مجلة العودة

فلسطين في الكاريكاتير المصري (الحلقة الخامسة)

 فلسطين في الكاريكا تير المصري (الحلقة الخامسة)

قضايا الشعوب

  عبد الرحمن بكر / القاهرة

من الرائع والنادر عبر تاريخ الإنسانية أن يحيا المقاتل حتى العقد التاسع من عمره وهو بوعي كامل، وأن ينال الفرصة والوقت لجمع بطولاته عبر تاريخه الطويل، والحكي عنها، وخاصة إن كان مقاتلاً من نوع مختلف، مقاتلاً ذا ريشة قوي ة الضربات، وحبر يضع في تاريخ الأمم علامات واضحة، وخطوط لاذعة، وعقل يعرف كيف يصنع نقداً بنّاءً، ويضع يد الشعوب على مواطن الخلل. ومن الجميل أن نتابع معاً مشوار حياة إنسان أدرك مبكراً أن له قضية، وقضيته ليست قضية فردية، بل قضية أمة خُلقت لتحيا وتسود الأمم، وه و الفنان الذي وُلد في عام 1926 ارتبط اسمه وتاريخه بقضية فلسطين، وعاشها منذ بدايتها وتابعتها ريشته منذ عام 1944 حتى يومنا هذا... وكانت رسومه اليومية تمثل يوميات القضية الفلسطينية، وتُعَدّ من أهم وثائقها في الصحافة المصرية والعربية، وهو الرسام الذي ارتبط في حياته القول بالفعل؛ فقد سُمّي "الرسام المقاتل"، حيث شاركت ريشته في حرب فلسطين، وذهب ليتطوع أيضاً عام 1948 في الحرب لتحرير فلسطين، وحارب طوغان مع الثوار في الجزائر التي ذهب إليها مشياً، لينضم إلى كتيبة المحاربين، وحمل السلاح مدافعاً عن حق الشعب الجزائري في الحرية. وكانت رسومه عن الجزائر تُعدّ من أقوى المنشورات التي يخشاها الفرنسيون. وبعد استقلال الجزائر، كتب رحلته في كتابه الأول "أيام المجد في وهران"، ثم أكمل رحلته الحربية بالتطوع للوقوف بجانبه ثم اطلق ريشته في صفحات الجرائد، وجمع رسومه في كتاب "قضايا الشعو ب"، هذا الكتاب الذي نعدّه علامة فارقة في تاريخ الكاريكاتور المصري، والذي كتب مقدمته الرئيس محمد أنور السادات في بداية حياته، حينما كان رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية، وكتب عن طوغان في مقدمة الكتاب كيف التقى به، وكيف أن هذا الشاب الذي لم يتعدّ العقد الثالث م ن عمره يستطيع أن يجعلك تنفعل من هدير ريشته وعنف أدائها، وعمق أفكاره. ولعلك تعجب كيف يستطيع شاب في هذه السن أن يجعل من الخطوط والظلال قصصاً خالدة تروي لنا وللأجيال من بعدنا حديث أشرف معركة خاضها بلدنا ضد السيطرة وضد الاستغلال، لا من أجل مصر وحدها، بل من أجل الشعوب الصغيرة وباسم كل من يؤمن بالحرية في كل مكان، ويرويها طوغان الشاب بريشته في وضوح ورزانة وإصرار لا يقدر عليها إلا من أفنوا عمراً طويلاً في البحث والخبرة والمران. لكنها الآلام التي صهرت هذه النفس الوادعة في مستهل العمر وفي مطلع الشباب؛ فطوغان يحكي لنا في هذا الكتاب عن آلام الشعوب البريئة التي تفترسها ذئاب الغاب، وآلام الإنسانية الجريحة بعد أن ديست قيمتها في التراب.

وعلق عليه الرئيس جمال عبد الناصر في أحد اجتماعات رجال الثورة، قائلاً: هذا الكتاب يحمل عبقرية من نوع خاص.

وتستمر رحلة أحمد طوغان مع القلم وا لريشة، ولكن يعود قليلاً لحمل السلاح مع ثوار اليمن، حتى يكاد أن يقتل هناك، وكما يقول المثل: "لكل إنسان حظ من اسمه"، فإذا كان اسم "طوغان" يعني "الصائد بالصقر"، لذا ظل طوغان صقراً محلقاً يصيد الطغاة، ويجعلهم فريسة وأضحوكة للشعوب التي لا تعرف الاستسلام.  

