مجلة العودة

لبابة ذوقان. قيس أبو سمرة:ذكرى النكبة تتحول لنصر مؤزر.. صُنّاعه الأسرى

ذكرى النكبة تتحول لنصر مؤزر.. صُنّاعه الأسرى

لبابة ذوقان. قيس أبو سمرة /نابلس

منذ 64 عاماً وجرح النكبة الذي لم يندمل يُفتح من جديد مع مرور ذكراها في الخامس عشر من أيار من كل عام. يسترجع فيه اللاجئون ألم تهجيرهم قسراً من بيوتهم وأراضيهم، فتتجدد الأوجاع، ويستذكر من بقي منهم تفاصيل ذلك اليوم الأسود في حياتهم.

لكن ذكرى النكبة هذا العام تمرّ على اللاجئين الفلسطينيين تصاحبها مشاعر النشوة بالنصر لأول مرة؛ فعلى الرغم من مرارة الذكرى وقسوة اللجوء، إلا أن انتصار الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية التي خاضوها منذ ما يقارب الشهر أثلجت الصدور وملأت القلوب. فرحة غابت منذ زمن، وأعادت إلى الفلسطيني جزءاً من حقوقه المسلوبة؛ حيث صادفت ذكرى النكبة هذا العام توقيع الاتفاق الذي أجبر مصلحة السجون على الرضوخ لمطالب الأسرى، والذي يقضي بتلبية مطالبهم جميعها، مقابل فك الإضراب.

وعاشت مخيمات الضفة ومدنها وفلسطين بأكملها عرساً وطنياً بعد إعلان إتمام الاتفاق بين قيادة الأسرى من منظمي الإضراب وإدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، فخرج الناس تلقائياً إلى الشوارع، وتعالت أصوات التكبيرات وهتافات النصر، بينما جابت المسيرات الشوارع تعبيراً عن فرحتهم بالنصر المؤزر.

نشوة النصر

في مخيم بلاطة، أكبر مخيمات اللجوء في الضفة المحتلة، كانت المؤسسات الشعبية والخدماتية والأهالي على حد سواء يستعدون لإحياء الذكرى الرابعة والستين للنكبة، لكن إعلان الاتفاق على فك الإضراب وانتصار الأسرى أمام السجان، أعادا لهم شعورهم بالنصر وقلبا مشاعر الحزن إلى فرح عارم ضجت به أزقة المخيم.

الفتى عميد سوالمة قال لـ»العودة»: «سهرت الليلة الماضية وأنا أحضر لكلمة سألقيها في المدرسة لمناسبة ذكرى النكبة. كانت الكلمة التي كتبتها مليئة بعبارات الحزن على فراق جدي لأرضه وبياراته وبيته، لكن عند سماعي نبأ انتصار الأسرى امتزجت كلماتي بمشاعر الفخر. فنحن اليوم منتصرون بأسرانا».

وأضاف: «انتصار الأسرى انتصار لنا جميعاً، لاجئين وغير لاجئين. انتصار لكل مَن عانى مِن هذا الاحتلال. لقد علمنا الأسرى درساً قوياً بهذا الإضراب، هو ألا نتنازل عن حقنا مهما حدث».

أما الشاب محمد عدنان من مخيم بلاطة فقال: «مشيئة الله أن يحقق الأسرى انتصارهم عشية ذكرى النكبة، حتى يوصلوا لنا رسالة مفادها أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن العدو لا يفهم إلا لغة القوة. لذلك، علينا أن نسير على خطاهم ونتعلم منهم الصبر والثبات، حتى نكون قادرين على استرجاع حقوقنا المسلوبة، ونعود إلى أرضنا التي هجر منها أجدادنا قبل 64 عاما”.

عائلة الأسير في سجون الاحتلال عمر أبو شلال (54 عاماً) من مخيم العين غرب مدينة نابلس، تقول: "ذكرى النكبة تمرّ علينا هذا العام مختلفة جداً؛، فأخي كان مضرباً عن الطعام منذ ما يقارب سبعين يوماً. وعشية النكبة، أعلن فكّ إضرابه بعدما رضخت مصلحة السجون لمطالبهم، وهذا ما جعلنا نحتفل ونبتهج لأول مرة في ذكرى النكبة التي حوّلها الأسرى إلى انتصار”.

