مجلة العودة

نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود":الكتاب الأوثق الذي تناول نكبة عام 1948

"نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود":
الكتاب الأوثق الذي تناول نكبة عام 1948


قراءة احمد الحاج علي


كتّاب كثيرون عاصروا "النكبة"، وكتبوا ووثقوا، لكنّ قليلين استطاعوا قراءة الحدث وتحليله، ودراسة أبعاده الاجتماعية. فإن كان الكاتبان والمفكران أكرم زعيتر ومحمد عزة دروزة قد استطاعا ذلك، فإن الكاتب عارف العارف قد تفوّق في هذا المجال. إضافة إلى ثقافته الموسوعية، فإن احتكاكه بالسلطات الأردنية والبريطانية نتيجة موقعه المتحرك من قائممقام بئر السبع إلى قائممقام غزة ثم رام الله، أهّله للاطلاع على التفاصيل. ولأسباب كثيرة، عدّ كتابَه شيخُ المؤرخين الفلسطينيين وليد الخالدي "المرجع الأوثق والأفضل بالعربية لنكبتنا سنة 19?8 على الرغم من مر السنين".سيرته
ولد عارف العارف، كما يقول، في نفس العام الذي دخل فيه القطار مدينة القدس، أي في عام 1892. تخرّج في جامعة إسطنبول، وأُسر في الحرب العالمية الأولى في معركة أرضروم ضد الجيش الروسي، هو وعشرة أنفار، مجموع ما بقي من الكتيبة التركية. تعلم في السجن الألمانية والروسية. وبعد أربع سنوات في الأسر، استطاع الفرار من المعتقل، خلال رحلة قاسية استمرّت خمسة أشهر، مرّ خلالها باليابان والصين وهونغ كونغ وإندونيسيا والفيليبين وسيلان وغيرها من البلدان، إلى أن وصل إلى دكان أبيه في القدس.
وقف خطيباً في الجماهير المحتشدة في أول أيام موسم النبي موسى عام 1920. انفجر الوضع الأمني، وهاجم العرب الحيّ اليهودي في البلدة القديمة، فقُتل خمسة من اليهود وأربعة من العرب. وكان هذا أول حادث دموي يقع بعد الاحتلال البريطاني. نجح العارف في الهرب مع الحاج أمين الحسيني إلى دمشق، ثم عاد بعد عفو عام.
ألّف العديد من الكتب، لكن أشهرها كتابه "النكبة، نكبة بين المقدس والفردوس المفقود 1947 – 1949". ويؤكد العارف إن هو إلاّ "راوية يريد أن يروي للناس ما حدث. وقد آليت على نفسي ألاّ أروي إلاّ ما رأيت بأم عيني، وما رواه لي العدل الثقات". ويتابع: "وإنه لمن دواعي التوفيق أن أكون، منذ عهد الصبا والدراسة في الأستانة، قد درجت على تدوين مذكراتي في يوميات متتابعة ما انقطعت عنها يوماً واحداً خلال الأعوام الأربعين المنصرمة". ويقول إنه لم يتملق في كتابه "ملكاً كان أو زعيماً، حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً".
"النكبة"
يقسّم العارف كتابه النكبة ومراحل القتال إلى ستة أقسام، وإنك لتعجب من تحليله لبعض المعارك وقراءة التطورات، وتقويمه لميزان القوى، بحيث إن تقويمه لا يختلف كثيراً عمّا جاء به المؤرخون والكتّاب المتأخرون من أمثال دومنيك فيدال في كتابه "خطيئة إسرائيل الأصلية"، أو إيلان بابه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، وللمصادفة فالكتابان الأخيران أيضاً صدرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
المراحل الست التي ذكرها العارف هي:
المرحلة الأولى: تبدأ من صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 وتنتهي في 15 أيار/مايو 1948، عندما انتهى الانتداب البريطاني، وأعلن اليهود قيام دولة "إسرائيل".
ينقل العارف تقريراً سرياً رُفع من إسماعيل صفوت باشا، بوصفه القائد العام، وأشار إلى ميزان القوى. وفيه أن مجموع القوات اليهودية (الهاغاناه والإرغون وشتيرن)، لا يقل عن خمسين ألف مقاتل، وأن للهاغاناه قوة ضاربة مجموع رجالها خمسة آلاف مقاتل، هذا بالإضافة إلى قوات الدفاع المحلية في المستعمرات ومجموعها عشرون ألفاً، نصفهم فتيات. يتابع التقرير: "وليس للعرب في يومنا هذا سوى 7700 مسلح، منهم 5200 متطوعون، تدربوا على القتال في معسكر قطنا، و2500 مجاهد فلسطيني، وليس لدى المتطوعين سوى 14 مدفع هاون و8 مدافع ميدان خفيفة، بين?ا لليهود مئة دبابة ومئة وخمسون مدرعة وإحدى وعشرون طائرة.
