مجلة العودة

من أدب العودة ...بأقلام مصرية

العودة / القاهرة
إنه حسن.. اسمه حسن، وشكله حسن، وفعله حسن.

ضحك حسن وهو يسمع ثناء والده عليه أمام العم نعمان "خادم المسجد". بالفعل، كان حسن يملك كل هذه الصفات، بالإضافة إلى أنه الابن الوحيد للحاج رفاعي، صانع الأحذية  العجوز، وذراعه اليمنى التي يستبدلها بذراعيه المرتعشتين عندما يتعب من كثرة العمل، ولسانه الحلو الذي يجعل الزبائن يتحملون ويصبرون على تسلّم أحذيتهم، رغم طول الزمن في انتظار الصناعة الجيدة. كل هذا كان حسن.

سلّم العم نعمان على الحاج رفاعي، وأمسك بيده اليمني مسبحته، وهمّ بالانصراف وهو يقول: بارك الله لك فيه ورزقك برّه. فامتلأ قلب الحاج رفاعي سعادة؛ فهو يدعو له، ويحب كل من يدعو له.

 وأمسك بيده الإزميل وثبّت جلد الحذاء على السندان وانهمك في العمل ورائحة البخور الطيبة تفوح من حوله، بينما كان حسن بجواره يُعدّ له الطعام ويضبط منبّه الساعة لكي لا ينسى موعد دواء والده. وبعدها، نظف الأرفف وكنس أمام الدكان ورش الماء.

 إنه يحب هذا المكان، وقلبه دائم التعلق به. كيف لا؟ فهو في القدس الشرقية، حيث كل شئ له طعم روحاني خاص.

ورغم ذلك، فالحياة غير مستقرة. كل ما حوله يدعو إلى القلق . الدوريات الإسرائيلية في كل مكان تنتشر كالذباب في الشوارع. تثير في النفوس الضيق، والغضب يملأ كل القلوب.

حسن يكرههم. يتمنى لو نزعهم من أرضه كما تنزع الشوكة الخبيثة من الجسد الطيب.

في أوقات الفراغ، يراقب الحجارة، يتفحصها، يشعر بأنها متشبعة بدماء الشهداء، وأنها سلاح من لا سلاح له. كثيراً ما يعبث بها وينتقي أفضلها أيضاً، ويحتفظ بها؛ فقد أتقن فن الرماية، و تعلم ألا يخطئ هدفه.

لكنه كان يخشى دائماً على والده، ولا يريد فراقه في وقت ضعفه وحاجته إليه!!

وفي ساعة من ساعات الجنون، مزقت الطائرات الإسرائيلية سكون الليل وأطلقت صواريخها القاتلة على البيوت الآمنة.

فدبّ الفزع بين الأهالي، وانهارت المباني الصامدة، وتساقطت أجساد الشهداء وأضاءت النيران ظلام الليل.

 وانهار أيضاً دكان الحج رفاعي!

عادت الطائرات بعد أن خلفت وراءها في كل بيت شهيداً وثأراً. ولأنه لا بد للفجر أن يعود، وللضوء أن ينفذ، فقد أصبح صباح جديد.

ظل الحاج رفاعي يتأمل حطام دكانه، يتأمل عمره وصباه وشبابه وكهولته، ويزداد كرههم في صدره. أما اللسان، فهو عاجز عن الكلام، والناس ملتفون حوله.

أما حسن، فقد كان يعرف ما يريد، فتقدم نحوه، وبلا تردد قبّل رأسه وقال: أبي، أستودعك من لا تضيع عنده الودائع.

انتفض الحاج رفاعي وكأنه يصحو من الحلم على كابوس وقال في فزع:

إلى أين؟!

فزاد وجه حسن إصراراً وصرامة، وهو يقول: لم يعد لنا رزق هنا، ولا أستطيع أن أبقى، فلم يعد بأرضنا أمان.

ارتعشت شفتا الحاج رفاعي وقال: وأنا!

فاحتضنه حسن قائلاً: اُدعُ لي.

وانسلّ من بين الجموع. اختفى حسن.

تسمّر الحاج رفاعي في مكانه لا يدري ماذا يفعل، لا يستطيع تفسير ما حدث!

فاقترب منه العم نعمان وأسنده ليوصله إلى بيته، وقال ليخفف عنه الصدمة: غداً يعود حسن. الشباب يذهبون ويجيئون حيث كان الرزق. ولم يعد لكم مصدر للعيش بعد انهيار الدكان، فربما وجد فرصة أفضل.

لكنّ الحاج رفاعي المتماسك دائماً، كان حابساً لدموعه، وعقله قد أصابه الذهول لا يصدق أن حسن تركه وحيداً.

فأكمل العم نعمان كلامه قائلاً:

هذا هو حال الشباب يا حاج رفاعي، كل الشباب.

فأجابه الحاج رفاعي قائلاً: ولكنه حسن، شكله حسن، وفعله حسن.

مرت  الأيام، والحصار يشتد والانتفاضة صداها يُسمع العالم وتساقط الشهداء، ففي كل يوم جنازة شهيد. عرس جديد.

والحاج رفاعي  ينتظر، وينتظر، متى يعود حسن؟!

متى تعود إليه البسمة وإلى قلبه الفرحة.

هتف الجميع الله أكبر. العزة لله. آن لنا أن نثأر. فتلفت الحاج رفاعي حوله وسأل العم نعمان عن الخبر، فأجابه باسماً:

 لقد فجّر أحد الأبطال قذيفة في سيارة نقل محملة جنوداً إسرائيليين، فقتل أغلبهم. لكن أحدهم أصابه بالرصاص فاستشهد.

