مجلة العودة

فلسطين في الكاريكاتير المصري (الحلقة الرابعة)

فلسطين في الكاريكاتير المصري (الحلقة الرابعة)

ريشات عاصرت النكبة وقادت الصراع الكاريكاتوري مع الصهاينة

عبد الرحمن بكر / القاهرة
 
 
ويستمر صراع الريشة الساخرة من كل شيء والناقدة لكل وضع مقلوب في عالمنا العربي المحكوم بإرادات كثيرة، منها إرادة من لا يبغي له الاستقرار عن عمد، ومنها إرادة من لا يعرف كيف يكون الاستقرار ويسير مندفعاً بمصائر الأمة في موجة من الخداع. وتظل القضية الفلسطينية من أهم القضايا السياسية على الساحة المصرية والعربية، وتنطلق ريشة الكاريكاتور كما انطلقت الجيوش المصرية عام 1948 لحرب فلسطين حين أعلن الكيان الصهيوني المحتل الغاشم إقامة دولته على الأراضي الطيبة الطاهرة، هذا القرار الذي سبقته مؤامرات وخطط جهنمية، شُرِّد بموجبها السكان الأصليون للأرض الطاهرة. "الفلسطينيون"

رُحِّلوا عن ديارهم، وطُردوا من أرضهم، وشُرِّدوا ظلماً وجوراً، قُتِّلوا وأُلحقت بهم المجازر والمذابح!

حيث اتحدت يومها ستُّ دول عربية هي: مصر، الأردن، سورية، لبنان، العراق، والسعودية، ودخلت في حرب ضد العصابات الصهيونية، وهو ما عرف بـ"حرب فلسطين 1948"، وبعد تقدم عربي ملحوظ، جاء قرار وقف القتال، واستغلته عصابات "البلماخ والهاغاناه وإرجون وشتيرن" لتقوية أسلحتها، وعادت الحرب ليتراجع العرب، وتصبح "نكبة فلسطين"، وتستمر إسرائيل "صداعاً مزمناً" في رأس المنطقة العربية، وسرطاناً ينهش جسد الأمة.

ولأن الشعوب العربية تعلمت في صحافتها الدرس، حيث كان السلاح الأكثر شراسة في الحرب العالمية هو الكاريكاتور الذي كان ينال من هتلر كل يوم ويقوي معنويات الشعوب ويدفعها نحو الانتصار في الحرب النفسية، فقد استخدمت الصحافة المصرية السلاح نفسه بقوة، فكانت المتابعة اليومية من خلال جبهات مقاتلة بريشاتها وأقلامها على صفحات الصحف. فها هو الفنان عبد السميع يقاتل في جبهته بمجلة روز الوسف، يشاركه النضال الكاتب إحسان عبد القدوس، بينما تدور رحى الحرب الصحفية. جبهات صحفية مصرية أخرى قوية، منها جبهات مؤسسية وجبهات فردية؛ فهناك الكثير من المجلات والصحف كانت تصدر في مصر في هذا الوقت، حيث كانت تعاني جبروتَ القصر وسلطةَ رقابته ومصادرته لها ـ قبل الثورة ـ وصارت تعاني الإغلاقَ والرقابةَ والاعتقالات لأصحاب الفكر بعد الثورة. ومن المؤسسات التي ظلت محافظة على قوتها وقوامها ومنافستها لكل مؤسسة أخرى، "دار الهلال" لصاحبها جرجي زيدان التي كانت تقود الصراع الكاريكاتوري العربي الإسرائيلي من خلال مجموعة من المجلات القوية فكراً وفناً، وقد استقطبت عمالقة من الكتاب ليواصلوا معها هذا النضال، على رأسهم العقاد والحبيب جاماتي وأمينة السعيد، والدكتور حسين مؤنس في مجلة الهلال، يرافقهم الرسام المبدع برني. ومن خلال مجلة الاثنين والدنيا التي واكبت حرب فلسطين وأصدرت مجموعة من الأعداد الخاصة بالحرب والمتابعة للأحداث، والتي كان يقودها في هذا الزمن الكاتب الصحفي مصطفى أمين رئيساً للتحرير، وفيها انطلقت ريشة الفنان برني الذي خلف الفنان رخا بها بعد انتقال محمد عبد المنعم رخا إلى مجلة المصور.