وأحيا اللاجئون الفلسطينيون في الضفة المحتلة ذكرى نكبتهم لهذا العام وسط أجواء من الفرح بانتصار الأسرى، مستمدين القوة من انتصارهم وثباتهم وعزيمتهم، مؤكدين أن أرضهم لن تعود إلا كما أعاد الأسرى حقوقهم بالقوة وحدها لا غير.

وكان لإحياء ذكرى النكبة هذا العام نكهة أخرى وشكل آخر، حيث كانت خيام الاعتصام والتضامن مع الأسرى المنتشرة في مدن الضفة وقراها هي العنوان الأبرز لانطلاق المسيرات وإقامة الفعاليات الشعبية، تأكيداً لوحدة القضية وتكاملها، وحرصاً على مواصلة دعم الأسرى والسير على خطاهم حتى تعود كامل الأرض لأصحابها.

اللاجئون والاكتظاظ بالمخيمات

ومع مرور ذكرى النكبة لهذا العام، تعود مشاكل اللاجئين وقضاياهم في المخيمات تطفو على السطح من جديد، حيث الاكتظاظ السكاني الذي يعانون منه في ظل ازدياد أعداد السكان في مساحة محصورة لم تتغير أو تمتد منذ نشوء تلك المخيمات.

حيث يضطر سكان المخيمات إلى البناء والتوسع الأفقي لحل مشكلة السكن وإيجاد مسكن لأبنائهم عند الزواج، ما جعل فوضى البناء تنتشر، وتعلو البنايات وتكتظ بالسكان، وتزداد المشاكل من كل جوانبها.

الأستاذ أبو أيمن من مخيم عسكر للاجئين شرق مدينة نابلس، يعمل مدرساً في إحدى مدارس المدينة، يقول لـ»العودة»: مشاكل المخيمات لا تقتصر على السكن والاكتظاظ في عدد السكان، بل إن الاكتظاظ في عدد السكان انعكس على طبيعة الحياة التعليمية في المخيم، حيث تعاني المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين من الاكتظاظ بأعداد الطلبة داخل الصف، ما يؤثر على المستوى التعليمي للطلبة».

ويضيف: «الاكتظاظ في أعداد سكان المخيمات أوجد مشاكل خانقة، وخاصة في ما يتعلق بالأطفال، فهم لا يجدون مكاناً يلعبون فيه، كل الأماكن ضيقة، ولا توجد مساحات واسعة ومجهزة لهم، ما يدفعهم إلى اللعب في الأزقة الضيقة، فتضيق بهم الدنيا ويلجأون إلى العنف في كثير من الأحيان، وذلك لتفريغ ما يملأ صدورهم من غضب وحرمان».

وتمتد معاناة اللجوء لتتغلغل في أدق تفاصيل حياة اللاجئ الذي كان قدره العيش في مخيم صغير لا تتوافر فيه مقومات الحياة الكريمة، حيث تصف الحاجة «أم حافظ» (78 عاماً) من مخيم عسكر العيش في المخيم بأنها حياة تعسة.

وتقول لـ”العودة”: "البيوت هنا متلاصقة جداً. كأننا نعيش مع جيراننا في بيت واحد، لا نشعر باستقلالية أبداً، أصوات حديثنا تصل إلى الجيران، وكذلك هم، ولا نملك أن نبني بيتاً آخر خارج المخيم”.

وتضيف: "منزلنا لا تدخله الشمس، الرطوبة سببت لنا أمراضاً كثيرة، أبنائي وأحفادي يخرجون يومياً في نزهات خارج المخيم، يهربون من هذه الحياة الخانقة، ولو لعدة ساعات، وأحفادي دائماً يرددون أمام آبائهم أنهم لن يسكنوا في المخيم عندما يكبرون”.

عتبات البيت.. للترفيه واللعب!

