مجلة العودة

عماد الدين خليل : يظل الوعي الأدبي ينبض بالوجع الفلسطيني

  عماد الدين خليل :  يظل الوعي الأدبي ينبض بالوجع الفلسطيني
د.هشام عبد الله / الموصل
 
 
في أرض شهدت دعوة نبي الله يونس (ذي النون)ونالت بركة هذا الدعاء، في الأرض التي لا تزال تشمخ بمنارة الحدباء في الجامع النوري الكبير، وترقد في ترابها قامات بارزة في التاريخ الإسلامي من علماء ومؤرخين ومفكرين، من أرض نينوى وتراب الموصل الحدباء يجيء التغريد جميلاً محمّلاً بعبق الماضي وديمومة الحاضر مع الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل، المؤرخ والأديب والناقد العراقي. بطاقة هويته تقول:عماد الدين خليل تولّد عام 1941، أكمل الدراسة الابتدائية في الموصل، وحصل على الإجازة في التاريخ والحضارة الإسلامية من جامعة بغداد عام 1962.
ثم أكمل الماجستير في الجامعة ذاتها عام 1965.
ثم شدّ الرحال إلى أم الدنيا، حيث استقر فيها ليكمل درجة الدكتوراه في عام 1968. ومنذ ذلك التاريخ والهمّ الإسلامي الكبير يختلج في صدره، وما زال. ورغم المؤلفات التي شارفت على الثمانين فكراً وتاريخاً وأدباً ونقداً، إلا أن روحه المحمّلة بالتاريخ والأدب والفكر ما زالت تتطلع إلى المزيد من العطاء.
 
 

عماد الدين خليل، ابتداءً في التوصيف، هل هو المفكر؟ الناقد؟ المؤرخ؟ الأديب؟

 

أنا هؤلاء جميعاً، لم يغلّب طرف على طرف آخر، بدليل أن مؤلفاتي المنشورة تتوزع بالعدل والقسطاس على هذه السياقات الأربعة.

هذا يعني أننا أمام شمولية في المعرفة، ومن ثمة شمولية التأليف؟

نعم، إن بؤرة الاستقطاب في كتاباتي التاريخية والفكرية والأدبية، هي "الأسلمة".
هي تمرير كل مفردة معرفية من خلال الرؤية الإسلامية (لعلّ هذا ما جعلني بعد عقود عديدة اندفع في التعامل مع حركة إسلامية المعرفة التي يقودها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وأستجيب للعديد من المشاريع الفردية والجماعية التي عرضها عليّ وعلى الآخرين، والحالة نفسها تنطبق على تعاملي مع رابطة الأدب الإسلامي العالمية ومشاركتي في التأسيس لقيامها).

مهما يكن من أمر، فإنه منذ البدايات المبكرة في أواخر الخمسينيات، وصولاً إلى الأعمال المحددة والرسمية لأنشطة المعهد العالمي ورابطة الأدب في الثمانينيات، كان هدف كل حرف انضاف إلى بعضه لكي يصوغ الكلمة، فالعبارة، فالفقرة، فالفكرة، فالفصل، فالمبحث، فالكتاب، كان الهدف واحداً: النبض والإيقاع والمؤشر، أن تصاغ كل المفردات المعرفية، أو يجري التعامل معها، من خلال الإسلامية...ألاّ يمر، ويتشكل، ويأخذ جواز السفر، ويحمل الشرعية، إلاّ ما تسمح به الإسلامية، وما لا تسمح به يتحتم أن ينتقد، أو يرفض، أو يفكك للبحث عن عناصر التلاؤم، أو يستبعد كلية في نهاية الأمر.