اقتربت جنازة الشهيد من الحيّ. الكل يهتف: الله أكبر، اليوم عرسك يا شهيد. وقف الحاج رفاعي صامتاً، كأنه جبل قديم. كساه الجليد.

يتابع بعينيه الجنازة، وهي تقترب نحوه. تقترب أكثر. لماذا هو بالذات؟ لقد كادت  تلتحم به. أخيراً توقفت أمامه.

العيون حزينة. ينظرون إليه. فاقترب من الجثمان، وارتعشت يداه كما لم ترتعشا من قبل. رفع الغطاء. إنه... إنه حسن.

 جمد في مكانه. كاد أن ينهار. عجز لسانه عن الكلام.

لكن أحدهم أعطاه رسالة، قال إنها من حسن... وصيته.

فضّها بما بقي لديه من صبر وشوق وحنين. قرأها:

أبتِ، أحبك. عذراً لأنني فارقتك.

فقد أرادوا القدس ونسوا أن لها رجالاً يحمونها.

 فارقتك وكلى شوق لكي ألقاك، هناك في جنة عرضها السماوات والأرض.

حيث يلتقي الأحباء. أبتِ أدعُ لي. ابنك حسن

وهنا ذاب الجليد، وانهمرت من عينيه دموع الرحمة، والتفت إلى العم نعمان باسماً ووجهه غارق في الدموع، وهو يقول:

ألم أقل لك إنه حسن، وإن فعله كله حسن.

موعد مع حرف الحاء

حملت "حبيبة" حقيبة المدرسة فوق ظهرها وانطلقت فرحة. في الحقيبة قلم رصاص ومسطرة وكرّاسة، وكتاب جميل.

قدماها الصغيرتان تخطوان بمرح في الأزقة الضيقة المتعرجة؛ فهي تحب المدرسة وتحفظ الطريق إليها جيداً، تسير فيه كل يوم وابتسامتها الرقيقة تضيء الكون. توزعها على كل من يقابلها، فيتفاءلون بوجهها المشرق.

المعلمة قالت لها: عندنا حروف رائعة في لغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن، وحبيبة تحفظ الفاتحة وسورة الإخلاص، وتريد أن تتعلم الحروف لكي تقرأ بسهولة وتفهم جيداً.

اليوم عندها موعد مهمّ مع حرف "الحاء"؛ فالمعلمة ستعطي جائزة لمن يُحضر عشر كلمات تبدأ بهذا الحرف.

أخذت تفكر وهي تسير. يوم أمس لم تجد سوى ثلاث كلمات. الأولى كلمة "حُب". عندما قالتها لأمها ابتسمت لها وقالت: الحب يا ابنتى هو أجمل ما في الوجود، لذلك سمّيناكِ حبيبة. عندها، صاحت وقالت لأمها: حبيبة أيضاً تبدأ بحرف الحاء! وعندما وضعت الحبوب للدجاج عرفت أن كلمة حَب تبدأ بحرف الحاء. والحَب نزرعه في الأرض فتنبت وتصبح خضراء.

الطريق ليس طويلاً، لكن يجب أن تسرع حتى لا يفوتها موعد المدرسة، والحقيبة أصبحت ثقيلة... الحقيبة! بالفعل، حقيبة تبدأ بحرف الحاء. لقد أصبح لديها أربع كلمات.

سرحت حبيبة بخيالها، وتذكرت الحلم الذي رأته أمس. لقد كان شكلها فيه جميلاً، وهي تأخذ الجائزة من المعلمة. يا له من حلم رائع! حلم... نعم... نعم، حلم تبدأ بحرف الحاء. إنها تمتلك الآن خمس كلمات. يا لها من ثروة! 

المدرسة قريبة من البيت، لكنها تضطر إلى السير في تلك الحارات الضيقة حتى تبتعد عن الدوريات الإسرائيلية التى تضايق كل من يمر ولا تفرق بين صغير أو كبير. تنبهت حبيبة... حارة أيضاً تبدأ بحرف الحاء. بقيت أربع كلمات.

مرّ بجانبها بائع الحلوى، فقالت على الفور: حلوى تبدأ بحرف الحاء. أنا أحب الحلوى.

بقي شارع واحد على المدرسة، فها هي شجرة الزيتون العجوز قد ظهرت على ناصيته. يقولون إن الحمام عندما يحمل أوراقها يصبح رمزاً للسلام. إنها تحب السلام وتكره الحرب. بالفعل، كلمة حمام أيضاً تبدأ بحرف الحاء، وحرب كذلك بدايتها حاء!! سبحان الله.

بقيت كلمة واحدة، وتحصل على الجائزة. أخيراً، ستعطيها المعلمة عشرة على عشرة ونجمة حمراء رائعة. الله ما أجمل المدرسة! كم تحب المدرسة!

لقد وصلت أخيراً، لكن أين المدرسة؟

فزعت حبيبة وهي ترى حطام مدرستها أمام عينيها. أين المقاعد والسبورة؟ أين الحوائط؟ أين الطبشورة؟ والأشجار الخضراء؟ أين كل هذه الأشياء؟ التراب يُغطي المكان، والغبار يدخل في عينيها!

ها هي الجرافات الإسرائيلية ما زالت تهدم الجدران. الجنود في كل مكان يمنعون التلاميذ والمعلمين من الاقتراب.

المعلمة تقف هناك بيدها دفترها الأزرق تبكي!

اقتربت حبيبة منها، فاحتضنتها المعلمة وحملتها. لكن حبيبة مدّت يدها الرقيقة نحو وجهها ومسحت دموعها، وهي تقول لها: لا تحزني، لقد عرفت الكلمة العاشرة، إنها حرية.