مجلة العودة

ثقافة العودة: الشاعر مطلق عبد الخالق

الشاعر مطلق عبد الخالق

سحابة في سماء الوطن أمطرت حتى آخر قطرة
محمد توكلنا/دمشق
  عند الشاطئ الأزرق في مدينة حيفا كانت سيارة تقلّ شاعراً في ريعان شبابه, مفعماً بحب وطنه, مشغوفاً بنصرة أمته والدفاع عنها بنفسه وبقلمه, وعندما كانت السيارة تجتاز سكة الحديد تعطل محركها, ليعاجلها القدر بمن فيها, إذ اصطدم بها القطار, فأصيب الشاعر مطلق عبد الخالق إصابة بالغة, وحمل إلى المشفى الحكومي ليفارق الحياة في التاسع من تشرين الثاني عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين والشاعر في السابعة والعشرين من عمره. لقد كان الشاعر في طريقه إلى منزل صديقه المحامي وديع البستاني من أجل توكيله في السعي لإطلاق سراح بعض المعتقلين من المناضلين الفلسطينيين الذين سجنتهم الحكومة البريطانية المستعمِرة في سجن المزرعة, ومنهم المناضل صبحي أخو الشاعر.

لكأن الشاعر كان يحس بقرب منيته, فقد وجد أهله معه ورقة مسوّدة كتب بها مطلق وهو يتأمل: "اليوم هو مساء الخميس أنا الآن في غرفة… والساعة الخامسة والدقيقة الخامسة عشرة, أفكر في مبهمات الحياة.. وأقايس بين ما أنا عليه في ساعتي هذة وبين ما سيأتي.. أيها القدر القاسي, ترى ماذا تخبئ لي في القريب بين طياتك؟ دفن مطلق في مسقط رأسه وقد هز خبر وفاته مشاعر أصدقائه ومشاعر رجال الفكر والأدب والصحافة في فلسطين.

كان مولد الشاعر في الناصرة عام ألف وتسعمائة وعشرة في الحي الغربي أو (الميدان). والده محمد عبد الخالق كان مختاراً, وهو من أسرة قديمة الجذور في هذه القصبة التي أصبحت لاحقا مدينة.

تعلم مطلق في مدينته العلوم الأولية، ثم التحق بكلية روضة المعارف في القدس الشريف وتخرج فيها بعد ذلك. وعن هذه المرحلة كتب شقيقه صبحي عبد الخالق ما يأتي: "دأب المرحوم مطلق عبد الخالق بعد انتهائه من الدراسة على مطالعة الكتب الأدبية من عربية وإفرنجية، وأستطيع أن أذكر أنه لم يترك كتاباً إلا قرأه. وكان إذا باحث بعض المثقفين ممن نالوا درجات دبلوم في العلوم في موضوع من المواضيع العلمية أو الفلسفية، يفحمهم وينتصر عليهم, في حين أنهم تلقنوا العلوم في مدارس وكليات أرقى وأعلى بكثير من المدارس التي تخرج فيها، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على نبوغ هذا الشاعر الشاب وذكائه الفذ النادر."

انتقل عبد الخالق بعد ذلك إلى حيفا حيث أسس مجلة كشفية مع عاطف نور الله، سمّاها (كشاف الصحراء), وكانت افتتاحية عددها الأول في الأول من تموز عام ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين: ((بقلوب طافحة بالأمل ونفوس مشبعة بالحماس نقدم على إصدار العدد الأول من كشاف الصحراء ونلقيه بين يديك أيها القارئ مؤملين أن تجد فيه النفع بالرأي ونرجو الفائدة التي نتوخى.. وعليه فالمجلة هي لشباب الرياضة والكشافة وبعض معلمي المدارس وذوي الحرف.. وتلك الصحيفة الجديدة التي تأسست دعائمها على أسس خدمة هذه البلاد… حيفا 1927.((

لقيت هذه المجلة رواجاً كبيراً وإقبالاً بدعم التجار الذين نشروا إعلاناتهم فيها, و المثقفين الذين أثروها بمقالاتهم الأدبية.

انتقل مطلق بعدها ليعمل محرراً لأهم الصحف الفلسطينية، منها النفير في حيفا, والدفاع في يافا, واليرموك. ثم عمل في المؤتمر الاقتصادي, ولنبوغه المستمر فقد أصبح وكيلًا لجميع الصحف الفلسطينية. ثم تسلم وظيفة في البنك العربي الذي رأسَه رشيد الحاج إبراهيم في حيفا، وكان يبعث بنتاجه إلى الصحف, وكانت له زاوية في صحيفة فلسطين اليافاوية.