 
 

هل لك دكتور أن تقدم لنا توصيفاً لمسيرة الشاعر عماد الدين مع القضية الفلسطينية: البداية والمسارات

 

  لا أعتقد أن أي شاعر في الوطن العربي والإسلامي لم يبدأ أولى قصائده، بل أولى كلماته بالوجع الفلسطيني، ومن ثم فإن أوّل قصيدة كتبتها، وأنا بعد في الصف الثالث المتوسط (1956م) حملت اسم فلسطين؛ ذلك أننا جيل فتح وعيه منذ البدايات الأولى على نكبتنا في فلسطين عام 1948م، فانبصمت آثارها في عقولنا ووجداننا، وتموضعت في مفاصلنا وأحاسيسنا ورؤيتنا للحياة، ومضت الأيام، وكرّت السنون، وازدادت قدرتي المتواضعة على الأداء الشعري المحكم، فأصدرت في عام 1978م ديواني الأوّل (جداول الحب واليقين)الذي ينطوي على كتاباتي الشعرية للأعوام 1957-1978م، ثم أعقبه في عام 1998صدور ديواني الثاني (ابتهالات في زمن الغربة)، وكلاهما يتضمنان العديد من القصائد التي تنبض بالهمّ الفلسطيني، وتبشّر باليوم الموعود، ومن بينها القصيدة التي تحمل عنوان (الضوء في الظلمة)، والتي أهديتها إلى حماس ونشرتها في مجلة (فلسطين المسلمة). بعدها رجعت أكتب الشعر على تباعد في الزمن، حيث استغرقتني مشاريعي الفكرية والتاريخية والأدبية.
ومن بين ما كتبته قصيدة (فها هي حطين أخرى) خاطبت فيها أبطال (حماس) وجاء فيها:

طلتم وقد أطفِئت نارُها

وساوم فيها بغام الضلال

تساقط في كل حي صغارٌ

طلعتم وقد أظلم المشرقان

فلا هي أمضت خطى في الطريق

تــــــنكّـــــــر حتـــــــــى صـديـــــــــــــــــــق لهــــــــــــــــــــــــــا

وضلّ على الدرب أنصارُها

وحاق بأزلامها.. عارها

وحيناً تهافت كبّارها!

ودوّم في الأفق إعصارها

ولا انكشفت عنها أخبارها

وغُيّـب فـــــــــــــي الجـــــــــــــــــــب أبـــــــــــــــرارهـــــــــــــــا

* * *

تداعت عليها ومن كل فجّ

تحفّز حتى دعاة الصليب

تنادوا إلى موعد زائف

طلعـتم فهــــــــــــــــــا هــــــــــــــــــــي حطـين أخــــــرى

 

أفاعٍ تلطّخ زنّارها..

وأنذر بالويل أحبارها

وطاف بـ"مجدون" زوّارها

وجـالـوت قـــــــد أشعــلــــــــــــــــــــــــت نارهــــــــــــــــــــــــا

على أية حال، تبقى فلسطين (البؤرة) التي تلمّ أدباء العـروبة والإسلام إلى أن يقضي الله سبحـانه لهذه الأمة تنفيـذ الوعد الذي وعـدها به رسـول الله (صلى الله عليه وسلم).

 
 

 تمثل حرب غزّة الأخيرة انعطافاً في مسار القضية، فهل شهدت تطورات القضية الفلسطينية هذا الحضور في كتاباتك؟ وأهم التيمات التي شُغل بها الدكتور في تمثيله للقضية؟

 

على مدى يزيد على نصف قرن، وأنا أكتب في الفكر والتاريخ والأدب (تنظيراً ونقداً وإبداعاً)، ما بارحت القضية الأم ذاكرتي أو تراجعت عن كلماتي.
كانت الثيمة التي تشكل بنغماتها المحزنة والمفرحة معاً.
فصول بكاملها من مؤلفاتي في السياقات الثلاثة، بل أعمال بكاملها مضت للقضية.
في الحالة الأولى هنالك المؤلفات الآتية:
مدخل إلى التاريخ الإسلامي، دراسة في السيرة، المستشرقون والسيرة النبوية، دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية، دراسات تاريخية، الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين، ملامح مأساتنا في أفريقيا، كتابات إسلامية، تهافت العلمانية، مع القرآن في عالمه الرحيب، آفاق قرآنية، حوار في المعمار الكوني، رؤية إسلامية في قضايا معاصرة، كتابات على بوابات القرن الخامس عشر الهجري، متابعات إسلامية في الفكر والدعوة والتحديات المعاصرة، مؤشرات إسلامية في زمن السرعة، في الرؤية الإسلامية، في دائرة الضوء، من النافذة الإسلامية، فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر، حول استراتيجية الأدب الإسلامي، مذكرات جندي في جيش الرسول (صلى الله عليه وسلم).

