مجلة العودة

وسام الباش:سرقة الآثار الفلسطينية إلى متى؟

اغتيال الصهاينة للتاريخ

سرقة الآثار الفلسطينية إلى متى؟
وسام الباش/دمشق
 
يأخذ الحديث عن الآثار الفلسطينية أبعاداً كثيرة في حركة الصراع العربي الصهيوني الممتد منذ أكثر من قرن من زمن. ولا تقف هذه الأبعاد عند التاريخ وحسب، بل تتجاوزه لتصل إلى حدود الجغرافية والموروث الإنساني والحضاري للشعب الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً.

ففلسطين في الميزان الحضاري للمنطقة تُعَدّ أهم بقعة تاريخية وجغرافية؛ لأنها شكّلت أولى حلقات الصراع منذ فجر التاريخ بين قوى أرادت امتلاك هذه الأرض والسيطرة عليها أو صنع نفوذ لها فيها. فعدّها المؤرخون مرتكزاً أساسياً في صنع الأحداث وخلق مناخات الصراع.

أضف إلى ذلك؛ فالخصوصية الطبيعية والجغرافية والدينية وامتلاك هذه الأرض أسباب الحضارة الكاملة، جعلت فلسطين محط أنظار الكثيرين من أقوام وشعوب ودول صغيرة أو كبيرة.

وللأسباب التي ذكرناها والتي لا يستطيع المقام ذكرها لكثرتها، شهدت فلسطين تنوعاً حضارياً قلّ نظيره في المنطقة، ونرى هذا التنوع جلياً في وفرة الآثار وتنوعها، بدءاً من بقايا الإنسان القديم التي تجلت في الرسوم وبعض العمارات الدينية والمغاور والأزياء والأسلحة الحجرية والمعدنية، مروراً بآثار الكنعانيين والإيجيين والإغريق والفراعنة، ثم الفرس واليونانيين، وانتهاءً بالآثار المسيحية والإسلامية على اختلاف حقبها التاريخية.

اغتيال التاريخ الفلسطيني... أولى حلقات الصراع

سعت الصهيونية منذ أيامها الأولى إلى تفتيت البنية التاريخية والحضارية للأرض الفلسطينية، ورسمت في خرائطها الأولى صورة جديدة لهذه الأرض تتناسب ومخططات الاحتلال وتشكيل دولة صهيونية ببعد ديني محض يستند إلى التوراة ورواياتها الكثيرة التي شكلت فيها فلسطين الحدث التاريخي.

ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كثّفت المجامع الصهيونية وأعوانها في أوروبا من تركيزها على الجانب الأثري؛ فقد اعتبرت الصهيونية هذا الجانب حجر العثرة الأول في وجه الاحتلال؛ لأنه يرسّخ مفاهيم الوجود الفلسطيني التاريخي على الأرض الفلسطينية. فأرسلت المستكشفين وعلماء الآثار والتاريخ واللاهوت تحت أسماء وعناوين وهمية لإقناع المجتمعات اليهودية في أوروبا بضرورة دعم جهود الوكالة اليهودية بتأسيس دويلة لهم في فلسطين، وهذا أولاً. وثانياً، إقناع الأوروبيين دولاً وشعوباً بأن هذه الأرض ليست كنعانية عربية أو مسيحية أو إسلامية، بل هي يهودية، كما تصوّر ذلك بعض النصوص التوراتية المتأخرة.

وكانت أولى خطوات المستكشفين أو الآثاريين إنشاء موسوعات ترصد وتحصي الآثار وأنواعها في فلسطين، وذلك لتكوين صورة عامة عن حجمها والواجب استهدافه أولاً.

وتجلت جميع المحاولات الصهيونية لمحو الآثار الفلسطينية بالفشل، واقتصرت هذه المحاولات على تصوير الآثار الفلسطينية على أنها آثار يهودية أمام الرأي العام الأوروبي. ومن جانب آخر، لم تنجح محاولات قادة الصهيونية الكبار في إقناع السلطات العثمانية بإنشاء مؤسسات دينية محل الإسلامية أو العربية أو بالقرب منها. 

