مجلة العودة

رمضان في المخيم.. فقر وحرمان وحنين للماضي

رمضان في المخيم.. فقر وحرمان وحنين للماضي
 
جنين/ محمد ترابي

 

هم ذاتهم اللاجئون دوماً في كل مخيمات الشتات، ينتظرون إطلالة شهر رمضان المبارك بقلوب متلهفة للقائه، وأخرى راجفة من عدم مقدرتها على تلبية المتطلبات التي تزداد فيه لسدّ حاجات الأسرة، وتلبية لواجب العادات والتقاليد التي تفرض على غالبيتهم إقامة الولائم وتبادل الهدايا في الزيارات الاجتماعية وغيرها، في الوقت الذي يشهد فيه الوضع الاقتصادي لدى الفلسطينيين انحداراً غير مسبوق.

إلا أن نكهة رمضان في حواري المخيم لها نكهة خاصة، ربما اكتسبها من طبيعة الحياة التي أجبر ساكنوه عليها، فوقت الإفطار لا تكاد تميز بين روائح الطعام التي تسللت من بيت إلى آخر، حتى باتت "الحارة" بكاملها وكأنها تجلس إلى مائدة واحدة.

ولكبار السن في المخيم حكاية أخرى مع الذكريات الرمضانية، وبقايا الصور التي علقت بأذهانهم وهم يركضون في حقول واسعة كانت لهم قبل أكثر من ستة قرون. يسترجعون تلك الصور ليرووها لـ"العودة" بحسرة ممزوجة بألم اللجوء والفقر وتردّي الوضع الاقتصادي في المخيم.

الحكاية بدأت في الزيارة الأولى لبيت في مخيم جنين شمال الضفة المحتلة. امرأة ممددة على سرير داخل بقالة متواضعة، تكاد تكون خالية من المستلزمات الأساسية، وبعض السكاكر للأطفال، وصورة لأبنها الشهيد معلقة في زاوية من زوايا البقالة الصغيرة. "أم أكرم أبو السباع" 67 عاماً، أرملة منذ اثنتي عشرة سنة، ولدت وحيدة لأمها قضاء حيفا، والآن هي أم لخمسة ذكور جميعهم متزوجون وثلاثة إناث. ومن بين أبنائها الخمسة "شهيد، وآخر مصاب بشلل نصفي جراء إصابة قوات الاحتلال له خلال الانتفاضة الثانية. أما الثالث، فهو لا يملك سوى كلية واحدة، والكلية الثانية فُقدت نتيجة رصاصة اخترقتها أثناء الانتفاضة، وآخر أُصيب برصاصة في الرقبة، ويعاني احتقاناً شديداً حتى الآن. أما الإناث فهم: بنت متزوجة، وأخرى أجبرها الوضع الاقتصادي المزري على ترك التحصيل الجامعي منذ عامين، لعدم قدرتها على تسديد الأقساط الجامعية.

أم أكرم ورمضان

تعتاش "أم أكرم" فقط على ما يأتي إليها من رزق البقالة البسيطة، التي لم يدخل أحد إليها خلال ساعة ونصف من لقائي بها داخل البقالة، و"750" شيقل من الشؤون الاجتماعية، أي ما يعادل 200 دولار أميركي كل ثلاثة أشهر، تعول بها أبناءها المتزوجين والمقعدين في بيوتهم.

وعند الحديث عن شهر رمضان وطرق الاستعداد له، قالت: "إذا كان يوجد طعام آكل، وإذا لم يوجد أبقى صائمة"، وذلك نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية التي تعانيها.

وعندما تطرقت بحديثها إلينا عن كيفية تدبير المصاريف في شهر رمضان، وخاصة الولائم التي هي من العادات والتقاليد في المجتمع، قالت: "لا أدعو سوى ابنتي المتزوجة. أما إذا لم يتوافر شيء لأقدمه لابنتي، أجمع خمسين شيقل، أي ما يقارب 15 دولاراً أميركياً، وأعطيها لأبنتي بدل العزومة"، وذلك نتيجة الأوضاع الصعبة التي تعانيها، التي وصفتها على حدّ قولها بأنها "تحت الصفر". والأوضاع الاقتصادية، وخاصة النفسية التي تعانيها "أم أكرم"، أثرت كثيراً في العادات والتقاليد التي يمارسها المسلمون في شهر رمضان، إضافة إلى ما حلّ بأبنائها الخمسة.

