مجلة العودة

السلطان العثماني عبد الحميد الثاني شخصيّة فذّة وداهية واعية

السلطان العثماني عبد الحميد الثاني

شخصيّة فذّة وداهية واعية
بقلم د.محمد توكلنا
 
في سنة ألف وثمانمئة وسبع وتسعين عُقد المؤتمر الصهيوني بزعامة تيودور هرتزل في مدينة " بال" بسويسرا، وهو المؤتمر المعروف باسم "مؤتمر بال"، ووُضعت خطة إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، وكان آنئذٍ السلطان عبد الحميد الثاني - رحمه الله - هو الحاكم العثماني.

وقد سعى هرتزل لدى رئيس الوزراء الألماني، بسمارك؛ إذ كانت ألمانيا حليفة لتركيا، وسعى عند كثيرين من الشخصيات البارزة، وكان هدفه أن يقنع السلطان بإعطائهم مساحة من الأرض مقابل استعداد اليهود لدعم ماليّة الدولة العثمانية التي كانت مدينةً في ذلك الوقت، والتأثير على الرأي العام الأوروبي ليقف إلى جانب السلطان.

وتعددت المحاولات، واستمع إليه السلطان، ودار الحديث حول مشاكل الدولة العثمانية وتصفية الدَّين العام، وعرض هرتزل خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية للدولة، وخمسة ملايين لخزينة السلطان الخاصة.

 
 

وقد رفض السلطان رفضاً قاطعاً، وصرّح قائلاً:

 
 

"أنصح للدكتور هرتزل أن لا يسير أبداً في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة الدماء وقد غذاها بعد بدمائه، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا ما قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين من دون قتال... إننا لن نقسم إلا جثثاً، ولن أقبل بتشريح أجسادنا لأيّ غرض كان".

ولما توالت النذر، أصدر السلطان عبد الحميد في حزيران من عام ألف وثمانمئة وثمانية وتسعين ميلادي أمراً بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز بين جنسياتهم.

كان رفض السلطان عبد الحميد تهويدَ فلسطين لطمة لم ينسَ اليهود أن يردّوها للخلافة ردّاً سخيّاً لم يكن بوسع السلطان عبدالحميد أن يتخيله!

فقد سعى الصهاينة إلى تحريك القوى المناوئة للدولة، وإلى غرس بذور الفكرة العنصرية المحاربة للراية الإسلامية الموحدة لربع البشر في ذلك الوقت.

وقد كتب السلطان عن ذلك في مذكِّراته فقال:

"لليهود قوة في أوروبا أكثر من قوتهم في الشرق؛ لهذا فإن أكثر الدول الأوروبية تحبّذ هجرة اليهود إلى فلسطين لتتخلص من العرق السامي الذي زاد كثيراً، ولكن لدينا عدد كاف من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، فعلينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين، وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم.

لن يستطيع رئيس الصهاينة (هرتزل) أن يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله: "ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيه اليهودي على قيادة محراثه بيده" صحيحاً في رأيه، إنه يسعى إلى تأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل، لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين، بل يريدون أموراً أخرى مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين. إنني أدرك أطماعهم جيداً، لكن اليهود سطحيون في ظنهم أنني سأقبل بمحاولاتهم وكما أنني أقدّر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي، فإني أعادي أمانيَّهم وأطماعهم في فلسطين".

ويقول المؤرخون المنصفون: إن اليهود أخذوا توّاً في تنفيذ المادة الخامسة من البروتوكولات التي تنص على وجوب تلفيق الوقائع بحق الأشخاص المحترمين لدى الناس، للحطِّ من كرامتهم وكسر اعتبارهم، ومن هنا بدأت حملة الكره ضد السلطان، حيث لفقوا وقائع حياله وقضايا تحت اسم القتل والإحراق والإغراق، ثم كانت مؤامرة اغتياله؛ إذ انفجرت قنبلة بموكبه بعد صلاة الجمعة في الحادي والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام ألف وتسعمئة وخمسة ميلادي، وهذه العملية الفاشلة التي دبرها الأرمن أثناء خروج السلطان من المسجد وركوبه عربته السلطانية مقدمة لخطط ومؤامرات انتهت بعزله وسيطرة الاتحاديين الذين فتحوا الطريق لليهود إلى فلسطين وسلّموا طرابلس الغرب لإيطاليا، وعُرف هذا الحادث في التاريخ العثماني باسم (حادث القنبلة).

