مجلة العودة

باطل الميعاد وحق العودة: مفهومان متناقضان لجوهر الصراع

باطل الميعاد وحق العودة: مفهومان متناقضان لجوهر الصراع

د.حسن الباش - دمشق

ماذا يعني مفهوم أرض الميعاد لدى اليهود الصهاينة؟

ماذا يعني حق العودة لدى الشعب الفلسطيني؟

الأرض الفلسطينية هي محور الصراع بين الرؤيتين؛ فهي الهدف الصهيوني منذ قرون خلت، وهي الهدف الفلسطيني الذي لا يغادر العقول والنفوس والأرواح، وهي في النتيجة محور الصراع الذي بدأ ولن ينتهي إلا بإزهاق الباطل الصهيوني وإعادة الحق الطبيعي لشعب فلسطين.

النشأة والبدايات

قبل بداية القرن السادس عشر، لم يكن اليهود في أنحاء أوروبا واليهود في البلاد العربية يفكرون بشيء اسمه أرض الميعاد. وعموماً، الجميع كانوا مستقرين، كل حسب بلده الذي يعيش فيه.

فاليهودي العربي مواطن يعيش في بلده، يتاجر ويزرع ويمارس مهنته دونما إحساس بأنه غريب عن الأرض التي يعيش عليها. واليهود الخزريون الغربيون ينتشرون في أوروبا، وخاصة الشرقية، دونما أي تفكير في إنشاء مشروع استعماري يكون هدفه احتلال فلسطين وإقامة دولة كيان يهودي عليها.

وعندما ظهرت الحركة البروتستانتية مع بداية القرن السادس على يد مارتن لوثر الألماني، أخذت تظهر نداءات بروتستانتية بإعادة الاعتبار لكتاب التوراة واليهود، باعتبار أنهم شعب الله المختار، حسب ما يزعمون. وبناءً على ذلك، ظهرت نداءات تقول بإعادة هؤلاء اليهود إلى فلسطين، باعتبارها أرض ميعادهم.

ومن المعروف أن البروتستانتية تفسر التوراة تفسيراً حرفياً؛ فقد ارتأت أن الله وعد اليهود بإقامة دولة لهم على الأرض، بينما يرى الكثيرون من اليهود أن الله لم يعدهم بكيان من حديد وإسمنت. وقد كانت استجابة اليهود لدعوات مثل هذه هباءً منثوراً، ما دفع مارتن لوثر إلى مهاجمتهم والطلب من دول أوروبا طرد اليهود كافة من أوروبا.

ومضت عشرات السنين من دعوة لوثر، ولم يحرك اليهود ساكناً إلى بداية القرن الثامن عشر عندما أجبرت بعض الظروف السياسية في روسيا وألمانيا اليهود على تأليف هيئات تحاول ربط اليهود بإقامة كيان لهم على أرض فلسطين والتشجيع على الهجرة إليها.

وبدأت الدعوات إلى ما يسمى أرض الميعاد فردية على أيدي بعض الحاخامات والمفكرين اليهود أمثال يهودا المقالي وموشييه لايب، ولكنها ما لبثت أن ترجمت إلى إنشاء مؤسسات ومنظمات وهيئات تربط مفهوم أرض الميعاد بأهدافها وأفكارها وبأرض فلسطين.

حركة أحباء صهيون: قبل أن تظهر الحركة الصهيونية السياسية في مؤتمر بال بسويسرا عام 1897، ظهرت حركة أحباء صهيون في بعض دول أوروبا الشرقية. ومن خلال الاسم، ندرك أنها اعتمدت على ربط اليهود بجبل صهيون ربطاً عاطفياً. والمقصود بجبل صهيون أحد الجبال المحاذية لمدينة القدس، الذي يقدّسه اليهود، وله علاقة ما بالنبي داوود عليه السلام وبما يسمى الدولة اليهودية الغابرة في القرن الثامن قبل الميلاد.

وفي مقابل ذلك، ظهرت حركة يهودية أوروبية تدعو إلى الاندماج في المجتمعات الغربية والتخلص من الفيتو المقيت، وقد أطلق على أفراد هذه هذه الحركة (التنويريين)، وقد بدا أن مفهوم أرض الميعاد ليس من أدبياتهم وليس من تفكيرهم. و نرى أن التنويريين لم يستمروا أمام الدعوات التي شحنها الحاخامات اليهود في أوروبا الشرقية، بل إن العديد من هؤلاء أصبحوا بسرعة من دعاة الصهيونية الداعية إلى تنفيذ المشروع الاستعماري في فلسطين.