وهنا سنتوقف قليلاً لنتابع ظاهرة غريبة جاءت في هذا التوقيت؛ فقد اعتمدت دار الهلال على مجموعة من المواهب الفنية في فن الكاريكاتور مختلفة المذاهب والجنسيات، وعلى رأسها الفنان منير كنعان، وهو مصري مسيحي اعتنق الإسلام وتزوج الأديبة الشهيرة ثناء البيسي، وهو أيضاً فنان الأغلفة واللوحات الشهير، وأحد أقطاب مدارس الفن التشكيلي في مصر، وقد بدأ حياته برسم الكاريكاتور، وكان صادقاً في تناوله لفترة الصراع العربي الإسرائيلي، وقد كانت رسومه معبرة ومقاتلة؛ فهو صاحب كاريكاتور النهاية المنتظرة الذي نشر في العدد الخاص عن حرب فلسطين، وفيه وضع هذا الخبر: "قالت صحيفة إنجليزية إن الصهيونية في موقف حرج". أما الكاريكاتور الذي رسمه تحت التعليق، فهو كل الأيدي العربية القوية وهي تضرب الشخصية الصهيونية "التي كانت تُعبر وقتها في الكاريكاتور عن قوة إسرائيل" تضربها بقبضاتها القوية في كل اتجاه... وأكد عدم أحقية إسرائيل في الاستيطان بكاريكاتور لبيت متهدم مائل يسكنه اليهود بمساعدة الأميركان، بينما يتساءل عربي عن الدولة الصهيونية المزعومة قائلاً: أشمعنى البيت ده مايل كده..

فيرد عليه الشيخ الفلسطيني قائلاً: أصله مبني على غير أساس.

و له مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عام 1947 عن تقسيم فلسطين، حيث رسم هيئة الأمم المتحدة على شكل وجه ذئب شرس يبتلع الأمم الصغيرة وكتب تحت الرسم ـ بعد قرار تقسيم فلسطين ـ آخر صورة للدول الصغيرة في هيئة الأمم المتحدة. كيف تتمكن الدول الصغيرة من الحركة وأمامها هذه الأنياب العاتية؟

 غير أن الفنان منير كنعان ما يميزه هنا هو معاصرته لفترة حرجة من فترات القضية الفلسطينية، وهو الذي عاش في الفترة ١٩١٩ – ١٩٩٩، وانتقل مغيّراً اتجاهه إلى مجلة المصور، حيث عمل رساماً ومصمماً لأغلفتها، ومخرجاً فنياً للكتب والمطبوعات، وعمل أيضاً في أخبار اليوم التي زامل فيها الفنان الكبير الراحل «بيكار»، حيث عملا فيها مستشارين فنيين لجميع إصدارات مؤسسة أخبار اليوم بدءاً من عام 1969.

أما الفنان الثاني، فهو الفنان الشهير برني، وهو فنان فرنسي مصري من أصول يهودية! عاش في مصر وأحبها، وتبنى كل قضاياها، ولم يكن عنصرياً، ككثير غيره من اليهود الأجانب الذين عاشوا في مصر والذين هاجروا بعد ذلك إلى إسرائيل. فقد تبنى مع المجلة القضايا القومية، وهاجم الدولة الصهيونية في الكثير من رسومه الكاريكاتورية، الأسبوعية، وركز في سخريته على الشعب الإسرائيلي وطبائعه، وكان يُصر على أن يكتب على الشخص الإسرائيلي كلمة الصهيوني، ومن رسومه هذا الكاريكاتور الذي رسم فيه الصهيوني يحدث زميله قائلاً: بيقولوا لو أنشأنا الدولة اليهودية مش هنعيش فيها.

فردّ عليه زميله قائلاً: وضروري نعيش فيها إحنا؟ نؤجرها ونكسب من الإيجار. 