ومع ساعات الظهيرة تفوح روائح الطعام في زقاق المخيم، وتجلس النسوة على عتبات بيوتهن يتبادلن أطراف الحديث. السيدة فتحية مرشود من مخيم بلاطة قالت لـ»العودة»: «حياة المخيم أصبحت كالكابوس في ظل تزايد أعداد السكان. ترى الأطفال ينتشرون في كل مكان، لا مكان قريب من بيتهم حتى يمضوا وقتهم باللعب فيه».

وتضيف: «نحن النسوة لا نجد مكاناً جميلاً نجتمع فيه سوى عتبات بيتنا المتلاصقة. نلتقي صباحاً أو مساءً، كل منا تشكو همها للأخرى، ولسان حالنا جميعاً يقول: «الله يريحنا من هالعيشة بالمخيم».

الطفل جعفر علان (10 سنوات) كان يحاول تمرير الكرة بين قدميه في الزقاق أمام بيته في مخيم عسكر، إلا أن صديقه الآخر نجح بسهولة باختطافها منه؛ فمساحة المكان لا تتيح لهم أن يركضوا أكثر من ثلاثة أمتار فقط.

يقول جعفر لـ”العودة”: "لا يوجد ملعب ولا ساحة كبيرة لنلعب فيها، وأمي لا تسمح لنا بالابتعاد عن المخيم للعب، ودائماً الجيران يصرخون علينا إذا أصدرنا صوتاً ونحن نلعب بالحارة. لا أعرف من المخطئ ولا نعرف ما الحل”.

كلمات الطفل جعفر كانت كفيلة بشرح معاناة أطفال المخيمات؛ فرغم محاولة اللجان الشعبية لخدمات المخيمات لإيجاد مرافق ترفيهية ليقضي الأطفال والشبان أوقاتهم فيها، إلا أن ذلك لن يحل من مشكلة حياة اللجوء سوى الجزء القليل.

رحيل جيل النكبة

ومع مرور الأيام والسنوات الطويلة على ذكرى النكبة حتى وصلت 64 عاماً، بدت شوارع المخيمات تفتقد الجيل الذي عايش النكبة بكل تفاصيلها عام 48، حيث أصبحوا بجوار ربهم شهداء، موقنين أن من يموت بعيداً عن أرضه سيكتب شهيداً عند ربه.

عائلة المرحوم أبو طلب من مخيم بلاطة، تصف حنين المرحوم إلى وطنه وأرضه، وقد كان كان يجتاحه في كل ذكرى للنكبة، حيث كان يجمع أحفاده ويحدثهم عن أرضه وبيته وبيارات البرتقال والأملاك التي لا تحصى لوالده.

وتقول "هبة” حفيدة المرحوم: "طالما كان جدي يحدثنا عن يوم النكبة، وكيف خرجوا من بيتهم من دون أن يحملوا معهم أي شيء سوى مفاتيح البيت؛ فهم كانوا يعتقدون أنهم سيرحلون يوماً أو يومين ويعودوا إلى المنزل”.

وتشير: "قال لنا جدي في إحدى المرات إنه في اليوم الذي خرجوا فيه من بيتهم في يافا، كانت والدته تخبز الخبز، فتركت الخبز مغطى وهو ساخن وقالت لهم: "معلش خلي الخبز مغطى.. لأنه رح نرجع العصر عالدار”، لكنهم لم يعودوا حتى الآن”.

وتضيف: "مات جدي والحسرة تملأ قلبه. كانت أمنيته الوحيدة أن يزور يافا ويرى بيته وأرضه، أن يشم رائحة التراب هناك. لكنه رحل، ونحسبه شهيداً إن شاء الله”.

وتتابع: "عندما ودعته بعد موته عاهدته أن لا ننسى كل الحكايات التي قالها لنا. لن ننسى مزاحه معنا وهو يقول لنا إننا سنرث أملاكاً كثيرة في يافا؛ فهم كانوا من أصحاب الأراضي والبيارات، وكانوا من أغنياء البلد. لكنه جاء لاجئاً وعاش لاجئاً بقية حياته في مخيم مساحته تقارب مساحة الأرض التي كان يملكها في يافا”.