أم أكرم وذكريات الماضي

عند الحديث عن الماضي تتنهد "أم أكرم" بصوت عالٍ، حيث مرّ شريط الذكريات بمخيلتها بحلوها ومرها، عند خروجهم من أراضي الـ48 التي هُجِّروا منها. أما اللحظات الجميلة التي عاشتها "أم أكرم"، فكانت في "قضاء حيفا"؛ فقد كانت عائلتها تمتلك البساتين، وكانوا يهتمون بالزراعة، وكانت أوضاعهم "ممتازة" كما وصفتها، كن عندما هُجروا من أراضيهم، ساءت أحوالهم الاقتصادية والنفسية. أما المكان الأول الذي ذهبوا إليه بعد خروجهم من أراضي الـ48، فهو "أم الريحان"، وهي قرية من قرى جنين، استقروا فيها مدة عام، ومن ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مخيم جنين، ثم قالت إن الناس بدأوا يتأقلمون ويشتغلون في المخيم، رغم التهجير الذي تعرضوا له".

وفي نهاية لقائنا مع "أم أكرم أبو السباع"، قالت كلمتها الأخيرة بأنها تتمنى العودة إلى وطنها في قضاء حيفا وأنها لم تذق طعم الحياة، وخاصة في شهر رمضان من بعد تهجيرهم وما تعرضت هي وأبناؤها له في هذه الحياة، وأنها رغم الصعوبات التي تعانيها مستعدة لأن تموت بكرامة على أن تمدّ يدها لطلب المساعدة من أحد، على حد قولها.

"مصطفى محمد حمد أبو جعص" (أبو محمد)،67 عاماً من مخيم جنين، متزوج، لكن لم يرزقه الله البنين، وهو من أصول "اللجون"، وهي من أراضي الـ48، وهي قرية من قرى أم الفحم. "أبو محمد"يملك محلاً تجارياً لبيع الأدوات الكهربائية في "مخيم جنين" يعتمد عليه لتوفير لقمة العيش، فقد معه حكاية ذات نكهة خاصة.

وصف أبو محمد حالة واستعداده لشهر رمضان قائلاً: "دخلي قليل جداٌ، وشهر رمضان بحاجة إلى مستلزمات كثيرة، يختلف فيها عن أي شهر، وإن الصائم بحاجة لشيء يساعده على الصوم، والراتب الذي أحصل عليه كل شهر لا يكفي لسدّ الاحتياجات، وخاصة في الأيام العادية".

يعيش أبو محمد مع زوجته وحدهما، ولديه أخَوان وأختان متزوجتان، واحدة تعيش في الأردن، والثانية تسكن في مخيم جنين، وكذلك الأخوان على هذه الحال.

رمضان أبو الشهوات!

رغم الصعوبات التي يواجهها أبو محمد، إلا أنه يعمل جاهداً لتوفير جميع الاحتياجات في شهر رمضان، باعتباره على حد قوله "رمضان أبو الشهوات، وكل شي يخطر ببالك يجب أن تشتريه". وأكمل حديثه بأن الصعوبات دائما موجودة، ولكن الله سبحانه ييسر الأمور دائماً، وخاصة في شهر رمضان، وهو كما قال "شهر الخيرات".

وتابع حديثه في وصف أوضاع مخيم جنين، حيث إنهم لا يتلقون في المخيم مساعدات نهائياٌ، وإن وجدت فإنها تأتي من مؤسسات خيرية خارجية ومخصصة لفئات وحسب الانتماءات السياسية على حد قوله. وتحدث أيضاٌ عن طبيعة الأعمال التي يقوم بها الناس داخل المخيم، فقال: "منهم الموطفون في السلطة، ومنهم المعلمون وآخرون أصحاب أعمال حرة".

