مجلة العودة

صفحة من كتاب :ذاكرة المغلوبين

ذاكرة المغلوبين

المؤلف: د. فيصل دراج

من الصفحة 230 حتى الصفحة232
 

لقد تحدث فانون، وهو المثقف التحرري، ومن كان على صورته، عن هوية التحرر في ظرف يشبه الظرف الفلسطيني ويختلف عنه، ويشبه في جدل المستعمِر والمستعمَر، أو في جدل الاضطهاد والتحرر؛ ويختلف في ظاهرة المنفى والرحيل التي ألمت بالشعب الفلسطيني، كما لو كان هذا الشعب، وفي قدره الغريب، أن يقاتل ضد اتساع المنافي وضد القوى المتعددة التي دفعته إليها، وفي علاقات التشابه والاختلاف، ويكون على الشعب الفلسطيني أن يستفيد من موروث فانون وغيره، ويكون عليه، وفي اللحظة ذاتها، وأن ينجب مساهمته التحريرية الخاصة، التي تبدو، ومنذ عقود طويلة، نصاً مفتوحاً واضح البدايات، ونهايته عصية على التعيين.

 
 

وعي الهوية بين الضرورة المنطقية والاستجابة التاريخية:

 
 

كما تكرر الشعوب التي تجهل ماضيها تجاربها الماضية، فإن الهوية التي تتعلم من الجديد الذي تواجهه تظل مهزومة ومغتربة وعن زمنها. فقبل الصدام مع آخر مختلف، يكتفي اإانسان بمعرفة ضيقة، فقيرة في المكان والزمان، وينقب بعد الصدام، منطقياً، عن معرفة أكثر اتساعاً، تحتضن حاضر الطرفين المتصادمين والماضي الذي خلق بينهما تفاوتاً وفجوة.

ولا تشكل المعرفة، في وجهيها النظري والعلمي، إضافة خارجية إلى الهوية، كما لو كانت الأخيرة نواة، والمعرفة قماطاً لها، بل المعرفة هي ما يعطي الهوية قوامها وماهيتها. وهذا ما يسمح بالتميز بين هوية شكلانية، لا تلتفت إلى مستجدات التاريخ، وهوية تاريخية تبني ذاتها بمضامين متجددة، وتتعرف على ذاتها بقدر ما تعرف الآخر المختلف الذي تواجهه. فسؤال الهوية يرد إلى التاريخ. بمعنى مزدوج، يرد إليه في تاريخه الشرط الذي أيقظ السؤال، ومن حيث هو أثر للمواجهة مع آخر في سياق معين، ويحيل عليه في تاريخية المضامين التي تنشئ الهوية الفاعلة، ومن دون وعي التاريخ، تتحول الهوية إلى شكل ساكن، تتوزع على الفولكلور والميتافيزيقا. وذلك أن بناء الهوية التاريخية يرتكن إلى القدرة العارفة على مواجهة تحدي الآخر، واستنباط وسائل الدفاع التي توافقه. ولعل الوعي التاريخي، وفي حضوره وغيابه هو الذي يدفع الهوية الشكلية إلى التعامل مع قولة الفرق ويدفع الهوية التاريخية إلى الأخذ بمقولة الاختلاف، حيث المقولة الأولى تفصل بين المجتمعات فصلاً كاملاً، كما لو كانت جواهر منعزلة ولا جسور بينها، حيث المقولة الثانية ترى في وحدة المجتمعات الانسانية شرطاً للتميز في ما بينها.

 
 

وفي الحالات كلها، فإن لقاء الآخر المختلف، كما العثور على الوسائل النظرية والعلمية للتعامل معه. يؤكد الهوية مشروعاً علمياً منفتحاً على المستقبل، وما قول سارتر: "الكائن فارغ من كل تحديد ماعدا الهوية مع ذاته" إلا إيحاء بفكرة اإانسان – المشروع، الذي تحمله هويته إلى غايته، والتي تنقله من وضع الفراغ إلى وضع آخر، ومهما تكن أحوال المشروع الذي يمثله الإنسان، تظل الهوية الذاتية شرطاً لا فعل من دونه، لأنها تعبير الاستقلال الذاتي وقدرة الإنسان على الرفض والقبول والاختيار، بل إن مضمون الاختيار هو ما يحدد قوام الهوية وماهيتها.

حديث الهوية، بالمعنى النظري المألوف، ينسجم مع كيانات مستقرة يؤمن لها استقرارها في وطنها التاريخي تفاعلاً مجتمعياً، من وجهة نظر الأهداف التي تصوغ الهوية وتحدد أهدافها، وقد حرم الشعب الفلسطيني من استقراره المجتمعي، بعد أن حرم من وطنه بقدر ما تفاعل الكل والأجزاء والذي تتطلبه الهوية في معناها المألوف. وأدى الوضع الفلسطيني، الموزع على الشتات والمنفى وعلى كل ما ينقص الوضع الإنساني السويّ، إلى حرمان الفلسطيني من عناصر تقتضيها الهوية السوية وتأمر بها، مثل عناصر الاستقلال الذاتي وحقوق الرفض والقبول والاختيار.

 
 

ومهما تكن العناصر المألوفة التي تدخل في بناء الهوية الفلسطينية، فإن عنصر المنفى يبقى مسيطراً على ما عداه من عناصر، إن لم يكن هو العنصر - المرجع الذي يعيد صياغة العناصر المألوفة كلها. يقول جان جينيه في كتابه ((أسير عاشق)): "إذا كانت حقيقة الزمن الذي قضيته في جوار فلسطينيين – لا أقول معهم - قابعة في مكان ما، فهي (وما أراني أعبر عن هذا الشيء إلا برداءة) ستكون محفوظة في طيات كل كلمة تزمع الإبانة عن هذه الحقيقة". يخبر الأديب الراحل، في جملته المحملة بالاعتراضات، عن الفرق بين الفلسطيني الذي يذهب في مأساته إلى قرارها الأخير، والمتعاطف الذي ينظر إليها من ضفة أخرى، أو من جوار حميم يشعره بنار التجربة ويقيه من حروقها المباشرة. وتتمثل تجربة الفلسطيني، التي صاغت وستصوغ هويته المختلفة، في حروقه المباشرة بنار المنفى وفي حروقه المتوالدة الصادرة عن مواجهة المنفى ورفضه.

ومع أن حديث الهوية الثقافية يتضمن الاعتراف بهويات أخرى متصلة بها وترد إليها، فإن خصوصية التجربة الفلسطينية تقضي بتماثل الهويات المحتملة جميعاً. أو بتبادلية وظائفها المتعددة من دون انفصال، طالما أن الهوية لا معنى لها إلا في علاقتها بالوحدة الوطنية الواسعة، التي قاتل الشعب الفلسطيني فيها ومن أجلها في آن. وهذا ما قصده فرانتز فانون في كتابه (معذبو الأرض) حين كتب: "ويبقى بعد ذلك أن هناك مسألة أساسية تطرح: ما هي العلاقة بين الكفاح والصراع، سواء أكان سياسياً أم مسلحاً، وبين الثقافة؟ هل تعاني الثقافة توقفاً أثناء الصراع؟ هل الصراع القومي مظهر ثقافي؟

هل نقول إن الكفاح التحرري، وإن يكن خصباً في ما بعد، هو في ذاته إنكار للثقافة؟