وفي الحالة الثانية، هنالك المؤلفات الآتية: لعبة اليمين واليسار، أضواء جديدة على لعبة اليمين واليسار، الرؤية الآن: في هموم فلسطين والعالم الإسلامي، أولى ملاحم القرن، مذكرات حول واقعة 11أيلول، أمريكا مرة أخرى، في النقد التطبيقي، ديوان (جداول الحب واليقين)، ديوان (ابتهالات في زمن الغربة)، ريبورتاج:حوار في الهموم الإسلامية، لقاءات صحفية، الطريق إلى فلسطين، مسرحية (الهمّ الكبير)، مسرحيات (معجزة في الضفة الغربية)، (خمس مسرحيات إسلامية)، مسرحيات (العبور).

إنها أحد الخيوط الأساسية التي تربط مؤلفاتي جميعاً.

 
 

في مرآة الشعر مَن هم الشعراء الذين شكلوا علامة بارزة، تأثر أو تواصل معهم د. عماد الدين خليل؟

 
 

كثيرون. كثيرون جداً. يصعب حتى استدعاء أسمائهم. أحمد شوقي، الجواهري، يوسف الخطيب، سليمان العيسى، الأميري، محمود مفلح، الصدّيق، الامراني، الرباوي، ونزار قباني في قصائده السياسية لا الوجدانية. والقائمة تطول.

 
 

هذا يستدعي سؤالاً لمعرفة تقويمك للنتاج العربي الحديث بعامة وحضور القضية فيه؟

 

كما قلت في بدء الحوار، ليس ثمة نتاج عربي إلا والقضية حاضرة فيه. لكن الرؤى تختلف – بطبيعة الحال – بين شاعر أو أديب أو ناقد أو آخر.
هنالك كثيرون ممّن سحبتهم إغواءات الحداثة الغربية ذات البصمات اليهودية، والعرّابون اليهود، فبعدوا عن القضية بدرجة أو أخرى، وهنالك قبلهم من اندفعوا وراء بريق الماركسية الخادع، فانقلبوا على بداهات القضية ومسلّماتها. إن الماركسية تريدها صراعاً طبقياً يعترف بإسرائيل المغتصبة إذا أُتيح للطبقة العاملة أن تزيح البورجوازية الحاكمة من سدّة الحكم. وهنالك فئة ثالثة حجّمت القضية في إطار قومي علماني ضيّق، وسعت إلى فكّ الارتباط بينها وبين العمق الإسلامي المؤثر والمؤكد، وغير هؤلاء وهؤلاء كثيرون ممن شذّ بهم الطريق، لكن يبقى أن أكثرية الأدباء العرب ما انفكت ابداً عن التحامها بالوجع الفلسطيني.
 
 

يسلط الإعلام الضوء على شعراء حتى نظنّ أنهم قد انفردوا بالقضية، ألا ترى أن قامات الشعر الفلسطيني قد اختزلها النقّاد والدارسون بأسماء محدودة، وكأن لا وجود لغيرها؟

 

بالتأكيد؛ فمعظم النقاد والدارسين العرب يمارسون نوعاً من المصادرة لمن لا يسير على هواهم، فيطمسون على عطائه، ويختزلون جهده المكافح اختزالاً، بينما – من ناحية أخرى – يحاولون ما وسعهم الجهد أن يبرزوا ويلمّعوا قامات الشعراء الذين يضربون على أوتارهم: علمانيون، ماركسيون، يساريون، حداثيون، لا دينيون... إلخ. وتحضرني الآن ذكرى مؤتمر عقد في عمّان عام 2004م دعي إليه وزير ثقافة الحكم المحلى يومها وراح الرجل – عندما حان دوره لإلقاء كلمته – يعرض أسماء شعراء فلسطين، ومعظمهم غير معروف، دون أن يكلف نفسه عناء إضافة أي شاعر إسلامي التوجّه إلى قائمته، فلما انتهى من كلمته قلت له:إنك قد أهملت شعراء كباراً حمـلوا أكثر من غيرهم الهمّ الفلسطيني في العديد من دواوينهم، بل إنهم أعدّوا هذه الدواوين بكاملها للقضية الفلسطينية، من مثل (محمود مفلح)، فلماذا؟ فما كان منه إلاّ أن قال لي: إنك على حق، ولكني لم أسمع بشاعر يحمل هذا الاسم!!

