مجلة العودة

ثقافة العودة :شواعر الأرض المحتلة عطاء متجدّد ونبع لا ينضب

شواعر الأرض المحتلة
عطاء متجدّد ونبع لا ينضب
 
محمد توكلنا

المرأة الفلسطينية مثال للمرأة المضحّية المشاركة للرجل في النضال ضد الصهاينة المغتصبين في كل ميادين الكفاح، فكان منها المقاتلة التي تحمل البندقية في ساحة الحرب، والممرضة التي تداوي الجراح، والأم التي ترعى أبناءها، وتنشئهم على حب وطنهم وتزرع فيهم الإباء والثورة، والهمة العالية لتحرير الوطن ونيل الحرية.
ولم يكن جهاد المرأة في هذه الميادين فحسب، فقد شاركت المرأة المثقفة في نصرة شعبها والدفاع عن وطنها، فامتشقت قلمها وانطلقت برقّة الأنثى وحَدْبها في ميادين الفنون والأدب والشعر وغيرها من الميادين. وقد عرفت الساحة الثقافية شواعر فلسطينيات أثرين الثقافة العربية والفلسطينية بقصائد تفيض بمحبة الوطن والحنين والرقة وبالإباء والصمود في وجه المعتدي والطموح إلى تحرير الأرض والشعب من قبضة الصهاينة المغتصبين. ومن أُوليات هؤلاء الشواعر فدوى طوقان التي وهبت وطنها وشعبها قصائد ملتهبة فيّاضة بالحب والثورة والنضال؛ فقد نراها تتكلم باسم شعبها التوّاق إلى الحرية، ذلك الشعب الذي سيبقى يناضل من أجل حريته من دون أي كلل أو وهن. لذلك، سيحفر اسم حريته في كل مكان من أرض وطنه:
حريتي، حريتي، حريتي
سأظلُّ أحفِر اسمَها وأنا أُناضلْ
في الأرضِ، في الجدرانِ، في الأبوابِ
في شُرَفِ المَنازل
في هيكل العذراء، في المحراب، في طرق المزارع
في كل منحدر ومرتفع وشارع
ولا تقتصر على نشر الحرية في الأماكن المفتوحة من أرض وطنها، بل في أضيق الأمكنة، وأبعدها عن الحرية؛ في السجون والزنزانات وعلى أعواد المشانق، ولن تثنيها الجرائم التي يقترفها الصهاينة بحق شعبها:
 في السجن في زنزانة التعذيب في عود المشانق
رغم السلاسل رغم نسف الدور
رغم لظى الحرائق
إن الشعب لن يتوقف عن نضاله حتى يرى دائرة الحرية تتسع حتى تشمل الوطن كله فتغطي كل شبر منه وتدخل إلى كل مكان، وحتى تشارك ضفاف النهر المقدس، وجسوره، حتى الرياح والأمطار والرعود ستشارك في الهتاف باسم الحرية مع الشعب الذي يناضل لتحقيقها:
سأظل أحفر اسمها حتى أراه
يمتد في وطني ويكبر
ويظل يكبر
ويظل يكبر
حتى يغطي كل شبر من ثراه
حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كل باب
ويردد النهر المقدس والجسور:
حريتي!
والضفتان ترددان: حريتي!