وبرني من أكثر رسامين الكاريكاتور غزارة وإنتاجاً، وله خطوط رشيقة ومتميزة، ويهتم بالتفاصيل، لكنه لم يستمر كثيراً بالكاريكاتور السياسي وانتقل إلى الكاريكاتور الاجتماعي، ومنه إلى رسوم الأطفال حيث تخصص في الشريط المرسوم "الكوميكس"، وكان هو أول من رسم شخصية "سمير" في مجلة سمير، وظل يرسم سنوات في مجلة "المجلة".

وهنا يجب أن نتوقف قليلاً عند رسامي الكاريكاتور الذين عملوا في تلك الفترة العصيبة داخل مجلات دار الهلال، وعلى رأسها مجلة الاثنين ومجلة الدنيا، وكانت دار الهلال تستقطب الكثير من الفنانين الأرمن، مثل: الرسام كيراز الذي لم يستمر فيها طويلاً، حيث هاجر بعد ذلك إلى فرنسا في الأربعينيات واستقر في باريس وعمل رساماً في الكثير من مجلاتها النسائية. ومنهم أيضاً مجموعة من رسامي الكاريكاتور، بعضهم أرمني، وبعضهم له أصول يهودية، وهم على التوالي: فريدونن، برنار، فيدروف، سفك. وهؤلاء لن نتوقف عندهم كثيراً؛ لأن تأثيرهم كان بسيطًا ومتوقفاً على متابعة الأحداث ورسم ما يوكل إليهم من أفكار من طريق هيئة تحرير المجلات.

لكننا يجب أن ننتبه إلى أخطر ظاهرة مرت بمجلة الاثنين، هي رسام الكاريكاتور اليهودي المصري  زكي، وهو فنان عمل في دار الهلال منذ عام 1946، وتحمس بشدة في رسومه للهجوم على الصهاينة، حتى إن أعداد عامي 47 و48 ذخرت برسومه النارية المهاجمة للصهيونية العالمية وللتعاون الدولي معها، حيث ركز على قضايا ساخنة كانت تثار لأول مرة في الكاريكاتور المصري، هي الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومحاولة ترومان الحصول على تأيد الصهيونية العالمية ليصل إلى كرسي الحكم، وفي لوحة كاريكاتورية جعل ترومان مريضاً والطبيب يقول: مافيش فايده عنده التهاب حاد في الزائدة الصهيونية، فإذا لم تستأصل حالاً قضت عليه.

ورسمه يعبّر كذلك نحو كرسي الحكم على قنطرة خربه هو ويتصارع فوقها هو ومنافسه ديوي، والقنطرة هي الصهيونية التي رسمها على شكل سيدة عجوز ضعيفة تحاول أن تتشبث بالصخور لتبدو قنطرة قوية لعلها تحمل أحدهما.

وفي توضيح لسياسة ستالين في مناصرة الصهيونية، رسم كاريكاتور تحت تعليق "هزم الصهيونيون هزيمة منكرة في هجومهم الغادر الأخير"، وستالين يحدث الزعيم الصهيوني شرتوك، قائلاً: بعتنالكم الطيارات.. والأسلحة.. والذخائر.. والضباط.. وبرضه مش نافعين.. نعمل لكم أكتر من كده إيه؟

فيرد شرتوك قائلاً: وإيه فايدة ده كله ما دام ما عندناش رجالة؟

وهكذا استمر الرسام زكي يرسم بتلك القوة كي ما يقنع القائمين على تحرير المجلة بمناصرته لقضايا الوطن العربي، ويظل محتفظاً بوظيفته في مجلة من أهم المجلات العربية وقتها حتى ظهر على حقيقته في بدايات عام 1952، حيث أتيحت له أول فرصة، فهاجر إلى الكيان الصهيوني، وهناك أظهر الوجه الآخر، حيث ظل يرسم الكاريكاتور مدافعاً عن الصهيونية العالمية، ومهاجماً لقضية في مجلة "هاعولام هازيه" الإسرائيلية!!