مجلة العودة

أدب العودة: أنيس صايغ.. وحدها الأشجار تموت واقفة - ماهر الشاويش

أنيس صايغ.. وحدها الأشجار تموت واقفة
 

ماهر الشاويش/ دمشق

في كتابه «أنيس صايغ عن أنيس صايغ» كان العنوان الأخير للكتاب، يبدأ بجملة تحمل دلالات كبيرة وهي «مِنْ مُت قاعداً إلى تعاقد مع الحياة للموت واقفاً». وفعلاً رحل عميد البحث العلمي الفلسطيني، ومدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، و«والد» الموسوعة الفلسطينية، ومجلات شؤون فلسطينية، وشؤون عربية، والمستقبل العربي، رحل واقفاً.

في الذكرى السنوية الأولى لرحيله كانت لنا هذه الوقفة مع من عرفوه عن قرب.

خالد مشعل: أسهم في تشكيل وعي الثقافة الفلسطينية فهو أنموذج للمثقف الملتزم المقاوم

مفكر وعالم، كنت قد عرفته قبل أن ألقاه، فأنا وكثيرون من أبناء جيلي تتلمذنا على أفكاره، فله بصمة كبيرة في تشكيل وعينا وثقافتنا، وستكون له هذه البصمة أيضاً، في الأجيال القادمة.

فهو رمز وطني ومعلم من معالم فلسطين الباقية، فقد جمع في شخصيته الوعي والفكر، وأكد على قيمة الثقافة في موروثنا، وأن الكلمة أقوى من الرصاصة، وأقوى من البندقية.

إن قيمة المثقف في القضية الفلسطينية توازي قيمة المجاهد، وإن محاولات اغتياله لم تكن اغتيال جسده، بل كانت اغتيال فكره وإبداعه الذي نذره للقضية الفلسطينية. وهو الإنسان الملتزم الذي بدأ حياته بموقف وانتهت حياته بالموقف ذاته. ومن الصعب جداً أن نرى مثقفاً ينذر حياته طوال خمسين عاماً لموقف لم يتبدل أو يتغير، فهو أنموذج للمثقف الملتزم المقاوم.

إنَّ المبادئ التي ناضل من أجلها أنيس صايغ ستبقى في نفوس الأحرار، وإنَّ الأصلاء سيواصلون الطريق ذاته، وليطمئن في مماته، وإنَّ الوعي والثقافة وأفكاره النقية ستبقى في برامجنا السياسية، ومحددات مسيرتنا، ففلسطين هي فلسطين والمقاومة وهي طريقنا الأصيل، والقدس على رأس أجندتنا، وكذلك حق العودة، وإنَّ الحصار لا يكسر عزيمتنا، وأي تواطؤ إقليمي سيتحطم تحت أقدام المجاهدين.

وأقول له في ذكراه: إنَّ المبادئ التي أفنيت عمرك في سبيلها، ستبقى الملهم والمحرك للمسيرة الفلسطينية.

حمزة البرقاوي: أرسى أسس الاعتماد على العلم في الفكر السياسي الفلسطيني

أنيس صايغ قيمة كبيرة وغالية وقامة عالية وشامخة. شقَّ طريقاً نموذجياً في مجال العمل الفلسطيني، مزج بين النضال بالكلمة الصادقة الملتزمة، المستندة إلى العلم والمعرفة وبين العمل اليومي الدؤوب على منابر السياسة والثقافة، فهو بحق من أرسى أسس الاعتماد على العلم في الفكر السياسي الفلسطيني، فقاوم التضليل والتزييف ووقف ضد الخداع والكذب الذي مارسته قيادات متنفذة في ساحة المقاومة.

لم يهدأ له بال حتى آخر لحظة من حياته، وسابق الزمن ولكنَّ القدر كان له بالمرصاد خطوة الرحيل قبل أوانه وعلى جدول أعماله الكثير مما لم ينجزه. كان ذا ذهنية متقدة وجدانية شكلت جزءاً من تكوينه الروحي الذي عكس سلوكية مستقيمة خلوقة شجاعة، بقيت مع الثابت الوطني القومي وتمسكت به، لم تقبل التغيير ولا انحرفت عن العلم.