وقد عالجت قضية الاختزال هذه بالتفصيل في كتابي الذي نشر في لندن (ريبورتاج: حوار في الهموم الإسلامية)، فلا أريد أن أطيل فيه.

 
 

هل يمكن أن يكون انشغال الشاعر الإسلامي بمرحلة ما بعد الربيع العربي تذويباً  لقضية العرب والمسلمين في وعيهم الأدبي؟

 

على العكس تماماً.فإن أحد الدوافع الأساسية التي فجرّت ثورات هذا الربيع إنما هو الموقف المتميّع والمهادن والمساوم والمجمّد للقضية من قبل طواغيت هذه الأمة الذين تربعوا في قمة السلطة باتفاقات معلنة أو غير معلنة مع مراكز التحكم في مصائر العالم، واستمروا يجلدون شعوبهم ويسكتون – في الوقت نفسه – عن تحديات إسرائيل المغتصِبة. بل إن عشرات السنين من التحكم لم تروِ غليلهم للسلطة، فرتبوا الأمور بالاتفاق مع أحزابهم أو مطاياهم الحاكمة، لكي يتسنّم السلطان من بعدهم أبناؤهم وأبناء أبنائهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكان شعارهم (جئنا لنبقى). بينما في المنظور الإسلامي ليس ثمة دوام على الإطلاق لأي حاكم أو حزب أو فئة، بل هو التغيّر والتبدل الدائم: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب). ففي هذه الآية تقرير حاسم عن أن الذي يحكم هذا العالم ليس بوش ولا أوباما ولا بريجنيف ولا هتلر أو موسولينى، ولا القذافي أو شين العابدين أو حسنى مبارك، بل هو الله الذى ينزل مقصّه على الدول والممالك والإمبراطوريات الكبرى، فينتقصها يوماً بعد يوم، ثم لا يلبث أن يزيحها من الوجود. وليس ثم استئناف لحكم الله إذا ما انقضت الآجال، وثارت الشعوب على طواغيتها وأزاحتها عن مراكز التحكم والسلطان.

وتاريخ البشرية شاهد على صدقية هذه الآية القرآنية. فهل قدّر لدولة أو مملكة أو إمبراطورية أو حتى حضارة أن تستمر إلى الأبد؟ أنْ تحتكر التاريخ وتضعه في جيبها؟ كما ادّعت يوماً الماركسية في شرق العالم، وكما ادّعى فوكوياما بنظريته في (نهاية التاريخ) التي تضع المصير البشري في يد أمريكا الليبرالية في غرب العالم؟

والآن.
أين هو الاتحاد السوفياتي الذى أُريدَ له من خلال حاكم الطبقة العاملة أن يتسلم مقاليد السلطان في العالم إلى نهاية التاريخ؟ بل أين هي نظرية فوكوياما التي ما لبث أن عاد بعد سنوات من إعلانها لكي يغيّر ويبدّل في مقولاتها الأساسية؟ بل أين هي إمبراطورية الألف عام التي أعلنها هتلر في كتابه (كفاحي)والتي لم يقدّر لها الدوام سوى اثني عشر عاماً فقط؟ وأين هو مشروع موسوليني الذي أعلن من شرفته في روما، وهو يخاطب جموع العباد والخاضعين: (سنركز راياتنا فوق النجوم)؟ إذ ما لبثت راياته أن انتكست، وراحت جموع الشعب الإيطالي التي عبدته، تلاحقه وعشيقته من مكان إلى مكان في سهول لومبارويا، وهو يهرب من بين يديها كالجرذ المذعور، حتى ألقت القبض عليهما ورشتهما بالرصاص؟!

وغير هذه التجارب عشرات، بل مئات مما نزل عليها المقص الإلهي وأخرجها من التاريخ..ولسوف يظل الوعي الأدبي ينبض بالوجع الفلسطيني، وستزيده احتراماً ثورات الربيع العربي لأنها في نهاية التحليل وبدئه استجابة محتومة لهذا الوجع.