مجلة العودة

الفنان التشكيلي الأردني عمر بدور

الفنان التشكيلي الأردني عمر بدور

أدمج الالم بالأمل وأرسم لفلسطين منذ ثلاثين عاماً

في آخر لحظة سألته: «أنت من أي منطقة في فلسطين؟»، لأكتشف أن صاحب الريشة الثائرة من الأردن الشقيق (حسب تصنيفات سايكس-بيكو) وليس فلسطينياً كما ظننت! هو فلسطيني بامتياز! ولفلسطين التي سكنته ولم يسكنها حكايات لا حصر لها ترويها لوحاته التي تكاد تنطق ألماً وأملاً..

«العودة»: لكل فنان بداية وتبدأ عادة موهبته بالظهور منذ الطفولة. هلا حدثتنا عن بداياتك الفنية؟

البداية كانت مع الوالد، الذي كان في الأصل رساماً. لكن تعلمين أن آباءنا كانوا يسعون وراء لقمة العيش، فلم يهتم بالرسم كثيراً ولكن كان يرسم ويخطط أحياناً. من الممكن القول بأننا أخذناها بالوراثة، فأخي الكبير أيضاً رسام وكان رئيس جمعية أصدقاء الفن التشكيلي في الزرقاء في الأردن، وهو الآن في عُمان يُدرس الفنون. لكن الدولة قتلته (طموحه) ووظفته مدرساً ثانوياً كعادة الدول العربية. في صغري كنت أرسم على الأوراق والكتب والحيطان. والذي يحمل حب الفن في دمه يرسم في كل مكان، على يدي وحتى على وجه أخي! وتعرضت كثيراً للتأنيب والضرب من أبي بسبب ذلك.

«العودة»: متى بدأت مرحلة الاحتراف؟

يقول بعض الناس إنني محترف، لكن أقول إنني هاوٍ، ليس تواضعاً، بل لأنني لم أدرس الفنون. لكن أحاول دائماً أن أصل إلى شيء، لأن ما يهمني هو أن أوصل فكرة.

«العودة»: إذن لا تؤمن بالفن بدون أهداف أو «الفن للفن»؟

إذا لم يكن للنجار فكرة عما سيصنعه فستجدين أعماله بلا طعم أو معنى، والإنسان في حياته إذا لم يكن لديه هدف في الحياة لن يرتاح أبداً.. مثل الأب في البيت، فكرته أن ينشئ بيتاً ويربي أولاده ويزوجهم وهو يرتاح عندما يرى أنه حقق ما يطمح إليه.

وينطبق هذا على الفنان. لماذا هو فنان؟ مثلاً إسعاد الناس هدف من خلال اللوحات التجريدية. أما مسألة «الفن للفن» فبعض أصحاب هذا المبدأ يرسم اللوحات ولا يفهمها ولا أنتِ تفهمينها. وهذا الفنان في الأصل هارب من الاحتراف أو الواقع، إلا طبعاً إذا كان محترفاً ووصل لمرحلة أن يخاطب نظراءه من المحترفين. لكن الواقع أن بعض الفنانين الآن لا يرسمون إلا التجريدي، التي لا تحمل معنى. أنا لدي لوحات تجريدية لكن أحتفظ بها لنفسي، لأن الفنان يجب أن يوصل فكرة وأن يهتم بالقضايا المصيرية، الناس يضحون بدمائهم ويموتون!

«جيفارا» على سبيل المثال أحترمه ليس من باب العقيدة بل لأنه آمن بفكرة وسعى لتحقيقها. وأتمنى أن أجد عرباً ومسلمين لديهم الإصرار نفسه على تحقيق أهدافهم، ولكن أن يلبسوها بالنخوة العربية. ولدي لوحة عبارة عن خريطة فلسطين كاملة مقيدة وتحتها سلاسل بجميع أنواعها وفيها قطّاعات كتب على إحداها «الوحدة الإسلامية» وأخرى «الوحدة العربية» وأخرى «الشهامة» وهذا ما نحتاج إليه لفك الحصار. وفلسطين بالطبع لكل الأمة العربية والإسلامية.