نضاله:

لقد عايش عبد الخالق إرهاصات سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة اليهود, منذ الانتداب البريطاني وما صاحبه من قهر للشعب الفلسطيني واعتداء على حريته وممتلكاته, وتحيُّزٍ لليهود, ورأى تقاعس الحكام العرب, ولا سيما حين صُدم بتدخل القيادات العربية لوقف الإضراب العام الذي كان جزءاً من الثورة الفلسطينية الكبرى في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين فقال:

قَدَّمتُمُ ـ قبلَ أيَّامٍ ـ مُذَكِّرةً

إلى الحكومةِ، يا قـومَ الزَّعاماتِ

يا ليتَ أنّا عَرَفْنا ما يُطَرِّزُها

مِن المَعاني، ومِن سامي العِبارات ِ

وكان كثيراً ما يتألم حين يرى ما آل إليه حال بعض الشباب من انشغال بالملذات عن قضايا أمتهم, ومصيبة بلدهم, وإقبالهم على الملاهي, بينما يلومه بعضهم على تعلقه بوطنه:

خمسةٌ في حِمى العِدا كُلُّهم لُزَّ في قَرَنْ

في تَشاعيبِ حانةٍ

يَحتويها رشاً أَغَنْفتيةَ الكأسِ حَسْبُكُمْ

واذْرِفوا عَبْرةَ الشَّجَنْ

وانْدُبُوا حَظَّ أُمّةٍ

غالَها غائِلُ المِحَنْ

 
 

لقد وعى عبد الخالق المصائب التي مرت بفلسطين منذ نشأته, فقد أدرك وعد بلفور المشؤوم وهو في السابعة من عمره, وتلاحقت الحوادث المؤسفة يوما بعد يوم أمام ناظريه, ورأى تحيّز الدول الغربية - وعلى رأسها بريطانية الاستعمارية - لليهود, وتخاذُل الحكام العرب عن نجدة الأرض وحماية الشعب الذي تعرض للقمع, وأشنع محاولات التهجير, فشغلته هذه القضايا عن كثير من متع الحياة التي يقبل عليه من هو في مثل سنه, فهو رغم مروره بتجربة حب عاثر عبر عنها بقصيدة منها:

 
 

ولقدْ   أحببْتُ   يوماً   غادةً  

تَرتدي في الحُسنِ أبهى حُلَلِ

ثم غابتْ في زَوايا الأزَلِ

وتَجَنَّتْ   غادتي   في   دَلِّها

 

إلا أنه كثيراً ما كان يُعرض عن المرأة, وهو يعترف بجمالها وفتنتها لاهتمامه بما هو أولى وهو قضايا أمته ووطنه:

 
 

عيناكِ   يا   هذي   شُعاعُ   الضُّحى  

ووجهُكِ   الزّاهي   سَنا   الأربُعِ

وثغركِ   البسّامُ   يَسبي   النُّهَى !

يَضِلُّ   فيهِ   النّابِغُ   الألمعي

لكنَّني   في   كلِّ   ذا   زاهدٌ

زُهدَ   الذي   شَكواهُ   لَم   تُسمَعِ

 
 

وعلى رغم أنه توفي قبل سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة اليهود بأحد عشر عاماً, إلاّ أنه كان يرى مصير فلسطين ماثلاً أمامه, يظهر ذلك من عنوان القصيدة التي نظمها, وهو (فلسطين الشهيدة) التي مطلعها:

 
 

فلسطينُ الشهيدةُ لن تَضيعــــا

ألَمْ تُصْبَغْ مَرابِعُها نَجيعا؟

ألَم تَسقُطْ بها قَتلى وجَرحى

ألمْ تَسْتَقْبِلِ الخَطبَ المُريعا؟

دعتْ أبناءَها للموتِ جَمْعاً

فلَبَّى الجَمْعُ دَعْوَتَها سَريعـــا


لقد رسم صورة واضحة لفلسطين في ذلك الوقت, ورأى أنها لن تضيع, لأنها دعت أبناءها للفداء فهبوا ملبين سريعاً وسالت دماؤهم على أرضها, ورأى كيف أنها لا تعبأ بالعوادي.