 لم تتوج كل المحاولات الصهيونية في سرقة الآثار الفلسطينية ومحو هويتها إلا بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين؛ فبعد الإعلان الباطل لدولة «إسرائيل» مباشرة بدأت العصابات الصهيونية (الهاغانا، الإشتيرن)، وغيرها  بسرقة الآثار الفلسطينية من القرى التي تُحتَلّ مباشرة.

واستمرت عمليات سرقة الآثار إلى ما بعد النكسة عام 1967، حيث أصبحت السرقة علنية، وقادت حملات السرقة وعملياتها شخصيات صهيونية عسكرية وسياسية كبيرة، ومنها كما هو معروف موشي دايان وزير الحرب الأسبق للكيان الصهيوني الذي كان يقود عمليات سرقة ممنهجة، وكان مدعوماً بذلك من السلطات الدينية والسياسية الصهيونية. وقد دعا دايان في أكثر من مرة إلى إزالة كل الآثار المقدسية بدعوى إيجاد الهيكل المزعوم؛ فقد نقلت صحيفة دافار الصهيونية بعددها الصادر بتاريخ 2/ 8/ 1971 عن دايان قوله «إنه لا ضرورة للتأخر في الكشف والعمل للعثور على الآثار القديمة العائدة لأيام الهيكل الثاني، ويمكن تصوير بقية الآثار وإزالتها لأنها تخفي عنا رؤية الصورة الكاملة كما كانت في حينها.

وهذا يعني إزالة كل الآثار والأوابد العائدة للحضارات القديمة.

وعن تلك الفترة، يقول الدكتور معين صادق، رئيس قسم الآثار في جامعة الأزهر في غزة إن الاحتلال كثف منذ عام 1967 عمليات التنقيب عن الآثار الفلسطينية. إن الإحصاءات عن تلك الفترة تشير إلى أنه في كل سنة كانت تجري سرقة مئة ألف قطعة أثرية فلسطينية، منها. وفي الكثير من الحالات، كان السارق سلطة الآثار الصهيونية التي كانت تشرف على عملية التنقيب، وما سُرق والعديد مما استخرجته جرى إخفاؤه.

لكن هناك أيضاً مجموعة من القطع موجودة اليوم في متاحف صهيونية ومخازن الحكومة في تل أبيب، ومنها ما سرقه تجار محترفون.

وأهم ما سُرق مخطوطات قمران (لفائف البحر الميت) التي اكتشفت عام 1946، حيث كانت هذه المخطوطات في المتحف المعروف باسم متحف روكفلر التابع للمملكة الأردنية الهاشمية في القدس حتى حرب 1967 م الذي استولت إسرائيل فيه على القدس، فأخذت مخطوطات وادي القمران وغيرها ونقلتها إلى متحف الكتاب الإسرائيلي بالقدس الغربية.

مع بداية التسعينيات من القرن المنصرم، أخذت دائرتا الآثار والسياحة الصهيونية عملاً مشتركاً يقضي بسرقة الآثار الثابتة والمنقولة أو شرائها بمبالغ مادية طائلة من أي مكان في الأراضي الفلسطينية، وذلك لمحو كل العمق التاريخي لفلسطين. وتتوج العمل في هذه المرحلة مع بداية بناء الجدار الفاصل، حيث صودرت، بحجة بنائه، أراضٍ كبيرة غنية بالآثار الكنعانية والرومانية والإسلامية. فقد صدر عن المركز الصحافي الدولي بالهيئة العامة للاستعلامات، أن سلطات الاحتلال الصهيوني سرقت آلاف الدونمات التي تضم العديد من المواقع الأثرية المهمة والضاربة في عمق التاريخ في الضفة الغربية، بحجة وقوعها في مناطق بناء جدار الفصل العنصري.

ومن تلك المواقع الأثرية: خربة شمسين، وهي خربة أثرية تقع بين قريتي قفين وباقة الشرقية، وهي قرية رومانية تمتد على مساحة 60 دونماً، وهي غنية بالمعالم الهامة كالجدران، وأنقاض الأبنية، وكذلك أساسات بناء وخزانات آبار منحوتة للمياه ومقاطع صخرية ومقابر. وكانت هذه الخربة تشهد أحياناً حركة سياحية نشطة، لكن الجدار التهمها حيث وقعت غربي الجدار.

