مجلة العودة

نحو مفهوم عالمي للعودة

نحو مفهوم عالمي للعودة

 
 

الدماء تنزف غزيرة، ومعها تفيض العبرات حرّى من المآقي، والملايين من البشر يهيمون على وجوههم لا يلوون على شيء. منهم من حصدتهم القلاقل والاضطرابات الداخلية، ومنهم من تنكّرت لهم الأرض وأشاحت عنهم السماء، فوقعوا فريسة لوحش كاسر لم يرحم صغيراً ولا كبيراً، ولم يحسب حساباً لمدى بشاعة الصور التي تملأ فضاءات الإعلام لضحاياه الذين قضوا بعد أن فتك بهم وحش الجوع وأمعن في التمثيل بأجسادهم النحيلة.

إزاء تلك المشاهد الدامية، والأخبار المؤلمة في بلادنا التي تشهد ربيعاً عربياً، أو تلك التي تشهد خريفاً جافّاً قاسياً يأكل الأخضر واليابس، لا يستقيم أبداً أن يطلع علينا من يدّعي التحدّث باسم فلسطين أو باسم المسجد الأقصى ليقول إن ما يجري حولنا من أحداث لا يعنينا ولا يفرض علينا أيّ تبعات إنسانية، وأن قضية فلسطين تبقى هي القضية المركزية لكل أبناء الأمة، وأن الاهتمام الإعلامي والجمع المالي يجب ألا تنخفض وتيرته، وألا تتحول وجهته إلى أي جهة كانت مهما كان الوضع صعباً والأحوال صادمة.

 
 

ذلك الصوت النشاز يحاكي شعاراً بائساً لاكه البعض وحاول تسويقه علينا وعلى الأمة أن "يا وحدنا"، وتجرّعنا شيئاً من غصصه بنفور من كان يقف حقيقةً معنا ومع قضيتنا لما وجدوا فيه من نكران وإجحافٍ بحقّ المؤيدين والمتعاطفين معنا، حتى جاء اليوم الذي رأينا فيه شعوب الأرض تبدي تضامنها وتكاتفها مع شعبنا في محنته ضد الاحتلال وما يمارسه من قمعٍ وبطشٍ وإرهابٍ بحقّ شعبنا وما يمارسه من سرقة واغتصاب وتهويد لأرضنا المباركة، لم يبخلوا بدنانيرهم ودراهمهم ولا بدموعهم وآهاتهم ودعواتهم، كل حسب استطاعته، وفي حالات أخرى بدمائهم الزكية كتلك التي سفكت في عرض البحر المتوسط، وهي في طريقها إلى غزة المحاصرة على أيدي الآلة الهمجية الصهيونية.

 
 

إن فلسفة "العودة" التي نتمسك بها برنامجاً استراتيجياً راسخاً يجب أن تتسع لتعالج تلك العوارض المرضية التي قد يصاب بها البعض، فيظن أن وقوعنا في دائرة البلاء يمنعنا من مشاركة غيرنا بلاءهم، ذلك البعض الذي يريد أن يحتكر مشاعر التعاطف معه وحده وأن يصرف الأبصار عن معاناة غيره، وكأنّه ما مسّ الضرّ أحدٌ سواه!! مثله في ذلك مثل بني صهيون الذين سعوا خلال تاريخهم القديم والحديث إلى الظهور بمظهر الضحيّة التي تستحق وحدها الشفقة والرأفة والمؤازرة، فهم المضطهدون دوماً وهم المعذبون في الأرض، وهم الذين تلاحقهم لعنة العداء للسامية أبد الدهر، وهم ضحايا المجازر والهولوكوست. إنهم وإنهم وإنهم... وليس لأحد أن يقدم مظلمة على مظلمتهم أو أن يرفع شكوى فوق شكواهم أو أن يستدرّ عطفاً على غيرهم من البشر. وهل عجب أن الكيان الصهيوني منع أخيراً وفداً يابانياً من المشاركة في إحيائهم لذكرى الهولوكوست في القدس خشية أن يتطرق متحدثهم إلى ما سببته قنبلة هيروشيما من معاناة لليابانيين!!

 
 

إن مفهوم العودة العالمي يجب أن يترسخ لدى أبناء فلسطين أولاً بأنه حق ثابت ضمنته الشرائع السماوية وكافة القوانين الدولية ونادى به كل صاحب فطرة سويّة سليمة. إنّ من حق ابن الأرض أن يرجع إلى أرضه دون أية اشتراطات أو منّة عليه رغم أنف المحتل الغاصب، مهما طالت الأيام وتقادم الزمان. مفهوم ننادي به لأبناء شعبنا المحرومين من أرضهم وديارهم، ونتبناه لكل شعوب الأرض، ونتحرك به على كافة الصعد وفي كل المحافل والمنتديات، لنعلنها صريحة واضحة أننا أبناء فلسطين الذين ذاقوا مرارة التشريد والحرمان والتهجير من بيوتهم على أيدي قوات الاحتلال الغازية، ثم ذقنا الأسى والحرمان ومرارة ظلم القريب من بعض الحكومات العربية في المنافي والشتات. سنسعى جاهدين ألا يقع مثل ذلك الظلم على أحد من البشر، نعرّف أنفسنا بأننا رسل الأقصى إلى البشر كافة، أننا نعفو ونصفح عمن ظلمنا من إخواننا العرب والمسلمين ولا نحمل لهم ضغينة أبداً ولا نأخذ الشعوب بجريرة حكامها، ونسعى جاهدين إلى إعانة المعوزين والمحتاجين؛ لأننا أولى بذلك من غيرنا. وفي حالة مفزعة كالصومال، نحن بحاجة إلى من يسعى في الإصلاح بين الفرقاء والمتخاصمين قبل تسيير قوافل الإغاثة؛ لأن في ذلك معالجة لأصل الداء، ذاك أن فساد ذات البين هي الحالقة، تحلق الدين وتحلق معها البركة، فتقحط السماء وتجفّ معها الأرض. في حالات أخرى، علينا أن نكون "محضر خير" نفيض حباً ووداً للجميع.

إنّ مفهوم العودة العالمي يلزمنا بالتفاعل مع هموم الشعوب وآلامها، مهما كان مصدرها ـــ دون أن يعني ذلك التدخل في الشؤون الداخلية ـــ ولو بالحد الأدنى الذين نشعر فيه بأننا بشر أسوياء نحمل قلباً يخفق ويئن ويتألم، وحبذا قلب كقلب حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي فجعه رؤية عصفورة صغيرة أُخذت عنها فراخها فصاح في أصحابه: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها.