مجلة العودة

فلسطينيو سورية في تركيامن عذابات الحرب إلى عذابات المنافي

فلسطينيو سورية في تركيا

من عذابات الحرب إلى عذابات المنافي

عز الدين الطيراوي – إسطنبول

حين كنا يوماً ندرس في إحدى الدول الشرقية، سأل صديقي الفلسطيني - اللبناني موظفأ في القنصلية اللبنانية في ذلك البلد: لماذا جواز سفرنا يختلف عن جواز سفر المواطن اللبناني؛ فهو كبير ويشبه الدفتر الصغير، بينما جواز سفر المواطن اللبناني صغير على مقاس الكفّ؟ فأجابه هذا الموظف: حتى يتحمل رمياً من شبابيك السفارات والقنصليات.

لم أكن أعي ما قصده ذلك الموظف، حتى وقفت أمام بعض السفارات الأجنبية والعربية وأمام المنافذ الحدودية، حاملاً وثيقة سفري الفلسطينية السورية.

لا تبدأ القصة ولا تنتهي هنا؛ فثمة ما لا يعرفه كثيرون عن رحلة الفلسطيني - السوري منذ خروجه من الأراضي السورية وحتى وصوله إلى دول الجوار، وخصوصاً تركيا. فالإعلام العربي والفلسطيني الهزيل جداً أمام فداحة الحدث وعظم ما يتعرض له الفلسطيني لم يتطرق في كليته لهذا الموضوع، بل ربما تجنب الحديث عنه لأسباب ما زلنا نجهلها.

الفلسطيني في سوريا... خياران أحلاهما مُرّ

حلم السفر والهجرة يراود الفلسطيني في بلاد الشتات والمنافي منذ نعومة أظفاره؛ لأن شعوره بالغربة يولد معه. يطارده في أزقة المخيم، في مدرسته وعمله، يلازمه في كل حركة يتحركها داخل المخيم أو خارجه.

مع بداية الأزمة في سورية واشتداد القصف على المخيمات الفلسطينية، أخذ معظم الفلسطينيين يفكر بالخروج من سورية إما إلى دول الجوار أو إلى أوروبا، وهذا ما جرى بالفعل، وخصوصا بعد يوم الأحد 16/ 12/ 2012 الذي يُعَدّ يوماً أسود في تاريخ مخيم اليرموك، حين أغارت الطائرات على مكانين مكتظين بالمدنيين وبالنازحين، وذهب ضحية هذه الغارات أكثر من 160 شهيداً.

ووقف الفلسطينيون في معظم المخيمات الفلسطينية التي تتعرض للقصف والحصار الممنهج أو الذين رحلوا عنها أمام خيارين أحلاهما مرّ كما يقولون.

الأول، البقاء في سورية وتحمّل تبعات هذا البقاء من قتل واعتقال أو تجويع وتعرض يومي لمخاطر الحرب. والثاني، الذهاب للمجهول إلى دول المنافي الجديدة.

تركيا... الخيار الأصعب

توجه كثير من فلسطينيي سورية إلى الدول العربية، وسجّل لبنان أكبر وجود لهم، تليه مصر فالأردن. أما في تركيا، فلا توجد حتى كتابة هذا المقال إحصائية رسمية عن أعداد الفلسطينيين السوريين في هذا البلد، وذلك لأسباب سنذكرها لاحقاً.

الرحلة إلى تركيا يشوبها كثير من المخاطر، وخصوصاً أن السفارة التركية في دمشق مغلقة، ما يعني الذهاب إلى لبنان أو إلى أي دولة أخرى للحصول على الفيزا التي لا تمنحها تركيا للفلسطيني السوري في معظم الأحيان، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى المجازفة والدخول إلى تركيا بطرق غير مشروعة، وهو ما ينطوي على مخاطر كبيرة، أولها الاعتقال، وفي أسوأ الحالات القتل على أيدي حرس الحدود.

وهناك مافيات تهريب عبر الحدود لا يهمها سوى المال؛ فقد تصل تكلفة إدخال شخص ما إلى تركيا بطرق غير مشروعة إلى 700 دولار، وبعد دخول هذا الشخص الأراضي التركية يرفع المهربون أيديهم عنه ليواجه مصيره بنفسه في بلد لغتها غريبة وكل ما فيها مختلف عمّا ألفه في سورية.