من فلسطين التي أحبها والتي عمل من أجلها امتد عبر الوطن العربي من خلال المؤسسات التي أشرف على تأسيسها، والتي ستبقى مع الصروح الثقافية الفلسطينية ذخراً لنا، نحن الذين سنبقى نتمسك بهديه وهداه وبيقينه بأنَّ فلسطين عائدة لنا ونحن عائدون إليها.

د.غازي حسين: مناضل ومفكر وباحث وكاتب وقائد سياسي لن ننساه أبداً

د.أنيس الصايغ كاتب ملتزم بعروبة فلسطين، وبالميثاق الوطني وبحقه في العودة إلى مدينته طبرية، وبكل الحقوق الوطنية الثابتة لشعبنا الفلسطيني.

امتدت يد الإرهاب الصهيوني إليه وهو في ذروة عطائه، إذ حاول العدو اغتياله ليلتحق بأديبنا الكبير غسان كنفاني في السماوات العُلا بعد اغتياله بأقل من أسبوعين، وأصيب في عينه ووجهه وأصابعه، لكنه لم يمت كما أراد العدو الصهيوني العنصري والإرهابي.

وشاءت الظروف أن أتعرف إليه في مركز الأبحاث الفلسطيني عام 1968. وتعرفت إلى أخيه د. فايز صايغ في الأمم المتحدة بنيويورك الذي أدى دوراً كبيراً في صدور القرار الأممي 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية.

لقد بدأت الحياة الفكرية للراحل الكبير مع بدايات المسيرة النضالية لشعبنا الفلسطيني، وترك لنا العديد من الكتب التي عالجت أهم قضايا الفكر السياسي الفلسطيني، منها:

يوميات هرتسل و«الهاشميون والثورة العربية» و«13 أيلول» أي اتفاق الإذعان في أوسلو.

لقد أشرف على مركز الأبحاث الفلسطيني وسلسلة الكتب التي صدرت عنه. وأسس الأرشيف والمكتبة الضخمة التابعة للمركز التي قام العدو الإسرائيلي بسرقتها عام 1982 إبان غزو لبنان واحتلاله للعاصمة بيروت، وأشرف على إصدار مجلة شؤون فلسطينية عن المركز وعلى إصدار مجلة شؤون عربية عن الجامعة العربية، وأسهم في إنجاز الموسوعة الفلسطينية.

ولد د. أنيس مناضلاً حارب من أجل فلسطين على جميع الجبهات بقلمه وعقله، فحارب المحسوبية والبيروقراطية والفردية والاستبداد في مركز الأبحاث، لذلك اصطدم مع ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عندما حاول إغراق المركز بالمحاسيب وأنصاف الأميينن إلى أن قدم استقالته وترك مركز الأبحاث وتوجه إلى دمشق لإنجاز الموسوعة الفلسطينية.

رشاد أبو شاور: أستاذ الباحثين، وشيخ المفكرين

أنيس صايغ ليس مفكراً أو باحثاً، بل هو أستاذ الباحثين، وشيخ المفكرين، وهذا ما عرَّضه لأربع محاولات اغتيال: والسؤال، لماذا استهدف هذا المفكر وهو رجل كلمة؟ لأنه شكل خطراً على الحركة الصهيونية، فهو ليس مجرد فرد عادي، هو مفكر ومثقف، ينشئ أجيالاً من الباحثين والمفكرين والمؤرخين والمناضلين، ولا يمكننا فلسطينيين وعرباً، أن نعرف فلسطين دون معرفة ووعي، وهو رجل معرفة ووعي، ومن هنا تأتي خطورته في خلق مقاتلين، وخلق حركة ثورية مسلحة بأخلاق وقيم ومُثُل، لأنه رجل عالي المستوى، رجل قيم وأخلاق، ويحترم نفسه مثقفاً ومفكراً.

واليوم رحل عنا، ونحن نحتاج للفكر الذي تركه، نستلهمه، نحن المؤمنين بعروبة فلسطين وحتمية تحريرها. لقد رفض كل أشكال الانحطاط السياسي الذي نعيشه الآن كعرب وتجاوزها. ومن هنا تأتي أهمية هذا العَلَم الصُّلب، والمفكر الذي لا يجامل. ومن يقرأ كتابه أنيس صايغ عن أنيس صايغ يعرف كيف كان يتعامل مع بعض الشخصيات الفلسطينية فيكشف إفسادها وفسادها.

هو مفكر فلسطيني من منظور قومي عربي، يرى أن لا حرية ولا تحرير لفلسطين إلا أن تكون فلسطين قضية الأمة تحملها وتخوض معركتها جماهير الأمة.

وهو مفكر مواجهة لا مهادنة ولا مجاملة، لم يتمكن الفاسدون من اجتذابه أو التأثير عليه بالامتيازات، فكفاءته عالية، وعلمه واسع، وإيمانه متجذر وعميق.

علي عقلة عرسان: مؤسس لمستقبل المعرفة والوعي

إنَّ ما قام به أنيس صايغ يؤسس لمستقبل يقوم على المعرفة والوعي وأداء الشرفاء لتحرير الأرض. رفض أن يكون سلعة في سوق المال، أو سوق الكلام. له جهد ثقافي نوعي دفع فيه جزءاً من جسده وحيويته، لأن العدو أراد القضاء عليه جسدياً وفكرياً، لكنه لم يستطع، ورغم رحيله ستبقى أفكاره المتميزة ومواقفه السياسية الرافضة للاتفاقيات الاستسلامية، منارةً للأجيال.

محسن صالح: جمع مواصفات قلما اجتمعت في رجل رفض أن يكون في «جيب» أحد أو تحت «جناح» أحد

كان أنيس صايغ عميد البحث العلمي الفلسطيني، جمع مواصفات قلما اجتمعت في رجل، فكان يجمع بين الزهد والتواضع وبين عزة النفس وكبريائها، وكان لطيفاً مؤدباً مع الجميع، لكنه كان يرفض أن يكون في «جيب» أحد أو تحت «جناح» أحد، كما كان يكره التملق والنفاق. كان جاداً يحترم الدقة والانضباط والعمل المثمر. وقبل ذلك وبعده كان ابن فلسطين كل فلسطين، دونما تنازل عن ذرة من ترابها.

كان مستعداً لدفع ثمن مواقفه، وقد فعل، وحتى يكون حرّاً صادقاً مع نفسه، فضَّل أن يعيش عيشة بسيطة في شقة مستأجرة، على الرغم من أنه خريج الدكتوراه من جامعة كمبردج. لقد كان يملك مواهب وإمكانات وعلاقات واسعة، تفتح له آفاقاً لا يحلم بها الكثيرون. لقد فضّل أنيس أن يقدم نموذج المثقف الحر، الذي لو حذا حذوه مثقفونا المعاصرون لربما حدثت حركة نهضوية في أمتنا، تقود الجماهير، وتصوب مسيرة الأنظمة والحكومات، بدلاً من العمل أذناباً للسلاطين ومحامين عن الشياطين.

مثَّل أنيس صايغ حالة منتمية لبلاد الشام تكسر الحدود التي اصطنعتها اتفاقية سايكس بيكو، فهو ابن طبرية الفلسطينية، ووالده عبد الله يعود إلى حوران السورية، وأمه عفيفة تعود إلى البترون اللبنانية، وزوجته هيلدا شعبان إلى السلط الأردنية.

أنيس صايغ ظل على عطائه حتى اللحظة الأخيرة كاتباً ومستشاراً وناشطاً في الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تخدم قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية. رحل بهدوء كما ترحل الزيتونة في الأرض المباركة تعيش واقفة مغروسة في الأرض تحفل بالعطاء، وعندما تموت لا تموت إلا واقفة.