المستند التوراتي والتفسير المحرَّف

ولعل من أغرب تفسيرات الحاخامات، اعتمادهم تفاسير خاصة استناداً إلى مقولات توراتية وتلمودية. ومن الطبيعي أن الارتباط الديني بين اليهود وكتبهم الدينية يظل دافعاً لما يسمى الحسّ القومي، على الرغم من أن الدين لا يشكل قومية بأي شكل من الأشكال. وقد استطاع عدد من الحاخامات تجيير النصوص الدينية للأبعاد السياسية، حيث أدرك يهود أوروبا الشرقية أن اليهود أفضل وسيلة لشحذ نفوس اليهود باتجاه فلسطين، على اعتبارها أرض الميعاد التي تحدثت عنها أسفار التلمود وشروحات التورات. ومن المعروف أن الصهيونية حركة لادينية، ولكنها ارتأت أن تستغل اليهودية وتشغل نارها في نفوس اليهود لتحقيق أطماعها في تنفيذ المشروع الاستعماري في فلسطين.

وقد ربطت الحركة الصهيونية ذلك الموضوع بجملة تثقيفية واسعة بين أوساط اليهود، ركزت فيها على إطار تاريخي يتحدث عن دولة ومملكة، وكانت قائمة على القدس. وهذه الحركة شملت أرض فلسطين كلها وأجزاءً من الأردن وسوريا ومصر، وأن العودة إلى أرض فلسطين أمر رباني يجب أن تنفيذه اليهود بعد تشتت استمر ألفي عام حسب زعمهم.

المؤسسات والهيئات الصهيونية

حتى يكتمل التحرك الصهيوني باتجاه مشروع احتلال فلسطين، انبثق من الحركة الصهيونية ما يسمى المؤتمر اليهودي، وكذلك الوكالة اليهودية، إضافة إلى المجلس الأعلى للحاخامات. ترأس المؤتمر اليهودي ناهوم غولدمان، وراح ينشط من فترة إلى أخرى لجلب الأموال الطائلة للحركة من طريق كبار الرأسماليين اليهود المنتشرين في بريطانيا وألمانيا وأميركا وغيرها، إضافة إلى تحرك ناهوم غولدمان باتجاه حكومات الدول الأوروبية، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث جلبت الحركة الصهيونية الملايين من الحكومة الألمانية تعويضاً عمّا يسمى المحرقة اليهودية. أما الوكالة اليهودية، فقد تخصصت لجمع الأموال من الجهات اليهودية وغيرها، ونظمت الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وقد استطاعت الدعاية الصهيونية من خلالها أن تزرع في نفوس الملايين من اليهود فكرة أرض الميعاد والعمل الدؤوب على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين.

وحين ننظر اليوم إلى واقع تحركات الكيان وجميع شرائحه الدينية والعلمانية، نرى أن الصهيونية سيطرت بنحو كامل على سياسات الدول الغربية الكبرى، ولا يمكن أن ننسى في هذا الإطار اللوبيات اليهودية الضاغطة على حكومات الدول الأوروبية وأميركا. فمنظمة إيباك المعروفة بقوتها، استطاعت تنظيم أكبر الحملات الدعائية والمالية لدعم الكيان الصهيوني، وهناك من اللوبيات في فرنسا وبقية دول الغرب ما يفرض على كثير من قطاعات تلك المجتمعات الدعم الفكري والسياسي والمالي ليبقى الكيان قوياً مهيمناً على المنطقة العربية والإسلامية برمتها. وعندما ننظر إلى الواقع الداخلي للكيان الصهيوني اليوم، نرى أن مئات المؤسسات الدينية والحكومية تعمل ليلاً ونهاراً في تغذية التجمع الصهيوني بفكرة أرض الميعاد وترسيخ مفهوم القوة الضاربة للحفاظ على الكيان.

حق العودة ومسار التحرك الفلسطيني

مضى على نكبة فلسطين 64 عاماً، وظل مفهوم حق العودة يسيطر على العقل الفلسطيني والوجود الفلسطيني بكل الأشكال. وحتى نكون واقعيين، علينا أن ننظر ماذا فعلت الحركة الصهيونية لتحقيق مشروعها الاستعماري، وماذا فعل الفلسطينيون من أجل حق العودة.