وخربة أم قصير، وهي خربة رومانية تقع بين قريتي قفين والنزلة الشرقية، وقد تأثرت بإقامة الجدار العنصري وجرى اقتطاع جزء منها وتضم أساسات، آباراً ومغاور وجدران ومقابر وغيرها، وتمتد معالمها على مساحة 10 دونمات.

والتهم الجدار موقعاً أثرياً يسمى خربة رحال، وهي خربة أثرية رومانية تقع غرب قرية دير الغصون، مر الجدار العنصري من منتصفها فالتهمها جميعها. وتمتد هذه الخربة على مساحة تصل إلى 8 دونمات. وكانت توجد في ذلك الموقع بعثة إسرائيلية خاصة أثناء أعمال الحفر لبناء الجدار العنصري، ما يعني النية المبيتة لسرقة الآثار الفلسطينية.

ومن المواقع المهمة التي استولى عليها الاحتلال وضمها إلى الجدار، تل شويكة أو تل الراس، وقد شهد عدداً من الحقب المتعاقبة، ما يعني أنه خصب وغني بالآثار وهو من المواقع المهمة في فلسطين، حيث يعود نشوء الحضارة فيه إلى العصر البرونزي المتأخر والفترة الحديدية والرومانية والبيزنطية، حسب الاستقراءات الفخارية.

وقد كان هذا التل ممراً للقوافل التجارية والعسكرية من شمال فلسطين إلى جنوبها، ويعتقد أن هذا التل شهد معركة قادش التاريخية التي حارب فيها الجيش المصري ممالك الكنعانيين.

ويقع هذا التل بمحاذاة الجدار العنصري، وقد تأثر بعدد من الحفريات التي نفذتها طواقم الآثار الصهيونية أثناء شق الجدار، ما يشير إلى سرقة الآثار الموجودة فيه.

ومن المواقع المسلوبة أيضاً، خربة زهران، وتقع بين قريتي سفارين وكفر اللبد، شرق طولكرم، وتضم كنيسة قديمة وجدران فسيفساء، وتضم أيضاً أساسات ومباني وغيرها من المعالم الأثرية الهامة، وهي قريبة مما تسمى «مستوطنة عناب»، الأمر الذي يهدد بإزالتها إلى الأبد أو إلحاقها بالمسروقات الصهيونية.

وهناك قائمة كبيرة بالسرقات الصهيونية للآثار الفلسطينية لا يتسع المقام لذكرها.

المسؤولية الفلسطينية:

يحاول الكيان الصهيوني بعد اتفاق أوسلو الذي حرم الصهاينة نظرياً استكمال ما بدأوه في سرقة الآثار منذ عام 1948، وقد خصصت دائرتا الآثار والسياحة الصهيونية ملايين الدولارات لدعم مافيات تجارة الآثار وسرقتها وتهريبها. وتشير الإحصاءات الصادرة عن مؤسسات فلسطينية إلى أنه لم يعد بالإمكان إحصاء عدد المتعاملين مع مافيات تهريب الآثار، وأن الأراضي الفلسطينية تشهد أكبر حملة تهريب للآثار منذ بداية القرن الواحد والعشرين، حيث تكشف الصحف العبرية يومياً عن وصول عشرات أو مئات القطع الأثرية من الأراضي الفلسطينية إلى المتاحف الصهيونية. وإن اعتراف اليونسكو بدولة فلسطين لم يساعد إلى الآن في ضبط عملية التهريب اليومي، بل على العكس تماماً، فقد شنّت هذه التجارة حملة شعواء على الآثار ما دام بالإمكان ذلك.

أخيراً، إن المسؤولية الفلسطينية اليوم هي كشف المستور في هذا الملف، وفضح الممارسات الصهيونية وتشكيل مؤسسات تعنى بهذا الجانب، وإيصال هذا الملف للمجتمع الدولي ورفع كل التقارير يومياً إلى اليونسكو حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه من التاريخ الفلسطيني الذي يغتال يومياً على أيدينا بإهمالنا لهذا الملف، وبأيدي الصهاينة الذين يغتالون كل ما هو فلسطيني وكل ما هو على اتصال بهذه الأرض المباركة