الاختلال القوي في ميزان القوى لم يمنع المجاهدين الفلسطينيين من المقاومة، بل وتوجيه ضربات موجعة للعصابات الصهيونية. وكان على رأس القوى المجاهدة فرق الجهاد المقدس. ويسرد العارف تكريم القائد المجاهد عبد القادر الحسيني لفرقة التدمير العربية في 18/3/1948، وكيف أن عددها وصل إلى 25 رجلاً، يذكرهم العارف بالاسم. وما يلفت أن بينهم اثنين من المغاربة، وواحداً شامياً. وتولى قيادة الفرقة فوزي القطب، فقامت الفرقة بتفجير أماكن عديدة من بينها: شارع هوسوليل، وشارع بن يهودا، ومستعمرة ميكور حاييم، وقافلة كفار عتسيون، طريق الق?طل، قافلة هداسا، ومستعمرة نفيه يعقوف. وبشكل عام، فإن المجاهدين قاموا بالدفاع معظم الأحيان، وفي التحرير أحياناً أخرى.
ومثال على حدة المقاومة العربية أن المجاهدين تصدوا لقافلة في كفار عتسيون، فوقعت معركة استمرت 36 ساعة. وانتهى القتال بتسليم اليهود لأسلحتهم. واعترفت العصابات الصهيونية بمقتل خمسة عشر عنصراً، وجرح خمسين. كذلك غنم المجاهدون ثلاث مصفحات، وثمانية باصات كبيرة، وثلاثين سيارة للشحن، وثلاثين بندقية من طراز ستن، وأربعين من طراز برن، ومئة من البنادق الاعتيادية بين إنكليزية وألمانية، وعدداً من القنابل والمسدسات، وطناً ونصف طن من ملح البارود. وأما البقية الباقية من سيارات القافلة، وعددها أربع عشرة، فقد التهمتها النيران.?مثل هذه المعارك ممتد في معظم صفحات كتاب "النكبة"، وهي تُبرز بطولات الشعب الفلسطيني والمجاهدين العرب من غير مبالغة، بل تبلغ الأمانة العلمية عند العارف حدّاً إذا تجاوز أحد المتطوعين، فإنه يشير إلى الحادثة صراحة.
المرحلة الثانية: دخول الجيوش العربية
مرحلة القتال بين وحدات من الجيوش العربية النظامية التابعة لشرق الأردن والعراق وسورية ومصر، والقوات اليهودية. وتبدأ من 15 أيار/مايو 1948، وتنتهي عند قيام الهدنة الأولى المؤقتة في 11 حزيران/يونيو 1948.
اجتاز الجيش العراقي الحدود الفلسطينية في 15/5/1948، وبلغ تعداده نحو 8 آلاف مقاتل. ويشير العارف إلى أنه بعد قراءته لكثير من التقارير الرسمية العراقية، تبين له أن العراق "فشل في محاولاته للحصول على أسلحة من الدول الصديقة. تارة لعدم توافر المال اللازم، وطوراً لعدم ملاءمة الشروط التي تقدم بها البائعون". كذلك اجتاز الحدود الجيش المصري الذي حاصر إحدى المستعمرات (الدنقور)، ورغم فشل هذا الجيش في اقتحام المستعمرة، إلا أن راديو القاهرة أذاع أن "عملية تطهير الدنقور تمت بنجاح". ومع ذلك حققت الجيوش العربية الكثير من ال?نتصارات، رغم قلة عددها وعتادها، فقصفت الطائرات المصرية تل أبيب أكثر من مرة، واستهدفت مستودعات البترول الرئيسية. واستطاعت الكتائب العربية تحرير الكثير من المستوطنات والسيطرة عليها.  
وقد تلفت طهارة السلاح عند المجاهدين الفلسطينيين والعرب. فعندما أرادت فرقة التدمير التابعة لفرق "الجهاد المقدس" تدمير الكنيس في البلدة القديمة، بسبب القنص الصادر عنه، أرسلت لليهود أولاً أن يمنعوا القناصة من اعتلاء الكنيس، ولما رفضوا، أنذر المجاهدون العرب اليهود قبل نسفه بمكبرات الصوت، وباللغة العبرية، أنهم إذا لم يرتدعوا عن إيذاء المصلين في الحرم فسيضطرون إلى نسف كنيسهم. ولما لم يرتدعوا، نسفوه على من فيه.