إنها تلقى أعاديها وهي تبسم بشجاعة وترى طائراتهم ذباباً, ومدافعهم شُموعاً ولا تَغْتَمُّ بكثرة ما يسقط من ضحايا من أبنائها التي تتخذهم دروعا لها, فهذه الضحايا هم ثمن الحرية التي تسقى دماً فتنبت شرفاً رفيعاً:

 
 

نراها   اليوم   تَبْسِمُ   للعَوادي

وتَحْتَقِرُ   الكتائبَ   والجُمُوعا

تَرى   في   الطائراتِ   ذبابَ   خَصْمٍ

يَطِنُّ   وفي   مَدافِعِهِ   شُموعا  

ولَمْ   تَحفَل   مئاتٍ   مِن   ضَحايا

بلِ   اتَّخَذتْ   ضَحاياها   دُروعــا

هيَ   الحُرِّيةُ   الحمراءُ   تُسقى

فتُنْبِتُ   بالدّمِ   الشَّرَفَ   الرّفيعا

 

لقد دافع عنها الثوار الشرفاء, وشعب يأبى أن يخضع للمستعمرين, وقد استمر هذا الشعب في إضرابه مائة وخمسة عشر يوما لا يبالي بالجوع:

 
 

ي ُدافِعُ عنكَ ثُوّارٌ كِرامٌ

وشعبٌ   دأبُهُ   ألا   يُطِيعا

مَشى في حَلْبةِ الإقدامِ شَوْطاً

بعيداً   يَدفَعُ   الخَطَرَ   الذَّريعا

وأمضَى - لا يَني- مِئةً وعَشْراً

وخَمْساً   ليس   يأبَهُ   أن   يَجوعا

 

إن هذا الشعب قد أقدم ولم يُحجِم, فإن لم يستطع أن يحقق مراده, فيكفي أنه قد بذل كل ما استطاع من جهد:

 
 

فإنْ لم يَستطِعْ دفعاً لأمرٍ

فأقصى هَمِّهِ أن يَسْتَطيعا

لقد أقْدَمْتَ يا شعبَ المَعـالي

ولَمْ تُحْجِمْ فأحْسَنْتَ الصَّنيعا

 

ثم يطمئن فلسطين بأن أهلها لن يتخلوا عنها, وسيبقون يقارعون الأعداء حتى يعيدوا الحق المغتصب ويكللوا فلسطين بتاج النصر, ويحفظوها في صدورهم, ويهزأوا بالعدو المستبد, ويُشهِد الله عليهم, ولئن ضاع لها حق عند عدوها, فهو لن يضيع عند الله عزّ وجل:

آثاره:

 

فلسطينُ الشهيدةُ لا تُراعي

ولا   تأسَيْ   ولا   تَذْرِي   الدُّموعا

فنحنُ وَهُمْ سنبقى في صِراعٍ

إلى   أن   نُنْقِذَ   الحقَّ   الصَّريعا

عَدُوُّكِ إن أَضَعْتِ لديهِ حَقّاً

فعندَ   اللهِ   حَقُّكِ   لن   يَضِيعا

 

إن عبد الخالق رغم رحيله في سن مبكرة إلاّ أنه نشر مقالات وقصائد كثيرة في الصحف التي عمل فيها, وكذلك نشر ديوانه الأول بمشاركة الدكتور داهش بعنوان (ضجعة الموت), وترك خلفه ديوانين مخطوطين هما (ضجعة الموت) و(خواطر وآلام), وقام شقيقه صبحي بعد وفاته بجمع هذه الآثار ونشرها في ديوان سمّاه (الرحيل).

تكريمه:

أُلِّفت لجنة لإحياء ذكراه من لفيف من الأدباء ورجال الفكر منهم :- نخلة بشارة وحسين عبيد الزعبي وأديب جرجورة مدير النادي الأدبي الأرثوذكسي وطاهر الفاهوم سكرتير اللجنة القومية.

وفي ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته، كانت فلسطين تهيج كالبركان بسبب تدخل الزعماء العرب لوقف الإضراب العام, فأقيم للشاعر حفل تأبين كبير وجد فيه الشعراء والأدباء منبراً لنقد هؤلاء الزعماء.

وفي العام التالي أقامت هذه اللجنة حفل تأبين في قاعة سينما أمبير، تحدث فيها الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وأشاد الحضور بحياة مطلق القصيرة التي ملأت الدنيا أدباً وشعراً وبكفاحه بقلمه وفكره ونشر كثير من كلمات التأبين التي ألقيت بذكرى وفاته في ديوانه (الرحيل).