ومعابر الريح الغضوب
والرعد والإعصار والأمطار 
في وطني ترددها معي:
حريتي حريتي حريتي
وترى شاعرتنا أن وحدة المناضلين الفلسطينيين بكل فصائلهم هي السبيل لتحقيق النصر، وفي الوحدة حفظ لثورة الشعب الفلسطيني من التشتت والضياع:
يا إخوتي
بدمي أخطُّ وصيّتي
أن تحفظوا لي ثورتي
بدمائكم
بجموعِ شعبي الزّاحفة
فتحٌ أنا
أنا جبهةٌ
أنا عاصفة
وأما الشاعرة سلمة الخضراء الجيّوسي، فإنها تنظر إلى وطنها وقد أثقلته المأساة، مأساة النكبة، وإلى خيول الحرب العربية التي أسقط فرسانها عنها، فهي لا تجد اليوم من  يعلفها، وروابي الوطن الخضراء لم يعد أحد يتعهّد زرعها والعناية ببساتينها، لقد فقدت أهلها، ذلك الشعب العزيز الذي تاه في الشّتات:
حاجلاتُ الخيلِ مَن شرّدها عن مرتقاها
من رمى فرسانها عنها، ومن في عريها يعلفها
والذرى الخضراء من يعرفها
كأن في أرجائها شعبٌ عزيزٌ ثمّ.. تاها
وتهاجم شاعرتنا بريطانيا التي هي السبب في هذه النكبة، وتتوعدها بأن الثأر لا بدّ سيأتي عليها. لذلك، فعليها ألاّ تستبشر وتهنأ بعدوانها:
يا بريطانيا لا تغالي.. لا تقولي: الفتحُ طابْ
سوف تأتيك الليالي ....... نورها لمْعُ الحِراب
وتنظر الجيوسي فترى عمّها وأبناءه أصبحوا في حاجة للصدقات بعد أن أمسوا لاجئين. إن عمّها يستجديها، ليس له وحده، بل لجميع اللاجئين الذين زحفوا نحو شرق فلسطين جميعاً مثله في حاجة للصدقات:
راعبًا ضجّ الرنين
ثم ذاك الصوتُ ملحاحًا حزين
«أرسلي غوثَكِ شرقًا
كلُّ أعمامكِ أمسَوا لاجئين»
إنها ترسل إليهم ما كان لديها من ثياب قد أعدّتها لتتصدق بها على المتسوّلين وطعاماً وبعض المال، وترسل معها دموعها وأنينها، إنها منذ اليوم لن تجود بعطاياها على أحد من السائلين، فعمومتها وأبناء عمومتها أحوج إلى هذه الصدقات - والأقربون أولى بالمعروف – بعد أن أصبحوا لاجئين:
فتنهّدتُ مليّاً وتحرّقتُ عليهم
ثم أرسلت لأعمامي ثياباً
وزبيباً كان عندي لم نكن نأكله
وقروشاً لزْجةً لا وهجَ فيها أو رنين
ودموعاً ودموعاً ودموعاً وأنين
منذ ذاك اليومِ لم أَمنحْ قروشي سائلا
فبنو عمّيَ أمسَوا لاجئين
والشاعرة هيام الدردنجي يجلجل صوتها في الآفاق، وهي تتحدى المستعمرين الذين أرادوا أن يكسروا صمودها وصمود أصحاب الأرض، في الوقت ذاته الذي تفضح فيه جرائم المستعمر الذي يرتكب الفظائع ليثني هذا الشعب عن مواصلة كفاحه:
قد تزرعون سهامكم   في القلب دون كلالةِ
وتقطّعون بكلِّ حقدٍ ساعديَّ وراحتي
وتحطّمون عظام ظهري كي تموتَ شهامتي
وتدمّرون قصور آمالي وأسقفَ دارتي
وتمزّقون الحلم في صدري بكلّ ضراوةِ
لكنني مهما فعلتم لن أطأطئ هامتي
فأنا المناضل والصمود على المصاعب عادتي
ولسوف أبقى مارداً لا شيء يحني قامتي
ولسوف تعلو فوق آفاق البرايا راحتي
وبعين الأنثى ترى أحلام المرأة التي شرّدت من أرضها هي وأسرتها، ويمضي زوجها للقتال في الأرض المحتلة، وقد وعدها بأن يحرر الأرض ويعيد أهله إلى دارهم ويبعث الأفراح في قلبها من جديد، فترى أشجارها التي زرعتها هناك وإلى بستانها الذي زرعت فيه آمالها بأن ترى أزهاره وثماره:
يواعدني بأنْ – يا قوم – يرجعَني إلى داري
ويرجعَ بسمةَ الأفراحِ في قلبي وأشعاري
ويأخذَني إلى بيتي وحيث زرعتُ أشجاري
وحيث غرستُ في البستانِ آمالي وأزهاري
وترسم صورة رائعة لخروجه إلى المعركة، فقد خرج في ظلام الليل فسار على دربه، وهذا الدرب قد عرف هذا المناضل لكثرة ما يسير عليه، فأمّا يده القوية ففيها صمود عجيب كصمود المدفع الرشاش والخنجر، وأما عيناه فينطلق منهما شرار كأنه بركان ملتهب، وفوق ذلك كله فالإصرار يملأ جلده فيصبح هو كتلة من الإصرار ذات وجه كادح أسمر:
ويمضي في ظلام الليل في درب به أخبَرْ
وفي يده صمود المدفعِ الرشّاش والخَنجر 
وفي عينيه بركان بلونٍ قاتمٍ أحمرْ
وإصرارٌ له جلدٌ، ووجهٌ كادحٌ أسمرْ
وألهبت انتفاضة الحجارة قريحة الشاعرة حين رأت الحجر قد حقق المعجزات وقرّب الانتصار بعد أن تفطر قلب الشاعرة بالحزن وقارب على الموت، فهي الآن لشدة فرحها لا تجد من الكلام الجميل ما يوفي هذه الانتفاضة حقّها، فيما تجد أن الأمانيّ الجميلة بالتحرير ستتحقق كما يخرج الماء نبعاً من صمّ الصخور:
تفجّرَ بالمعجزات الحجَرْ
                            وقد أوشك الفجر أن ينتشرْ
وقلبي تشقق بين الضلوع
                       وفاضَ من الحزنِ حتى احتضِرْ
وأعجز عن كل قولٍ جميل
                           عصاني النشيد وضاع الوتَرْ
وأحلى الينابيع أحلى الأماني
            ستدفق من شقّ هذا الصّخَرْ
ثم تناجي هؤلاء الصبيان الذين يحملون الحجارة وهم كأزهار الربيع نَضرةً، إنهم أججوا الثورة التي تصنع ما استحال على غيرهم، ووقفوا وقفة العزّ والكبرياء، وأصبح النصر قريب المنال سيصل كما يصل فارس الأحلام. إن الشاعرة قد صمتت أمام جلال هذه الثورة فلم تعد تنشد أناشيدها، وقلبها لم يعد فيه إلاّ هدير النبض، وأصبح الحجر هو الذي يحقق الأمنيات:
أيا صبية مثل زهر الربيع
                         يفيضون بالحب فيض النهَرْ
ويا ثورة تصنع المستحيل
                               وتنشر أحلامها في البشرْ
ويا وِقفة العز والكبرياء
                             ويا صرخة الفارس المنتظَر
لقد مات فوق شفاهي النشيد فما
                                    عدتُ أعرف فنَّ الشّعَرْ
وما عاد للقلب غيرُ الهدير
                                 لينطِقَ بالأمنيات الحجَرْ
والشاعرة عائشة الرازم تبعث برسالة إلى العرب المشغولين عنها وعن شعبها، تبعث إليهم برسالة من الضحايا الذين قتلوا والأرض التي اغتصبت. إنها رسالة آهات وأحزان تشتعل في القلوب وفي الأقلام، وأصحاب الرسالة صدورهم تحترق، وهم ثائرون يشعلون الإطارات في الطرقات ويكتبون المقالات والأشعار:
قل خبِّروا عنّا..
وعن بلدي..
وآلاف الضّحايا..
وخبّروا عنّي وعن أرضي
وآلام الصبايا..
تجدون منّا الآه نار
في الحبر بترول ونار
في الصدر كبريت ونار
في البيت أشواق لبيت فيه نار
وفي طريق الدار
يشتعل الإطار
إن الرسالة مرسَلة إلى الصحافيين، وكذلك إلى العرب الذين تمتلئ خزائنهم بالذهب. وترجو الشاعرة أن تكون هذه الرسالة ناراً تحرق حفلاتهم وأفراحهم التي تشغلهم عن قضايا الشعب المقهور. فعسى أن يحسّوا حين تصلهم بحرارة لظاها، فإذا صرخوا من شدّة حرّها أجبناهم بقولنا: ما منفعة النار إن لم تكن تحرق رؤوس الظالمين؟:
قل خبّروا عنّا الصحافة والعرب
أقلامنا نار عليهم كاللهب
قل خبّروا عنّا براميل الذهب
فعسى تكون النار منّا
ضوء حفلٍ في احتفالات العرب
فلربما صرخوا معاً
اللهَ ما أحمى اللهب!
لنجيب: ما جدوى اللهب
إن لم تكن نار الوغى
تصلي رؤوس الظلم
تأكلها كما تأتي الحطب..
وبعد، فهذا غيض من فيض، وأرضنا العربية ملأى بالأديبات والشواعر والمبدعات في كل لون من ألوان الثقافة والفن، وإن الأمة التي أنجبت الخنساء وغزالة الحرورية، لا شك في أنها أمة معطاءة وستبقى تجود بأمثال هؤلاء المبدعات حتى يرث الله الأرض ومن عليها ♦