عدم الحصول على الفيزا أو منح التأشيرة يعني الدخول بطريق غير شرعي

لا تعامل السلطات التركية الفلسطيني السوري مثل المواطن السوري الذي يدخل من المعابر الحدودية دون أي تأشيرة؛ فأي فلسطيني يصل إلى المعابر الحدودية الرسمية هارباً من سورية يقابل برفض كبير لإدخاله رسمياً، رغم حمله جواز سفر صادر عن الجمهورية العربية السورية. هذا وتحرص السلطات التركية على إعادة أي فلسطيني يصل إلى كوة ختم الجوازات التركية إلى الأراضي السورية، وهذا ما جرى بالضبط مع أخي وعائلته، الذي أثار مشكلة هناك، لاعناً وشاتماً كل المتاجرين بالقضية الفلسطينية.

إن عدم الحصول على الفيزا ومنع أي فلسطيني من الدخول إلى الأراضي التركية يدفع كثيرين إلى اللجوء إلى الحل الثاني، وهو الدخول بنحو غير رسمي ومخالفة القانون مكرهين. ومخاطر هذا الحل كبيرة، كما ذكرنا، أقلها التعرض للنصب والاحتيال، أو التعرض للاعتقال أو القتل. وإذا تجاوز هذا كله، فمواجهة الحياة في تركيا في ظل عدم منح الفلسطيني أي أوراق ثبوتية تركية، هو العوم دون معرفة السباحة في بحر من مجهول مقيت.

الحياة في تركيا... أسئلة كثيرة وأجوبة قليلة

بعد سؤالنا كثيرين عن سبب اختيار تركيا بلدَ منفى جديداً، مكرهين هرباً من الحرب وتبعاتها، أجاب أكثرهم: إن الخوف من تكرار سيناريو ما يجري للفلسطينيين الذين نزحوا من سورية إلى البلاد العربية هو ما دفعنا للتوجه إلى تركيا. فما يجري في الأردن ولبنان ومصر من معاملة سيئة للفلسطيني السوري على وجه الخصوص يلخّص سبب اختيار تركيا بلدَ منفى جديداً.

الحياة في تركيا لا تقل صعوبة عن الحياة في بلاد المنافي الأخرى؛ فهموم العمل والحصول على أوراق الإقامة وتعلم لغة جديدة تجعل الفلسطيني السوري أمام أسئلة كثيرة قلما يجد عنها أجوبة.

بداية، إنّ الحصول على أوراق ثبوتية في تركيا أول وأكبر هموم الفلسطيني؛ لأنّ هذه الأوراق هي المفتاح لحل معظم المشاكل، والحصول عليها أمر صعب بسبب رفض السلطات التركية اعتبار الفلسطيني السوري مثل المواطن السوري، رغم أنّ الفلسطيني يعاني ما يعانيه السوري، وخرج من سورية مكرهاً، شأنه شأن مئات الآلاف من السوريين.

ويترتب على عدم وجود أوراق إقامة، حرمان العمل الذي يشكل الحجر الأساس في حياة كريمة، والتأمين الصحي (العلاج المجاني)، بالإضافة إلى التعرض للاعتقال، لعدم وجود أوراق إقامة، الأمر الذي يدفع الكثيرين لإلى التفكير في الخروج من تركيا إلى دول مجاورة، ككردستان وبلغاريا واليونان.

وإزاء هذا الشأن، تقدمت إحدى العائلات الفلسطينية إلى ما يسمى هنا الأمنيات، وهي المسؤولة عن الأجانب في تركيا، فرُفض استقبال أوراقهم، وطلبوا إليهم أن يذهبوا إلى معبر حدود أنطاكية (هاتاي) حتى يختموا جوازات السفر ويدخلوا تركيا بنحو قانوني. وعلى الرغم من معرفة هذه العائلة مسبقاً أن السلطات التركية على الحدود لن تختم جوازات السفر بسبب القانون التركي الذي يطلب من الفلسطيني السوري أن يحصل على الفيزا ليدخل، لم يقتنع موظف الأمنيات بأن الفلسطيني السوري سيمنع من الدخول من الحدود الرسمية، قائلاً إن جوازات سفركم صادرة عن الجمهورية العربية السورية، ويجب أن تدخلوا بلا فيزا، وأضاف: اذهبوا وسيختمون جوازات سفركم في (هاتاي).

