مجلة العودة
فلسطينيو القارات

محمد مشينش - إسطنبول

لم تعد كلمة ”فلسطينيو العراق" تناسب جغرافية توزيعهم المنتشرة في جميع القارات... فحقّ أن نسميهم   ”فلسطينيي القارات".
ولو كنا في زمن غير هذا الزمن، وحكى لنا الحكواتي ما جرى لفلسطينيي العراق، وسالت دموعنا حزناً على ما جرى لهم، لقال لنا الحكواتي: لا تحزنوا كثيراً؛ لأنها مجرد قصة وفيها (شوية) مبالغات، على مهلكم قليلاً... فالسطور ليست لحكواتي يروي ما لم يشاهد مما مضى من الأزمان، بل هي الحقيقة، وحتى لو سالت دموعكم، فأكملوها وأطلقوا العنان لخيالكم لو كنتم أنتم أبطالها أو أحد ذويكم، فما أنتم فاعلون بعد أن تخلى عنك الصديق قبل العدو. عبر قارات ثلاث
بعد اشتداد الاستهداف الطائفي للفلسطينيين في العراق في أوائل عام 2006، وجد بعض المغامرين من فلسطينيي العراق ملاذاً آمناً لهم في جزيرة قبرص، ووجدوه أيضاً في الهند وماليزيا هرباً من بطش الميليشيات الطائفية في العراق. وللوصول إلى جزيرة قبرص، سلكوا طرقاً متعددة، فذاك قد أُلقي به وأسرته في البحر، وقيل له: اذهب إلى ذلك الضوء (ولولا أن منّ الله عليه بطول القامة) لكان هو وأسرته من الهالكين. وآخر سار في حقل ألغام لا يعلم كيف خرج منه!! وذاك الذي تاه في إحدى الغابات مع أطفاله الأربعة، لولا أن الفلاحين وجدوهم وأنقذوهم. مغامرات متعددة لأجل الوصول إلى الملاذ الآمن.
 مرت سنون وجد فيها اللاجئون نوعاً من الطمأنينة في هذا البلد الصغير الذي عرف عنه تأييده للقضية الفلسطينية. لكن الأحوال تتبدل؛ فبعد مشكلة صغيرة مع أحد أفراد الشرطة، تلقفتها وسائل الإعلام وضخمتها، رغم أن الشرطي عفا وصفح بعد زيارة مجموعة من وجوه الفلسطينيين بيته لتقديم الاعتذار، ولكن الإعلام قاد حملة شرسة على الوجود الفلسطيني، وبدأ معها مسلسل ”التطفيش" المنظم، ولم يشفع لهم التأييد الرسمي المزعوم للقضية الفلسطينية، وظهر الوجه الحقيقي الحاقد على الإسلام أولاً وعلى العرب ثانياً، وخصوصاً الفلسطينيين، وربما كان إعلامهم مخترقاً من الصهاينة... ربما!!
ويبدو أن الحكومة القبرصية كانت قد أعدّت العدّة لمثل هذا اليوم (تطفيش اللاجئين)؛ فقد أبقت الوضع القانوني لهم غير واضح منذ وصول طلائعهم، ولم تمنحهم صفة اللجوء، وهو ما مكّنها من اتخاذ قراراتها بعيداً عن المنظمات الأممية؛ فقد منحتهم حماية ومنحتهم إقامة مؤقتة، وهذا ما ساعدها في تنفيذ مشروع   ”تطفيش" الفلسطينيين، ومسلسل ”التطفيش" هذا بدأ تنفيذه بطرق متعددة، من تأخير في منح المخصصات الشهرية، ثم سحب الحمايات، وهو ما يعني أنهم سيوضعون في مخيمات (والمخيم هنا هو عبارة عن فندق مطبخه مشترك وغرفه متجاورة وتسكنه جنسيات مختلفة، وهو أبعد ما يكون عن الثقافة العربية وتقاليدها). لكن ما حيلة المضطر؟ ثم جاءت مرحلة التهديد المباشر بالعِرض، وذلك بطرح أعمال على النساء الفلسطينيات للعمل في المطاعم الليلية، أو في مزارع الخنازير للرجال، وعقوبة من لا يجد عملاً هي سحب الإقامة منه والحماية. أما صاحب العمل القبرصي، فإنه يفضل القبرصي على الغريب، إضافة إلى أن الراتب المخصص لا يغطي سوى نفقات إيجار البيت.
أما المستقبل وفائدة الوجود في قبرص، فهما إلى مجهول، ولا أحد يعرف ما سيجري، لكن طوال سنوات الوجود الفلسطيني في قبرص، لم يُمنَح سوى عدد قليل جداً من الفلسطينيين صفة اللجوء، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
كل هذه العوامل أدت إلى رحلة جديدة ومغامرة مخيفة إلى مكان آخر، علّهم يجدون ملاذاً آمناً تتحقق فيه أبسط معاني الإنسانية؛ فكل ما يطلبونه أن يعيشوا حياتهم بشكل طبيعي كأي إنسان.
تفاصيل الرحلة
رحلة عبر القارات، تبدأ برحلة جوية من قارة أوروبا إلى قارة آسيا، وتحديداً إلى جنوب شرق آسيا، ومنها ومن طريق البحر إلى قارة أوستراليا في رحلة مع الموت في عرض البحر بأمواجه العالية وغضبه المخيف على زوارق صغيرة لم تعدّ إلا للملاحة بين الجزر المتقاربة، والناقل يصرخ بأعلى صوته: ”لا تحملوا معكم أي زيادة في الوزن، لا تحملوا غير ما يكفيكم لثلاثة أيام (هي الفترة الزمنية الطبيعية للرحلة) فنحن بحاجة إلى الوزن"، قاصداً تكثير عدد المرتحلين قدر ما يستطيع ليملأ جيوبه من هذه التجارة، ولو على حساب أرواح الناس؛ فالعدد الطبيعي لراكبي هذا الزورق هو اثنا عشر شخصاً، أما راكبوه في هذه الرحلة فهم يزيدون على الستين. في السماء نسور تراقب الزورق وتحوم بطيران شراعي حوله تنتظر فوز الموت على إرادة الحياة لتنقضّ على رؤوس الأطفال الرخوة. أما البحر وزرقته الخداعة، فقد سمح لأسماك القرش المرعبة بالسباحة حول الزورق تنتظر ساعة الحسم، فكلاهما ذاق طعم اللحم الآدمي ومن ألوان مختلفة. أما إن أعلن البحر غضبه، فإنها النهاية أو أن يقدّر الله أمراً آخر.
نهاية الرحلة
 ثلاثة أيام هي ما يصرّح به قائد الزورق لعبيده الركاب للوصول إلى سواحل أوستراليا، والماء والطعام مخصص لهذه الفترة، والمفروض أن يصل الزورق بحمولته إلى المياه الإقليمية الأوسترالية حتى تتحرك القوات البحرية وتنتشل من في الزورق وترسلهم إلى الكامب لإكمال إجراءات اللجوء. أما إن كانوا خارج المياه الإقليمية، فلا دخل لهذه القوات أبداً، ولا تتدخل، وتبقى تراقب الزورق. فإن قضوا، فهم خارج حدود مسؤوليتها.
من مسبب هذه المأساة؟ وعلى من تقع مسؤولية هذا التجوال بين القارات؟ لكم الله يا فلسطينيي القارات.♦