مجلة العودة

حتى نعود: جيل العودة يعرف دربه - د. هشام ثابت

جيل العودة يعرف دربه

د. هشام ثابت/
المنسق العام لتجمع الأطباء الفلسطينيين في أوروبا
 

عيون تتلألأ، تبرق أملاً ينساب شعوراً بالعزة.. ترتسم علامات التساؤل على جبهة رسمت تجاعيد الزمان عليها خرطة فلسطين.. أم محمد لاجئة فلسطينية من يافا، تدحرجت بها أيام النزوح لتستقر بها في بلاد الغرب. تعيش الغربة جسداً والروح تروح صباح مساء مع الأحفاد؛ إذ تحلّقوا على مائدة تفوح بعبق برتقال يافا وتقول آه يا جدّة لو ترجع فينا الأيام ساعة أستنشق فيها عطر فلسطين!! أين يكون مؤتمر العودة المقبل يا جدّة؟

يفاجئها أوسط أحفادها وأحذقهم أحمد، فتتساءل هي الأخرى ثم تسارع مجيبة: ولكننا لم نكد نفرغ بعد ياجدّة من مؤتمرنا السابق!! نعم، يجيب أحمد، لكننا نشتاق إلى عيشنا في عرس الوطن.

هي صورة متكررة أحداثها، تتغير شخوصها على امتداد القارة الأوروبية حيث استقرت أوتاد خيام هذا الجزء الأصيل من الشتات الفلسطيني، يردد جيلاً بعد جيل: وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي.

بأصالة من يملك الحق، تمتد جذوره في الأرض وترتفع صيحاته تعانق شمس النهار لأنها لا تحب الظلام إذ تسللت في لجة من غسقه فلول خفافيش تنشر الفساد وتحاول عابثة قضم جذور الزيتون الرومي ثابت الأصل الممتد الفرع يستظل به كل ناشد للحقيقة، مدافع عن العدالة، حامل لراية الثورة المشحونة نوراً يضيء الأرض للمستبصرين.

بقوافل كأسراب الطيور تتجمع حزناً يوم النكبة، وأسى يوم النكسة، تغالب الألم فيتكئ السبعيني فيهم على العشري، والأم على حفيدتها التي تنجب أطفالاً يعاودون التجمع مرة أخرى، ويسمون تجمعهم «انتفاضة» تسلحهم أرضهم فتمدهم بحجارتها كأنهم طير أبابيل. هذي حكايتهم مع الأرض، أما حكاية الأرض معهم فالمشهد نفسه متكرر بالتجمع تارة أو سمّه التجمهر؛ فمخيم هنا، وديوان لأهل الأرض هناك، ومهرجان هنا ومؤتمر جامع لهم في غربتهم بأوروبا هناك، يحملون الذكريات ومفاتيح العودة، لا أملاً بالعودة، بل يقيناً بصدق مشاعرهم وعدالة قضيتهم تعيش فيهم فلسطين حيثما رحلوا وارتحلوا.

أكتب السطور هذه وأهازيج الفرح والزغاريد تتعالى لأنهم يفتتحون مقراً لتجمعهم في مدينة دورتموند في غرب ألمانيا أو دار المنى كما تروقهم تسميتها. لم ننته بعد من أعمال التجهيز للمكتب، أجيب إحدى الأخوات المتعجلات لدعوة أخواتها للاحتفال بالافتتاح، فتلح بالطلب، فأستجيب لرغبتهن الجامحة، خصوصاً أن موعدنا مع مؤتمر العودة قد اقترب ولا بد من تواصل الجهد واستغلال ما بقي من دقائق. فتعاود الاتصال بعد ساعة وتقول: الحضور يفوق خمسين عائلة فلسطينية، منها عشر عائلات مسيحية، وأظنك لا تخطئ مدلول الوحدة لهذا الشعب في مثل حضور كهذا، تتحدث بلهجة الواثقة المنتصرة.. وكذلك شعبها، فالمنتصر في عرف الدنيا هو من يكتب التاريخ، ولئن كنا وشعب ألمانيا مثلا نجهل كيفية موت هتلر، فباللحظة التي انكسرت فيها شوكته أمام الحلفاء استحالت انتصاراته ويلات والمناداة باستعادة إمبراطوريته تهمة يجرّمها القانون الألماني والعالمي. وبهذه المعادلة البسيطة يكون شعبنا المنتصر في معركته حتى يومنا هذا!! فأي تاريخ ناصع تكتبه آلة الإجرام الصهيوني وجدار عزله إذ يستحضر من التاريخ نظام الفصل العنصري، ومستوطناته الإقطاعية آكلة أرض المستضعفين، وسجونه بأحكامها الإدارية من غير تهمة ولا محكمة، وفوسفوره الأبيض وحصاره القاتل وحتى المتضامنون الدوليون لم يسلموا من أذاه.

وتتوالى مشاهد الأمل فتتسابق المحافظات الألمانية في الاستعداد لتسيير الحافلات لمؤتمر العودة في السابع من أيار الذي تحتضنه مدينة فوبرتال في غرب ألمانيا، فتعلن برلين التجمع الأكبر للجالية الفلسطينية في أوروبا تسيير خمس حافلات قابلة للزيادة، فتجيبها محافظات الوسط وغرتها مدينة فرانكفورت فتعلن تسيير عشر باصات أعلن المنظمون وأثناء كتابتي هذا المقال زيادتها الى اثنتي عشرة حافلة قابلة للزيادة، وهكذا الشمال وعروسه هامبورغ والجنوب وشتوتغارت مع ميونيخ زعيمة مدنه.

هي أسراب الحمام مرة أخرى تجمعها حافلات العودة على طريق العودة تعلن: العودة حق لا تنازل ولا تفويض، وأجيالنا في عودتنا قد عرفت دربها.