أما عن العادات والتقاليد، فقال: "العادات والتقاليد بالسابق كانت جيدة؛ فقد كان الناس يتداولون في ما بينهم الطعام في شهر رمضان. أما الآن، فقد فقدت بعض تلك العادات والتقاليد بسبب الوضع المالي الصعب للناس هنا".

وعند الحديث عن "الفقدة" التي تُعَدّ من العادات والتقاليد في المجتمع الفلسطيني، وهي تقديم بعض الأموال والحاجات الأساسية للأخت أو العمة وغيرهما من الأقارب في شهر رمضان، قال: "لا أقدم الفقدة، لكن ألتزم فقط تلبية العزائم مرتين لجميع الأقارب في شهر رمضان"، مشيراً إلى أن الأوضاع الاقتصادية لم تؤثر عليه كثيراً في ممارسة بعض العادات والتقاليد في شهر رمضان، وأن بعض الناس يوقعون أنفسهم تحت أعباء الديون لتطبيق هذه العادات.

ولا يتذكر أبو محمد ما عاشه في الماضي في بلدته التي هُجِّر منها "اللجون"، حيث كان يستذكر أيام الطفولة من والديه اللذين توفيا قديماً، وكانوا يصفون له بلدته والحياة التي كانوا يعيشونها في ذلك الحين، وإن عائلته قديماٌ، كما قال، كانت تعتمد في حياتها على زراعة المحاصيل وتربية المواشي.

وتمنى أبو محمد في نهاية حديثنا معه أن يكون الناس يداً واحدة ويعمّ التكافل الاجتماعي في ما بينهم، وذلك للمحافظة على العادات والتقاليد المتوارثة منذ القدم، التي تقوم على الكرم والخير بين الناس.

مصروف مضاعف

أشرف عمر أبو الهيجاء (30 عاماً) من سكان مخيم جنين، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء، وقد كان حديثي معه في مكتب عمله؛ فهو موظف في جمعية الجليل للرعاية وتأهيل المعوّقين في مخيم جنين.

في البداية تحدثنا عن الأوضاع الاقتصادية واستعداده "لشهر رمضان"، فقال: "إني أتقاضى من المال ألفي شيقل، أي ما يقارب 600 دولار في الشهر"، وهو يلبي الحاجات الأساسية من طريق الدين، وإن شهر رمضان يوازي ثلاثة أشهر عادية من حيث المصاريف، وهو لا يشتري سوى الأمور الضرورية في رمضان.

أما عند الحديث عن المساعدات التي يتلقونها في المخيم، فقال: "منذ أزمة سورية حتى الآن لا نتلقى المساعدات. لقد قلّت كثيراً، وتصل أحياناٌ فقط إلى الناس الذين لا مصدر دخل في حياتهم".

وبعد ذلك تطرقنا مع "أبو الهيجاء" عن أثر الأوضاع الاقتصادية على العادات والتقاليد لديه، فقال: "إنني لا أعتبرها عادات وتقاليد، بل هي واجب ديني فرضه الله علينا"، وبسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، قال: "أدعو إخوتي الثلاثة مرة واحد في يوم واحد؛ لأن ذلك يقلل من التكاليف والمصاريف، لأنه كما تعمل العزيمة وخاصة في شهر رمضان مكلفة جداً".

ويصف أجواء رمضان في مخيم جنين قائلاً: "عند صلاة العشاء خاصة، يلتقي جميع أفراد المخيم في المسجد ويتبادلون النقاشات، وتكون جميع الأفعال لوجه الله سبحانه وتعالى، والتسامح بين الناس يصبح أكثر في شهر رمضان".

وعند مقارنة أيام الطفولة التي عاشها "أشرف عمر أبو الهيجاء" منذ القدم، فقد قال وهو يبتسم: "كنت صغيراً وعمري يقارب 15 سنة، لا توجد مسؤوليات ولا أية هموم على كاهلي، وكان معي فلوس وأي شيء ينقص كنت آخذه من والدي أو أعمامي. ورمضان كانت له بهجة جميلة ومميزة، أما الآن فقد ضاقت الحياة علينا، وازدادت المسؤوليات، والوضع الاقتصادي للناس بتراجع مستمر".