وهو الذي هاجمته إذاعة اسرائيل قبل ثورة يوليو 1952وقالت إنه من أشد الشباب العرب تعصباً وعداوة للصهيونية. وتكرر الزمان؛ ففي عام 2008 اتهمته جمعية أميركية بمعاداة السامية ووضعوه على رأس قائمة المعادين لها في الشرق الأوسط بسبب ظهور كاريكاتور له يشير إلى أن أحد أهد اف غزو العراق كان المحافظة على أمن إسرائيل.

وحينما سألوه في الصحافة عن سبب وضعه على قائمة رسامي الكاريكاتور المعادين للسامية، كان رد فعله أن أجاب ساخراً:

- لأني مؤمن بأن إسرائيل دولة مُختلقة في المنطقة، وأعبر عن هذا بالرسم؛ فهي بارعة في استقطاب الأعداء با لجرائم التي ترتكبها دائماً، وبالتالي فهم دربوا شبابهم على سفك الدماء واحتقار الآخرين وإبادتهم. هؤلاء الشباب الذين كونتهم منذ إنشائها حتى الآن يمنعونها من أن تفكر في السلام؛ لأن إسرائيل تتعرض للدمار إذا ما وقع السلام؛ فهي لا يمكن أن تقبل السلام، وأي مفاوضات ستبقى مفاوضات إلى الأبد.

والسبب في وضعي على رأس تلك القائمة هو قوة تأثير الكاريكاتور وأنه فن موجع. أما ما يقولونه، فهو بالنسبة إليّ فهم مغلوط؛ لأن العرب من أبناء سام، وأنا ضد الصهيونية وأحاول إنقاذ السامية من الصهيونية؛ لأنه ليس من المقبول أن أدافع عمّن ي قتلون الأطفال، وهم ذاهبون إلى مدرستهم، وأنا دائم الدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. كذلك فإنني لا أتوانى عن مهاجمة السياسة "الإسرائيلية" القمعية في "إسرائيل" التي تقوم ثقافتها على الحرب والعنف ورفض الآخر، فضلاً عن أنني أعدها أيضاً كياناً غريباً عن ا لمنطقة بأسرها.

وهكذا كان وما زال الفنان أحمد طوغان فارساً من فرسان الجيل الأول الذي وقع عليهم عاتق تمصير فن الكاريكاتور، بعد أن كان حكراً على الأجانب؛ فقد ظل طوغان يؤمن بأنّ رسام الكاريكاتور لا يصنع نكتة، ولكنه صاحب موقف ورسالة. فنان الكاريكاتور مفكر ينفذ الفكرة بالرسم؛ فليست وظيفة رسام الكاريكاتور إضحاك الناس، بل التوعية من طريق السخرية، والتنبؤ بالحدث قبل وقوعه.

أما عن رحلته مع هذا الفن المقاتل، فقد كانت في فترة ظلت فيها مصر والمنطقة العربية بأسرها تشهد الكثير من التحولات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، بينما بدأ اليهود بتنفيذ مخططهم الاستيطاني في فلسطين، وكانت مصر تغلي بالثورة على الاحتلال البريطاني وفساد الحكم، ووجد يومها مجلة اسمها "الساعة 12"، وكان ذلك في عام 1944، حيث ظل يرسم   لوحة طوال الليل وذهب بها للمجلة في الصباح، وهناك قابله أحد الأشخاص بطريق ة سيئة، واتضح بعد ذلك أنه رسام، فقرر ألا يرسم مرة ثانية. لكن صديقه محمود السعدني (الساخر الكبير والولد الشقي في ما بعد) كان يشاهد رسمه على الحيطان، وكان معجباً جداً بالرسم، فلما عرف القصة قال له: أظن أن هذا الرجل رسام، وخاف منك، ويجب عليك أن تقابل الفنان ع بدالمنعم رخا وتحكي له ما حدث، فإذا قال لك: ارسم، فلا بد أن ترسم. ولو قال لك: توقف، فيجب عليك أن تتوقف. وذهب طوغان إلى الفنان رخا الذي أحسن استقباله وقال له: أنت ستصبح فناناً عظيماً، ونادى الفنان «زهدي»، وكانوا وقتها يقومون بعمل مجلة اسمها المساء يصدرها اتح اد محرري الصحف، وعمل في هذه المجلة لأكثر من عامين.