يقول الأستاذ طه الولي: كانت غاية اليهود إزاحة عبد الحميد عن طريقهم الموصل إلى فلسطين، ولذلك فقد تمكنوا من رشوة بعض رجال الدين، وأغروهم بالخروج إلى الشوارع والمناداة بتطبيق الشريعة المحمدية، وهو ما سمي يومئذ (حركة الارتجاع)، قاصدين من وراء ذلك إحراج السلطان عبد الحميد بعد إعلان الدستور، ودفع الاتحاديين إلى الثورة عليه في ما بعد.

وقد آتت هذه الحركة الارتجاعية أُكُلَها بالنصر لليهود، فقام الجيش بحركته الحاسمة متقدماً نحو يلدز، طالباً إزاحة العرش من تحت سلطانه، فتقدم في السابع من مارس عام ألف وتسعمئة وتسعة ميلادي ثلاثة من أعيان الدولة وقدموا إليه ورقة للتنازل عن العرش.

 
 

وقد صرّح بذلك في رسالته التي كتبها إلى الشيخ محمد أبو الشامات فقال:

"إنني لم أتخلّ عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) الذين قد أصروا وأصروا عليّ بأن أصدّق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة (فلسطين)، وعلى رغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وكان جوابي القطعي: "إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً لن أقبل تكليفهم". وبعد جوابي القطعي اتفَقوا على خلعي، فحمِدتُ المولى أنني لم أقبل أن ألطّخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي، عن تكليفها إقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين".

إن الذي يقرأ هذه الرسالة وما ذكره السلطان عبد الحميد في مذكّراته، يرى مقدار الظلم الذي أوقعه عليه أعداؤه بسبب موقفه الحازم من قضية توطين اليهود في فلسطين واقتطاع جزء من جسد الأمّة الإسلامية، وهذا بدوره يلفت النظر إلى أن نسبة فلسطين هي إلى الإسلام قبل أي نسبة، ويوضّح بجلاء إدراك السلطان أنّ سعي دول الغرب في تهجير اليهود إلى فلسطين لم يكن بسبب محبّة الشعوب الغربية لليهود والشّقفة عليهم كما يدّعون، بل للتخلص منهم وإزاحتهم عن بلادهم بعد أن تنامت قوّتهم في تلك الدّول، وهذا واضح في قول السلطان: "لليهود قوة في أوروبا أكثر من قوتهم في الشرق؛ لهذا فإن أكثر الدول الأوروبية تحبذ هجرة اليهود إلى فلسطين لتتخلص من العرق السامي الذي زاد كثيراً".

 فعجيب بعد ذلك أن يتهم هؤلاء الغربيون كل من ينتقد اليهود بمعاداة السامية، وأن يحاكموه ويحاسبوه في الوقت الذي بذلوا فيه كل جهد لإخراج اليهود من بلادهم وتجميعهم في أرض فلسطين، بل وتحميلهم عبء حراسة مصالح الغرب في الأرض العربية.

وقد يحزّ في نفس كلّ مخلص اليوم - وهو يرى إصرار السلطان على التمسك بفلسطين وعدم التفريط بها – أن يرى بعض الزعماء، بل من فرضهم المحتلّون اليوم زعماء، يفرّطون بهذه الأرض المقدّسة ويقرّون بحقوق للصهاينة بالاستيطان فيها.

إنّ هؤلاء الزعماء المفرّطون يتعامون عن الحقيقة، فينظرون إلى مكاسب مؤقتة قد يجنونها من خلال التفريط ومداهنة المحتلين، ولكن لو نظرنا في مذكّرات السلطان لرأينا أنه كان رجلاً بعيد النظر؛ فهو يدرك مطامعهم ويوضح ذلك من خلال قوله: "فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم". وقد وقع أمام إغراءات كبيرة، منها ما يبدو فيه منفعة للسلطنة كلها من خلال تصفية ديونها وإدخال خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية في خزينتها، ومنها منفعة مادّية خاصة بالسلطان بأن يُدخل الصهاينة خمسة ملايين من الجنيهات الذهبية في خزينته.

وإضافة إلى هذه الإغراءات، كذلك تعرض لضغوط شديدة من خلال شنّ حملات دعائية عليه في صحف المقطم والأهرام والمقتطف والهلال، وتوجيه بعض الكتاب كجرجي زيدان وسليم سركيس وفارس نمر لتناوله بكتابات تصفه بالسلطان الأحمر وتتهمه بالقتل والبطش والتخلف والجهل. وألف جرجي زيدان قصة الاستبداد العثماني، ورمى السلطان بعشرات من الاتهامات الباطلة تمهيداً للقضاء عليه، وكذلك جرت محاولة اغتياله، فلم يفتّ ذلك من عزيمته ويوهن قواه حتى أُسقط ونُفِّذت المؤامرة.

المصادر والمراجع:

مذكِّراتي السياسية (السلطان عبد الحميد).

(السلطان عبد الحميد صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم) أنور الجندي.