في الإطار البصري، نحن نؤمن وندرك أن احتلال فلسطين وأن مفهوم أرض الميعاد ليسا سوى مطية ركبتها الصهيونية لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وأن حق العودة حق لا يموت بالتقادم ولا بفرض الأمر الواقع. لكن عندما ننظر إلى مسار التحرك الفلسطيني على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي المؤسساتي والجماهيري، ندرك أن خداراً قد وقع، وأنه أوقعنا في حال سيئة لا نحسد عليها.

مفهوم حق العودة أصبح بعد اتفاقات أوسلو غامضاً مميّعاً على مستوى منظمة التحرير التي انخرطت في تنازل لم يشهد التاريخ مثله.

وحين ننظر إلى المؤسسات الفلسطينية، وخاصة الصندوق القومي، نرى أن ما يصدق من أموال على ترسيخ وجود السلطة الشكلية في رام الله لا يؤدي إلا إلى مزيد من التنازل عن حق العودة، وما يصدق من أجل حق العودة لا يكاد يذكر، وهذا ما يجعلنا نندهش ونفاجأ عندما نقارن بين ما قدمته الحركة الصهيونية من أجل مشروعها وما تقدمه سلطة اوسلو من تنازلات قاتلة ومنتحرة.

حق العودة يصبح كلاماً في الهواء إذا ما قارنا بما يجري من اعتراف بالكيان الصهيوني وبما يجري من مفاوضات عبثية مع الكيان وبما يجري من تنازلات للرباعية ولمجلس الأمن للأوساط الغربية المؤيدة قلباً وقالباً لوجود الكيان الصهيوني. فجميع التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية تدل دلالة قاطعة على إلغاء حق العودة، رغم كثرة الكلام الذي نسمعه من هنا وهناك عن حق العودة وعودة اللاجئين الى ديارهم.

وإذا حاولنا الاختصار كثيراً وتحدثنا عن بعض المنظمات الأهلية ولجان العودة المنتشرة في الشتات وفي بعض مناطق فلسطين، لا نرى أكثرها سوى عمل عبثي بلا جدوى. فكثيرة هي اللجان التي تتألف من عدد من الأشخاص لا يتجاوزون أصابع اليد وليس لديهم أي منهج فكري أو آلية تنظيمية أو مالية تدعم مشروع حق العودة ويكاد صوتها لا يتجاوز آذان أعضائها، وهذا عبث بعبث إذا قورن بالمنظمات الصهيونية التي عملت في أوروبا قبل النكبة بعشرات السنين. وتبقى بعض المؤسسات القليلة جداً مما يعمل بجدية لترسيخ حق العودة بين أبناء الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال المحاضرات والندوات والكراسات والحركة العربية والدولية لإيضاح مفهوم حق العودة والعمل لتنفيذه على الأرض.

وبغض النظر عن التسميات، فإننا نرى أن مهمة ترسيخ حق العودة على أوسع نطاق فلسطيني وعربي وإنساني تتطلب وجود رؤية معمقة يدركها الجميع. ما معنى حق العودة تاريخياً، وما معناه على المستوى الديني والشرعي، وما معناه واقعاً ومستقبلاً؟

ثم كيف نخلق الإطار الحالي الواسع الذي يدعم صمود أهلنا داخل فلسطين؟ وكيف نخلق التواصل المعرفي بين الشتات وأبناء شعبنا في داخل فلسطين؟ ولنبحث باستمرار عن آليات جديدة متجددة حتى لا نبقى محاصرين من قبل عدونا بأساليبه الكثيرة والمتنوعة.

كيف نرسخ العلاقة الصامدة بين الإنسان الفلسطيني والأرض الفلسطينية؟

إن تجربة الحركة الصهيونية منذ قرنين وحتى هذه اللحظة تؤكد لنا أن حق العودة لا يصبح واقعاً إن لم نعمل ليلاً ونهاراً على ترسيخ الأبعاد الدينية والوطنية والوحدوية لهذا الحق. وعندئذ يمكن أن نطمئن إلى أن شعار حق العودة لن يكون فارغاً، إنما هو مضمون وحركة مباركة وإيمان عملي بأن أرض فلسطين حق أبدي للشعب الفلسطيني