وفي المعبر الحدودي، وبعد الوقوف في طابور كبير لتختيم الجوازات، رفض الموظف التركي إدخال العائلة ومنحها تأشيرة الدخول، قائلاً لهم: يجب الحصول على الفيزا. ذهب رب العائلة إلى مسؤول النقطة الحدودية ليعرف سبب المنع، وكرر هذا المسؤول مقولة الموظف بأنه يجب الحصول على الفيزا، وبعد دقائق أتت سيارة تابعة للنقطة الحدودية وحملت العائلة الفلسطينية لتعيدها إلى معبر باب الهوى في الأراضي السورية. ولا تزال هذه العائلة في إحدى القرى السورية الحدودية تنتظر مصيراً مجهولاً، مذهولة مما جرى.

أرقام مجهولة ومصير غامض

لا توجد حتى كتابة هذا المقال إحصاءات دقيقة وواضحة عن أعداد اللاجئين الفلسطينيين على الأراضي التركية، وذلك لعدة أسباب:

عدم وجود رغبة حقيقية لدى معظم الفلسطينيين في الإقامة الدائمة في تركيا، ولهذا نجد كثيراً من الداخلين للأراضي التركية يغادرونها في أول فرصة تتسنى لهم. ومعظم الفلسطينيين يتطلعون إلى أوروبا، ولهذا نجد كثيراً منهم لم يراجع (الأمنيات) التركية للحصول على أوراق إقامة.

رفض السلطات التركية تسجيل الفلسطينيين الداخلين بطريق غير شرعي بسبب وجود شرط صعب في طلبات القبول، وهو وجود كفيل تركي. وغالباً لا يجد المتقدمون هذا الكفيل.

رفض معظم الراغبين في الإقامة بتركيا السكن في المخيمات المخصصة للاجئين السوريين المنتشرة في جنوب تركيا، التي تعاني ما تعاني من صعوبة في العيش الكريم.

عدم التواصل مع المؤسسات الفلسطينية الفاعلة على الأرض، كالسفارة الفلسطينية والهيئات والجمعيات الإغاثية التي لها مكاتب ومندوبون على الأراضي التركية.

توجه الفلسطينيين إلى عدة مدن تركية وعدم تركزهم في مكان واحد، ما يحول دون معرفة الأعداد الحقيقية بسبب عدم التواصل.

الإحصاءات الموجودة جرى تحصيلها من طريق الجهود الفردية. وتقدَّر أعداد الفلسطينيين بين 300 و500 شخص، موزعين على المدن التركية حسب الرسم البياني الآتي:

أوروبا ورحلة المستحيلات الخمسة

إزاء ما يعانيه الفلسطيني القادم من سورية إلى الأراضي التركية، يبقى الخيار مفتوحاً أمام هذا الإنسان الذي ترك كل شيء وراءه من أجل حياة كريمة. وأحد أهم الخيارات التوجه إلى أوروبا التي وللأسف تمد أياديها مرحبة بهؤلاء مقابل رفض العرب والمسلمين لهم.

رحلة أوروبا هي رحلة لا يمكن أن يمرّ بها أي فلسطيني، انطلاقاً من الأراضي التركية دون التعرض لأحد المستحيلات الخمسة التي إن جرى تجاوزها فقد يصل إلى بر أوروبا الآمن كما يسميه البعض. وهذه المستحيلات تلخّص فداحة ما يمكن أن يواجه الفلسطيني القادم من سوريا إلى تركيا:

يستحيل على أيّ فلسطيني يريد الذهاب إلى أوروبا عدم اللقاء مع أحد رجالات تجار البشر أو كما يسمى مافيات التهريب عبر الحدود.

يستحيل على أيّ فلسطيني عدم التفكير أو الذهاب إلى مفوضية اللاجئين التي ترفض استقبال طلبات الفلسطينيين غير المسجلين عند السلطات التركية.

يستحيل على أيّ فلسطيني عدم دفع مبالغ طائلة، وقد تكون أحياناً خيالية، للخروج من الأراضي التركية نحو أوروبا.

يستحيل السفر دون تذوق طعم التشرد وعدم الاستقرار والتعرض لأقسى أنواع العذاب النفسي.

يستحيل السفر دون التعرض لخطر الاعتقال على يد الأمن التركي أو الموت غرقاً أو لأي سبب آخر.

أخيراً وليس آخراً، معاناة الفلسطينيين في تركيا لا تقف عند حدود، وهناك عدة شهادات تتعلق بتقريرنا لا نستطيع أن نذكرها هنا لقلة السطور المتاحة لهذا التقرير، لكنها معاناة حقيقية غائبة أو مغيبة عن الإعلام الفلسطيني الرسمي والخاص، وضائعة بين متاهات مؤسسات لا تولي هذه القضية أهمية ولا تعطيها حقها في الوصول للرأي العام العربي والتركي والدولي.