«العودة»: متى بدأت الرسم لفلسطين؟

منذ 30 سنة وأنا أرسم لفلسطين، حتى إن بعض معارفي وأصدقائي الأردنيين يقولون لي «إنك لست أردنياً!»، ومن ضمنهم أخي، مع أني أجلس معهم وأتكلم بلهجتهم وأناقش قضاياهم، لكن هذا لا يمنع، والأصل فينا أن نتصف بالشهامة والرجولة وهذا من الدين. أما الخلافات الموجودة على أرض الواقع فنحن نرتقي فوق هذه الخلافات، وتركناها للذين لا يملكون فكراً وللذين يفرقون بين الفلسطيني والأردني والسوري.

عمي قاتل في فلسطين، وابن عم أبي استشهد في معركة الكرامة. نحن نعمل لفلسطين أولاً من مبدأ عقدي، ثانياً لأننا نقاتل من أجل رفع الظلم، ولو كنا غير مسلمين فمن باب الإنسانية ورفع الظلم. وما نستطيع تقديمه الآن هو اللوحات والكلام حتى تتاح لنا وسائل أخرى.

«العودة»: ما هو عدد اللوحات التي قمت برسمها للآن؟

لدي الآن 45 لوحة منهما لوحتان خاصتان، أما الباقي فجميعها لفلسطين. كنت أعمل سابقاً في جريدة السبيل رسام كاريكاتير، لكن كنت دائماً أرجع للتشكيل.

«العودة»: ولكن أليس التشكيل أيسر في توصيل الفكرة، خصوصاً أن رسام الكاريكاتير قد يواجه الكثير من الصعوبات. لم نسمع أن فناناً تشكيلياً اعتقل بسبب لوحة مثلاً؟!

نعم. ولكن ما زلت أرسم الكاريكاتير، وفعلاً اعتُقلت في إحدى المرات وحُقق معي وخرجت.

«العودة»: ما هي المعارض التي شاركت بها؟

شاركت في قطر في «مهرجان القدس» بلوحات. وكان من المفترض أن أشارك بلوحاتي في سوريا لكن المشكلة في العالم العربي أنك يجب أن تسجل في جمعية الفنانين في البلد نفسه، وإلا فستُضايق ولن تتمكن من نشر لوحاتك.

«العودة»: هل هناك مدرسة فنية تنتمي إليها؟

أعتبر أنني منتمٍ لكل المدارس. أتّجه لأي مدرسة فنية تخدم القضية التي أؤمن بها، فلي لوحات تجريدية ولي لوحة «عروس الشهادة» مثلاً والتي لبست فيها العروس الثوب الأحمر بدل الفستان الأبيض بعد انتشار نبأ استشهاد عريسها.

«العودة»: بعض الفنانين يرسمون أعمالاً تحتوي على رموز وتشكيلات لا يفهمها الكثيرون. فكيف يمكن الجمهور فهم هذه الأعمال وتفسيرها؟ بالمقابل هناك فنانون معروفون مثل إسماعيل شموط حققوا هذا الانتشار بسبب وضوح أعمالهم؟

إسماعيل شموط يعمل بطريقة واضحة، ويجب أن تتميز اللوحات بالوضوح من أجل إبراز قضية ودور وواقع فلسطيني معيش. يجب أن يكون الفنان واضحاً «زيادة عن اللزوم»! لكن بعض الفنانين يعمل من أجل جمهور خاص ولذلك يحتاج إلى شرح أعماله للجمهور العادي. لكن برأيي أن الذي يريد أن يعمل لقضية معينة، وخاصة نحن في القضية المحورية (فلسطين) يجب أن يكون واضحاً. أما أمور التجريد فلا يفهمها الناس العاديون، وهو فنّ مستحدث أي حديث، لكنه موجود عند المسلمين قديماً لأن رسم الوجوه وهذه الأمور حرام شرعاً فلجأوا للتجريد. وتجريد الشيء هو تجريده من معناه ومن شكله الرئيسي مع اختزاله قدر المستطاع.