فضلاً عن إنسانيته المفرطة، فقد كان يعاملني كابن له، وظلت علاقتنا ممتدة ولم تنقطع حتى وفاته!.

وظلت علاقته بالفنان رخا رائعة، ويذكر عنها الفنان طوغان موقفاً غريباً حدث عقب إحدى زياراته لرخا في أواخر أيامه، ح يث كان مصطحباً لابنه بسام البالغ من العمر وقتها تسع سنوات، وبعد أن نزلوا من عنده استوقفه ابنه قائلا: "أنا عرفت يا بابا مصر ليه جميلة!" فسأله طوغان: "لماذا؟" أجاب الابن: "لأن فيها أشخاصاً مثل رخا".

وهكذا استمرت رحلته، حيث انتقل من مجلة "المساء" إلى "الجمهور المصري"، وكانت جريدة ضد الاحتلال وتهدف إلى مقاومة سلوك الملك فاروق. وقد رسم يوماً على صفحاتها رسماً كاريكاتورياً حول "تعيين رئيس الديوان الملكي" حافظ عفيفي باشا الذي لم يكن مقبولاً لدي الشعب، فرسم طوغان يد الملك تمسك بخنجر يضرب الشعب.فأحالوه على التحقيق، وعندما سأل عن هذه اليد، تحايل عليهم طوغان بإجابة ذكية فقال: إنها يد الخونة، بينما كان يهدف إلى أن تكون هي يد الملك فاروق.

أما الجريدة، فكان صاحبها وفدياً واسمه "أبو الخير نجيب"، وكان شخصية وطنية من الدرجة الأولى أثرت شخصيته وثباته على مبادئه وإخلاصه لما يؤ من به، على الفنان طوغان تأثيراً شديداً، وكان دائماً ما يعطيهم "أبو الخير" محاضرات في قداسة الوطن وضرورة تحرير الأرض، لدرجة أنه كان يخصص غرفة في المجلة لتدعيم المقاتلين المصريين الذين يقاومون الإنجليز في قناة السويس بالمال والسلاح وبالطعام، وكان اسمها الغرف ة رقم 8، وكان رئيس الغرفة شخصاً يدعي فتحي الرملي والد المؤلف الكبير لينين الرملي. وقد رسمت في هذه المجلة الدعوة إلى الثورة بالرسوم الكاريكاتورية قبل حدوثها، وكان رئيس التحرير يؤمن بأن الثورة قادمة لا محالة، وحينما قامت الثورة بالفعل، كان أول ضحايها؛ فرغم ف رحتها بها واستبشاره خيراً، لكنه لم يستطع السكوت عن الفساد حينما ظهرت الانحرافات من الضباط الأحرار، وبدأ التعالي على الناس واستخدام النفوذ ومحاولة الإثراء! فكتب أبو الخير نجيب مقالاً بعنوان "إحنا طردنا فاروق وجيبنا بداله 14 فاروق"، وقال فيه: "إذا كان فاروق فاسد فإحنا جيبنا 14 فاروق جديد"، فقُبض عليه، وقُدِّم للمحاكمة، وحكم عليه بالإعدام. ثم تدخل السادات وخُفِّف الحكم إلى المؤبد، وظل في السجن إلى أن جاء السادات إلى الحكم، فأفرج عنه على الفور بعد 19 سنة قضاها في السجن. وخرج أبو الخير من السجن، لكنه لم يعمل في الصحافة بعد أن وجد نفسه قد أُحيل على المعاش. ورغم ذلك، فقد كانت علاقته بأبو الخير من أهم وأكبر الدوافع التي جعلت من الفنان طوغان رساماً مناضلاً. هذا بالإضافة إلى ما رآه من أستاذه رخا، الفنان الذي قضى بالسجن أربعة سنوات ظلماً، في مؤامرة مدبرة لإبعاده عن الس احة السياسية. ورغم ذلك تقبل كل شيء بصدر رحب، وحين جاءه صديق لزيارته في السجن بعد أسبوع سأله: كيف حالك؟ فأجاب بسخرية فنان الكاريكاتور: الحمد لله كله تمام. هانت باقي أربع سنين إلا أسبوع...

ويبقى نضال الريشة التي ارتبطت دائماً وأبداً بقضية فلسطين، ريشة الفنا ن أحمد طوغان التي تكمل رحلتها معنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.