واشتدت الهجمات العربية، ويذكر العارف أن بن غوريون اعترف في لقائه مع جون كيمحي، الصحافي البريطاني، بأنه "كان يعلم أنه لم يبق بين يهود فلسطين وبين العدم سوى خيط رفيع. حتى إن زملاءه نصحوه بأن يتخلى عن المستعمرات اليهودية النائية، وأن يسحب سكانها إلى المدن القريبة من تل أبيب، وأن يجمع قواه في مكان واحد. وراح اليهود يومئذ يبحثون عن سبيل للتخلص من الورطة التي وقعوا فيها".
الهدنة والتهجير
المرحلة الثالثة: مرحلة الهدنة من 11 حزيران/يونيو إلى 8 تموز/يوليو 1948.
يصف العارف القدس في تلك المرحلة فيقول: "كانت القدس يومئذ في حالة يُرثى لها من الخراب والدمار، فكنت ترى، أينما حللت، وحيثما سرت في أحيائها وشوارعها، الدور متهدمة، والحيطان متداعية، والأتربة والحجارة متراكمة، والجثث تحت الأنقاض".
المرحلة الرابعة: مرحلة القتال من 8 تموز/يوليو حتى 18 تموز/يوليو 1948.
يرى العارف أن أقسى فواجع العرب في هذه المرحلة سقوط مدينتي اللد والرملة، ومدينة الناصرة، في أيدي اليهود، وطرد سكان المدينتين الأوليين منهما. وكان مجموع سكانهما نحو 70 ألف نسمة. ويذكر أن ثلاثمئة وخسمة وعشرين شخصاً ماتوا على الطريق، ومات أكثرهم عطشاً.
المرحلة الخامسة: الهدنة المؤقتة الثانية التي امتدت حتى كانون الثاني/يناير 1949.
المرحلة السادسة: تقدمت فيها القوات الإسرائيلية، وعُقدت فيها اتفاقات هدنة بين الكيان الغاصب والقوات العربية، وانتهت هذه المرحلة في تموز/يوليو 1949.
يتحدّث العارف عن تشكيل "حكومة عموم فلسطين"، والصراع الذي نشأ مع الملك عبد الله نتيجة ذلك. فيورد رسالة بعث بها عبد الله إلى رئيس الحكومة المصرية النقراشي باشا جاء فيها: "إننا نخشى على سلامة بلادنا ومركزها من أي دولة ضعيفة قد تتكون في فلسطين، تنتسب إلى العرب. إنني سأحارب هؤلاء حيثما كانوا (يعني الحاج أمين الحسيني وحكومة عموم فلسطين) كما أحارب اليهود أنفسهم".
بحث العارف كثيراً في السجلات الرسمية والصحف، واستمع إلى شهود، حتى استطاع إحصاء ما أمكن من الشهداء من عام 1947 حتى عام 1952، وتصنيفهم. فكانوا على النحو الآتي: المجاهدون الفلسطينيون: 1917. المدنيون: 11234. شهداء الجيش المصري: 862. الشهداء المصريون المتطوعون: 234. شهداء الجيش الأردني: 365. الشهداء الأردنيون المتطوعون: 99. شهداء الجيش العراقي: 199. الشهداء العراقيون المتطوعون: 200. شهداء الجيش السعودي: 67. الشهداء السعوديون المتطوعون: 107. شهداء الجيش اللبناني: 11. الشهداء اللبنانيون المتطوعون: 256. شهداء الجي? السوري: 308. الشهداء السوريون المتطوعون: 54. شهداء جيش الإنقاذ: 352. شهداء الأقطار العربية الأخرى: 88. الشهداء من غير العرب: 63. المجموع:  16416 شهيداً.
آخر نكبات عارف العارف كانت حين اشتاق إلى رؤية بيته في حي البقعة الذي احتله اليهود خلال حرب 1948. لكن المرأة الإسرائيلية التي كانت تقيم فيه رفضت أن تسمح له بدخوله وطردته صارخة: "اذهب، لا أريد أن أراك، فأنت الآن لا تملك شيئاً، هذا أصبح بيتي، ولو أتيت بتصريح من غولدا مئير فلن أسمح لك برؤيته"، فأصيب العارف بجلطة دموية، وما لبث أن تُوفي.♦