هناك بعض اللوحات التي تحتاج إلى تركيز. لي لوحة تجريدية اسمها «رجال من الصخر» وهي عبارة عن صخور على شكل رجال، وهم رجال فلسطين ورجال غزة بالذات. إنهم رجال من الصخر، والرجال ككل هم على شكل رجل واحد. لوحات كهذه تحتاج إلى بعض التركيز، فلا تفهم مباشرة. وهناك أيضاً لوحة «رجال تحت الشمس» كلهم رجال على شكل واحد، ولهيب الشمس من فوقهم، ورغم الحصار كلهم مترابطون على شكل رجل واحد، وهذا يرمز للوحدة.

«العودة»: ما هي الرسائل والأفكار التي تحاول إرسالها من خلال لوحاتك؟ وخصوصاً أن الكثير من الفنانين يبحثون عن الجمال فقط، مع أن القضية الفلسطينية مليئة بالآلام؟

أنا أدمج الألم والأمل. الألم موجود باستمرار، ولولا أنه يعصر قلبي لما كنت سأبدع. لكن في الوقت نفسه، أنا لا أقنط ما دام قد وجد بيننا رجال يقاتلون. ونحن ننتظر على الحدود حتى يأتي أمر الله.

بصراحة أثبتت غزة أن صمودها أسطوري، ومن هنا يأتي الأمل. وحتى إذا ذهب المقاومون، فعندي أمل بأن رجالاً غيرهم سيظهرون، فالشعب موجود ويقاوم، وهذه المقاومة هي التي أحاول إظهارها في لوحاتي. وفي الوقت ذاته أظهر الألم بجانب الأمل.

لوحة «صورة سجين» استوحيتها من أحد المعتقلين الذي قامت قوات الاحتلال بتعصيب عينيه، ثم قاموا بجرّ أمه وراءه. قلت الحمد لله أنهم عصبوا عينيه عندما رأيت المنظر. لو كنتُ مكانه لفضلت الموت في تلك اللحظة، فهذا شيء لا يحتمل بالتأكيد. الشعب الفلسطيني يتحمل أموراً فوق الخيال، أنا أضع نفسي مكانهم.. بمكان الأم والطفل. هذه الأمور تعطيني الدافع، ومع ذلك سترين أنني أظهر الجانب المشرق فالأمل موجود، فرغم أنه معصوب العينين إلا أنه يفكر بالأقصى. ومع أنه ينزف إلا أن في نهاية خيط الدم أشجاراً تخرج من صدره، كما أن هناك نافذة تخرج منها الأوراق المزهرة.

«العودة»: بمن تأثرت من الفنانين العرب أو العالميين؟

بصراحة أكثر إنسان أثّر بي في البدايات هو أخي. كان يرسم وأذكر جيداً لوحة رسمها قبل ما يقارب 27 سنة عن فلسطين. واللوحة عبارة عن إنسان أقسم أن يشرب من أرضه، وعندما وصل قتلوه فاختلط الدم مع الماء باعتبار أنه شرب، ويخرج من ظهره نسر يحمل سلاحاً وهو يتابع القتال. كانت أكثر لوحة أثرت بي للآن، وقد دفعتني إلى الاستمرار في الطريق الذي أمشي فيه. أما أخي فبات مقلاً في أعماله، حطَّموه! كان لديه الكثير من الطموحات الكبيرة وقد درس هذا لمدة 7 سنوات في بلغاريا.

