتْ مع الدّمعِ الهتونْ !
يا أيّها القلمُ الرّديء ويا متاهاتِ الرّصاص !
غابَ القِصاصُ وكيفَ يجدي في متاهات الخلاصْ
صمتَ الأذانُ على المكانِ وحلّقت فينا الأغاني
" قلبِ تاني "
والمسجدُ الوضّاءُ يطفأُ في مساءات الأماني
وأنا هنا ....
عُمْرٌ يُضيء على المكانْ ...مِن ألفِ عامْ
عُمرٌ يجيء بكفّه نارٌ ضرامْ
يأتي ليخرجنا إلى الأرضِ الحرامْ
يا أيّها الشّعرُ الملظّى بالحنين وبالخيامْ
يا أيّها الوجدُ المعنّى بالحطامْ
رغمَ أسوارِ القصيدةِ ...عائدونْ
رغمَ أوجاعِ المكيدةِ ...عائدونْ
رغمَ أمواجِ التخاذلِ ...عائدونْ
رغمَ ذاكرةِ المآسي ، واشتعالاتِ انتكاس...عائدونْ
✽ ✽ ✽
يا أيها الليلُ الطّويلْ
كمْ قدْ كذبتَ على المدائنِ قلتَ : " حُلمُكِ مستحيلْ "
أخبرْ صديقكَ أنّ ظُلمكَ يَنجلي
وبأنّ دمعكَ سوفَ يذوي عندَ أشواقِ النّخيلْ
وبأنَّ خيلَ قصائدي قدْ أطلقتْ فيكَ الصّهيلْ
والشّمسُ من كفّي ضياها تَحملُ الصُّبحَ الجميلْ♦