مجلة العودة

ثقافة العودة : النِّداء القومي عند الشاعر مأمون فريز جرار

النِّداء القومي عند الشاعر مأمون فريز جرار
 
 

إن المطّلع على قصائد الشاعر مأمون فريز جرار تتجلى له روح شاعر فتح عينيه على نكبة فلسطين وتأثيرها في وطنه وأهله، فرأى معاناتهم وآلامهم من شتات وعيش في الخيام؛ فالعيد يطل، وهو يرى هذه المعاناة، والرياح الهوجاء تقوض خيامهم، وتزعزع أوتادها المصائب المهلكة، فكيف يشعر بما يشعر به الناس من سعادة بقدوم العيد، وكيف يسعد أهله بالعيد وهم على هذه الحال:

الجرحُ في قلبي عميقٌ

جرحُ قومي النّازحينْ

جرحُ الخيامِ تهدّها

ريحٌ تزمجرُ كالمَنون 

ويزلزلُ الأوتادَ منها

سيلُ موتٍ لا يَلين

والعيدُ أقبلَ كيف يفرحُ

في الخيامِ النّازحون

ويزيد حزنه وأسفه حين يرى قومه - على رغم ما يعصف به وبأهله - لاهين ذاهلين سائرين خلف السراب، فيرتفع نداؤه وهو ينبههم إلى ما هم فيه من الضياع، بينما يرى هو الأمة تغالب الصعاب التي تواجهها:

ما لي أراكم ذاهلينَ سُكارى

ما لي أراكمْ تائهينَ حَيارى

ما لي أراكم تركضونَ لِهُوّةٍ

خَلفَ السّرابِ ألا تَرونَ مَنارا

يا قوم أبكتني مصائبُ أمّةٍ

لاقَتْ سفينةُ رَكبِها إعصارا

ويشتد نداؤه إلى أخيه ساكن الخيمة ليهُبَّ من غفلته، ويكسر قيده؛ فالدنيا لا تعطي قيادها لغافل، وإنما ينبغي أن يسعى لها سعيها، ويدعوه إلى عدم الاتكال على شعر وخطب، ولا تصديق المواعيد الكاذبة، وأن لا يعبأ بالتهديدات التي يطلقها أعداؤه:

فإلامَ تبقى في الخيام مكبّلاً

تُفني الحياةَ بغفلةٍ وبُرودِ

ما هذه سننُ الحياةِ وإنّما

سننُ الحياةِ السّعْيُ للمفقودِ

لا الشعرُ يُجدينا ولا خُطبٌ ولا

ترديدُ وعدٍ كاذبٍ ووَعيدِ

إن مدى دعوته يطول قومه جميعاً ليهبوا هبّةَ الأحرار؛ فالله تعالى لا يرضى لعباده أن يعيشوا حياة تذلّلٍ وخنوع، كما يعيش العبيد، فإمّا النصر أو الشهادة في ساح المعارك لتحرير الوطن وعودة اللاجئين إلى ديارهم:

يا قومَنا هُبّوا فما يَرضى لنا

ربُّ العبادِ تَذلّلاً كعبيدِ

سيّانِ نصرٌ أو مماتٌ إنَّما

آمالُنا عَوْدٌ لكل شريدِ

ويفيق الشاعر على جريمة من أكبر جرائم التاريخ يُمنى بها أهله. إنها مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا، فينادي شعره لكي يسعفه، ويبقى بعدها ليالي عديدة يحاول أن يستدرَّ القوافي ليصف هذا الحادث الرهيب، فلا تسعفه القوافي، حتى لكأنه لم يسامر الشعر ولم يعاشره يوماً ما، ثم يكتشف أن الشعر كان يطاوعه في أيام الرخاء، ويعصى عليه قياده في أيام المحن، فيعجب الشاعر من ذلك:

كم ليلة بتُّ فيها حائراً قلقاً

أستمطِرُ الشعرَ أبياتاً فيَعصيني

كأنني لم أكنْ والشعرَ في قرَنٍ

أسقيهِ مِن ذَوْبِ أفكاري ويَسقيني

إلى أن يقول:

عجبتُ يا صاحِ من شعرٍ يطاوعني

يومَ الرخاءِ وحينَ البأسِ يعصيني

لقد كان نداء الشاعر سابقاً لجاره في المخيم، ثم بعد ذلك لقومه، والآن أصبح نداؤه لشعره وقوافيه، فهل لبّى هذا الشعر نداءه:

في يومِ صَبرا وشاتيلا بكيتُ فلَم

يُسعِفْ قصيدٌ ولم تشفعْ دواويني

إن اقتناع الشاعر يزداد بأن الشعر لا يمكن أن يسعف الأمة، فأجدى من الشعر أطفال خرجوا منتفضين في وجه الغزاة، وهؤلاء الأطفال لو أنهم حصلوا على السلاح لاستطاعوا أن يعيدوا للأمة مجدها ونصرها الذي كان في معركة حطين:

نفسي الفداءُ لأطفالٍ لَوَ انَّهُمُ

حازوا السّلاحَ أعادوا مجدَ حِطّينِ

ويتطور النداء عند الشاعر؛ فليس هو الذي ينادي فقط؛ فالفتاة في القدس، وهي ترى حريق الأقصى، تهتف منادية كما نادت من قبلها الأسيرة في عمّوريةَ المعتصمَ العباسي. إن الفتاة اليوم تعيد النداء (وامعتصماه) فلا يسمعها المعتصم، فتنادي الإسلام (وا إسلاماه)، لكن آذان العرب المسلمين لا تسمعها، ولا تصغي إلى ندائها ولا نداء المسجد الأقصى المحترق الذي يمتد دخانه في آفاق الأرض العربية، والشاعر يتوقع أن تصيب البحّة هذه الأصوات التي تنادي؛ لأن لا أحد يسمعها:

ما زالَ دخانُ الأقصى مُمْتدا

عبْرَ الآفاقِ العربية

وهُتافُ فتاةٍ قدسية:

وامعتصماه

وا إسلاماه

سَيُبَحُّ الصوتُ الهاتف

فالآذان العربية

لا تصغي لنداء الأقصى

إن النداء كان صرخة قوية مجلجلة، تدعو هذه الأمة، وهذه الصرخة انطلقت يوم سقطت أرضنا في أيدي الغاصبين المحتلين، وما زال هذا النداء يخضب الأفق بالدماء. إنه دعوة للموت في ساحات المعارك:

صرخة في أرضنا ممتدة

جلجلت في القدس

يوم الاحتلال

لم تزل في أفْقنا دامية

دعوة للموت

في ساح النضال

هذا هو النداء عند الشاعر مأمون فريز جرّار. نداء انطلق يوم سقطت أرض فلسطين وما زال يتردد حتى اليوم، وسيبقى مجلجلاً حتى يسقط المغتصبون وتعود الأرض إلى أهلها، ويعود مجدها، مجد حطين وصلاح الدين.