أنا أحترم كل الفنانين، لكنني أعجب باللوحة بغض النظر عن الفنان. يعجبني مثلا إنسان يعيش في بلاد بعيدة ويرسم لفلسطين مثل «لاتوف». أليس من باب أولى أن أرسم لفلسطين، فأنا أقرب لها منه، لكوني عربياً مسلماً وبحكم القرب، كما أن جزءاً من عائلتنا في نابلس ويعبد.

«العودة»: ما رأيك بالحركة الفنية التشكيلية في العالم العربي والفلسطينية خصوصاً؟

كلها تتجه كما قلتِ للتجريد، فالكل يحمل ألوانه ويجرّد هارباً من واقعه. قليلاً ما تجدين فنانين ملتزمين. يعجبني إسماعيل شموط وتمام الأكحل وبعض اللوحات لبعض الفنانين في الكاريكاتير مثل أمية جحا، أُعجب بهؤلاء الذين يحملون قضية ويعملون لها بوضوح. أنا أفرح عند رؤيتي للفن التجريدي لكنني أشعر بأنه ترف في هذا الزمن.

«العودة»: هل تشعر بأن الفن المقاوم أو الملتزم مهضوم حقه؟

نعم بشكل فظيع!! أعرف الكثير من المنشدين أو الرسامين الذين يتجنبون التطرق للقضايا المهمة. وهكذا يكون حقه مهضوماً..

«العودة»: وبماذا تفسر قلة الأعمال الفنية التي تعبر عن القضية الفلسطينية؟

سببه أولاً، ابتعاد الناس عن القضية له عوامل كثيرة، منها التفرقة، أي إنك أردني وأنا سوري وأنت فلسطيني. ثانياً، العمل من أجل القضية الفلسطينية ومن أجل المقاومة أخذت طابعاً إسلامياً، والإسلاميون مضطهدون، وبذلك يتم تصنيفهم بشكل غير صحيح، وفي معظم الأحيان تكون الدولة هي السبب. قلة الأعمال هي بسبب الحدود غير المرئية أو الحصار غير المرئي على الفكر العربي نفسه لكنه غير واضح. فيتربّى ويتشبع الإنسان على هذا، وحتى لو استطاع مقاومة ذلك سرعان ما يقتلونها فيه. لدي أفكار لعشرة معارض، لكن هذه الأمور تحتاج إلى الدعم، وكل ما أقوم به هو جهدي الشخصي.

«العودة»: ما هي أقرب اللوحات إليك؟

عدة لوحات: لوحة «عروس الشهادة»، رغم أني رسمتها بسرعة، فقط في 45 دقيقة! لكن الحقيقة هي أني فرغت فيها ما كنت أشعر به، كنت في لحظة انفعال بعد قصة العروس التي استشهد زوجها في ليلة زفافها. كنت متألماً جداً وكانت الألوان بجانبي فرسمتها بسرعة، ولم أعدل شيئاً فيها.. فقط توقيعي بعد 4 أشهر.

لوحة أخرى قريبة مني جداً هي «الصرخة»، والتي جسدت حالة المسجد الأقصى وهو يصرخ بسبب ما يتعرض له من حفريات. كنت أفكر بهذا الموضوع، فقمت بتشبيهه بإنسان له جسم، وهو متألم من الداخل فالسكاكين تقطع فيه. اللون البنفسجي يعبر عن الألم الشديد، دائماً اللوحات التي تكون قوية وشديدة اللهجة تصل للجمهور.

أيضا في لوحة "الانتفاضة" التي كانت ثالث لوحة، بقي الجمهور واقفاً عندها. كل لوحاتي فيها أمل إلا لوحة «عروس الشهادة»، إلا أنني أشرت إلى علو العروس فكانت أطول النساء وممتدة لنهاية اللوحة فقد ارتقت كما ارتقى عريسها للسماوات. أيضاً لوحة الأقصى، حاولت إدخال الأمل إلى اللوحة فقط من خلال إدخال اللون الأبيض فيها.