مجلة العودة

«وعد بلفور».. القوة تفرض الواقع والوقائع والواقعية

«وعد بلفور»..
القوة تفرض الواقع والوقائع والواقعية
 
ياسر علي
 
 

من نافل القول، نقد الديموقراطية الغربية، ونقد أساليبها. وبات الحديث عن الديموقراطية الآتية بالخير من وراء البحار، مثار سخرية! فمن الذي سيصدق أن السلطة الأولى في هذا العالم للديموقراطية والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان؟ ومن سيقتنع بأن نشر الديموقراطية في العالم يتطلب كل هذا الدمار والحروب والمال والنفط؟!
 
فرضُ الديموقراطية بالاحتلال، جريمة!
وفرض حقوق الإنسان بالمجازر، جريمة! فالغاية لا تبرر الوسيلة.
 وهذا إذا كانت قِيَماً سامية، فكيف بها إذا كانت ظلماً واحتلالاً ونكبة؟

هذا العالم تحكمه ديموقراطية القوة، لا ديموقراطية الشعوب والحقوق، فالأقوى هو الذي يمتلك أصواتاً أكثر في هذا النظام «الانتخابي». وإلا، فما الذي يميز الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن هل هو عدد السكان أم المساحة أم الاقتصاد؟ لا شيء مما سلف سوى القوة. فمن يمتلك حق النقض في أعلى هيئة تصويتية في العالم هم الأقوياء الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية الثانية.

إذن هي القوة التي فرضت الواقع والمسار والإيقاع الذي يتحرك فيه العالم كله.

نعود إلى بلفور السيئ الذكر.

حين درست الحكومة البريطانية وعد بلفور، عدّلت فيه ليخرج أقلّ سوءاً من الصيغة الأصلية، فقد كان أسوأ بكثير. وكان حاييم وايزمن ينتظر القرار في ردهات المبنى، حين خرج إليه من مجلس الوزراء صديق يلوّح له بنصّ القرار قائلاً: إليك الولد (يقصد نص القرار).. علق وايزمن لاحقاً في كتاباته: «لم يعجبني ذلك الولد، لكني قررت أن أجعله كما أريد»، أي بالقوة.

وعندما صدر القرار 242، وكان مُلْتبساً في ترجمته، هل كان القرار يطالب «إسرائيل» بالانسحاب من «أراضٍ محتلة» أم من «الأراضي المحتلة»؟ يروي فايز الصايغ لبعض أصدقائه، أنه سأل اللورد كارادون (المشرف على صياغة القرار) عن حل هذا الالتباس، وكيف يمكن العرب الحصول على حقوقهم، فرد عليه كارادون: «أنتم تستطيعون أن تجعلوه كما تريدون»، أي بالقوة.

لكن القوة جاءت معاكسة! فأقصى عروض الانسحاب ترفض النظر من حيث المبدأ بوضع القدس والأغوار (أي أكثر من 30% من مساحة الضفة).

بمقدار ما تكون قوياً، سيحترمك المجتمع الدولي، والثراء هنا لن يؤثر في الاحترام، بل في الاستخدام. ولطالما كان رأس المال جباناً.

عضوية «إسرائيل» في الأمم المتحدة مشكوك بشرعيتها، حيث إن عضويتها كانت مشروطة، وما زالت حتى اليوم، بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وهي حتى الآن لم تنفذ هذا الشرط. بل إن وجودها على أرض فلسطين جاء بالقوة، وليس خافياً ذلك على أحد (يرى الخبير القانوني الدولي شفيق المصري أن المقاومة بعملها على تحرير فلسطين بالقوة ،إنما هي تنفذ الإرادة الدولية التي لم تجرؤ الأمم المتحدة على تنفيذها).

على مدى ستين عاماً، فرضت «إسرائيل» على المنطقة والعالم شروطها ووجودها بالقوة، وفرضت الوقائع التي تريدها، من احتلال ونهب واستيطان وتهويد، حتى أسست هذه الوقائع للأمر الواقع الذي نعيشه اليوم. وكان تأجيل قضايا الحل النهائي في عملية التسوية فرصة ذهبية لـ«إسرائيل» استطاعت أن تستغلّها من خلال فهمها لمآلات الأمور في هذا العالم «الديموقراطي»، وسعت لكي تفرض وقائع جديدة وصارخة، فلم يتوقف الاستيطان طوال خمسة عشر عاماً من زمن أوسلو الرديء، وكذلك تهويد القدس وطرد أهلها، والسيطرة على مصادر المياه، وتقسيم الضفة الغربية وتفتيتها.

هذه الوقائع الجديدة فرضت بالقوة «أمراً واقعاً» دعا جورج بوش في 14/4/2004 لإعلان «لاءاته» الشهيرة التي وصفتها جهات صهيونية بـ«وعد بلفور الثاني»، فرفض عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الرابع من حزيران (يونيو) 1967، بحجة «الواقع الجديد».

هذا يدعونا لاستعادة العبارة الشهيرة، بعيداً عن أساليب البلاغة الاستهلاكية، التي تقول إن العالم تائه بين «حق القوة» و«قوة الحق»، وبين المصالح والمبادئ، وبين الخير والشر. وأخيراً، بين النظرية والواقع اللذين يُفترض في منطق الأشياء ومسارها أن يتوافقا، إلا إذا كان هذا الواقع مفروضاً. وهو ما حصل على الأرض بعد فرض الوقائع التي أصبحت واقعاً.. مفروضاً!

أسوأ ما في الأمر، هو الهجمة الغربية على عملية التسوية، ودعوته رموز هذه الهجمة إلى ضرورة تفهّم الوقائع والواقع، مع إيمانهم بأن عودة اللاجئين حق، كما قال أخيراً رئيس الفيدرالية السويسرية باسكال كوشبان في أثناء زيارته لبنان، ولكن العودة الكاملة غير واقعية.

إذن، الباطل (وعد بلفور)، فرض في المنطقة كائناً غريباً عنها، بالقوة. هذا الكائن، فرض بالقوة، وقائع جديدة رفضها العالم ثم سكت عنها، ثم أقرّها، فأصبحت أمراً واقعاً. وبالقوة أيضاً، أجبرت الوقائعُ والواقعُ العالمَ على أن يتعامل «بواقعية» مع ما استجدّ على الأرض. كأنه يكافئ الظالم رأفةً به مما سيعانيه إذا أعاد الأمور إلى ما كانت عليه، فتغيير الوقائع سيُكبّده خسائر فادحة.

هي القوة إذن، منذ ما قبل بلفور، فهل يسمع دعاة «السلام استراتيجيتنا الوحيدة» هذا المنطق، ام أنهم «يتفهمون» الواقع الجديد إلى حد «الوقوعية »  فتخلّوا عن تغييره، كما يتفهمون أن العودة تؤدي إلى تدمير «إسرائيل» فتخلّوا عنها؟!