مجلة العودة

مذبحة صبرا وشاتيلاجرح نازف لا يشفى حتى ننتقم

مذبحة صبرا وشاتيلا
جرح نازف لا يشفى حتى ننتقم

د. محمد توكلنا - دمشق

لا يزال من يغوص في تاريخ الكيان الصهيوني، ويقلب صفحاته يطالعه اللونان الأسود والأحمر؛ الأسود تبسطه المظالم والمآسي، والأحمر تنشره اللحوم والدماء، فما أشد التشريد والاضطهاد، وما أروع المجازر وإزهاق الأرواح.
ومن أشد صفحات تاريخ الصهيونية ظلمةً واسوداداً مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان؛ فقد استيقظ الناس في صبيحة السابع عشر من أيلول/ سبتمبر سنة ألف وتسعمئة واثنتين وثمانين ليجدوا نحو ثلاثة آلاف من سكان المخيمين مذبوحين بلا هوادة على أيدي فرقة من الجيش الإسرائيلي بالتعاون من ميليشيات من حزب الكتائب اللبناني.
لقد كان منظر الجثث تنبو عنه العيون، وتقلص منه الشفاه، ويندى له جبين الإنسانية؛ فقد بقرت البطون، وقلعت العيون، وقطّعت الأوصال، وغرق الأطفال والنساء والشيوخ في دمائهم. كان ذلك أمراً دُبِّر بليلٍ، بعد أن أغلق القتلة مداخل المخيمين ومنعوا الصحافيين ورجال الإعلام من الدخول.
وقد ألهبت هذه المذبحة قلب كل من له قلب، وترجمها الشعراء قصائد تشتعل كالبراكين بالثورة والغضب والأسى واللوعة على إخوانهم المظلومين المقهورين من أبناء شعبهم الفلسطيني. فطلعت سقيرق يدخل مخيم صبرا، فيسأل عن طفلة ساذجة كانت تفرحها فلة صغيرة تزين بها شعرها، وطفل بريء غرٍّ يخاف حتى من رؤية ظله، فإذا بطفلة أخرى من الناجين هي تسأله أين ذهب هؤلاء كلهم ولماذا رحلوا (الوافر):
سألتُ الشارع المطروح في صبرا
عن البنتِ التي كانتْ..
تزيّنُ شعرها فلهْ
عن الطفل الذي ما زالَ
يبكي إن رأى ظلهْ
وكان الصمت خلفَ البابِ
والجدرانِ والطرقاتْ
هنا كانوا..
هنا شدّتْ على كفي
أصابعُ طفلةٍ.. طفلهْ
لماذا كلهم ذهبوا؟؟
لماذا كلهم رحلوا؟؟
ويجيب الشاعر بأن هذا الدم الذي سال إنما هو زيت لقناديل ستضيء درب العودة إلى كل مدن فلسطين، ولن يقبل الشعب المناضل بسلام الضعف، ولن يهادن قاتليه أو يخضع لهم:
هنا صبرا…. وشاتيلا
هنا دمُنا….
سنرسله قناديلا..
ونصرخُ.. لا..
لغير الأرضِ.. كل الأرضِ
نصرخ.. لا..
لغير الشمس.. والمدفعْ
لنا حيفا..
لنا يافا..
لنا القدس….
لنا كلّ الترابِ….. لنا..
لنا كلّ الديار.. لنا..
سلام الدولةِ العرجاءِ نرفضهُ
سلام الذلِّ نرفضهُ
ونرفضُ أن نمدّ يداً إلى القتلهْ
أما غازي القصيبي، فقد شنّ حملة شعواء على السلطة التي تحكم لبنان آنذاك، متهماً إياها حيناً بالتخاذل والتقصير في حماية رعاياها، وآناً بالتواطؤ والتآمر (البسيط):
نهرٌ من الدمِ فامشي فيهِ واغتَسِلي 
منَ الجَنابةِ يا أنثى بلا خَجَلِ
ويعجب الشاعر من عدم الاهتمام وعدم المبالاة بالقتل الذي راح ضحيته الأطفال والشيوخ، ويستحث الدولة على أن تهبّ من قبرها، للدفاع عن ذمارها، فما بعد الموت من موت، بل ربما كان الموت سبباً في الخلود:  
تأملي جثثَ الأطفالِ وانْفَعِلي!  
وطالِعي جثثَ الأشياخِ واشْتَعِلي
ماذا يخيفكِ؟ هل بعد الحِمامِ ردىً؟ 
وهل سوى الأجَلِ المَحتومِ مِن أجلِ؟
ها أنتِ مُتِّ فقومي الآن وانتفضي 
قد يصبح الموت ميعاداً مع الأزلِ
والذي يجعل الشاعر يتأسف لجريان نهر الدماء هو أن ذلك لم يكن في ساح الوغى والبطولات، ولم يُقتل فيه عدوٌّ وإنما قتل فيه الأخ أخاه، وهذا السيل من الدماء ما زال متصل الجريان تضطرب منه الأرض:  
نهرٌ من الدم يجري في مرابِعِنا بلا شموخٍ بلا كبرٍ بلا بطلِ
ما مات فيهِ عدوّي مات فيهِ أخي بطعنةٍ من أخي مسمومةِ القُبلِ
ما زال يجري وتَسقيهِ العروقُ طلىً فالأرض ترقص في عُرسٍ بِلا جذَلٍ
ثم يعود إلى معاتبة الدولة التي تشرب من دم الضحايا، بينما هي دولة أضحوكة بين الدول:
نهرٌ من الدم فامشي فيهِ وارتشفِي 
حتى الثمالةِ يا أضحوكةَ الدولِ
ويستعرض حال فلسطين التي ضيعها الزعماء، وكل زعيم يتهم غيره بأنه هو سبب سقوطها، ولكن الشاعر يرى أن الجميع مشتركون في ذبحها، وكلهم ضيّع نخوته:
قالوا فلسطينُ قلنا الحَيْنُ عاجَلَها  فاستسلمتْ لِمُدى الجاني على عجَلِ
أبو فلانٍ يغنّي فوق جثتِها   
كما يغنّي غرابٌ وحشة الطللِ
يقولُ ما الذنبُ ذنبي إنّ قاتِلَها   
أبو فلان ومن أغواهُ بالحِيَلِ
قَتلتموها جميعاً إنّ واحدَكم  
أبا الخديعةِ أضحى أو أبا الدَجَلِ
ونحن من خلفكم ما بيننا رَجُلٌ 
لم تختصبْ يده بالأحمرِ الهَطِلِ
ونحن يا سادتي ما بيننا رجلٌ 
إلا وطلّقْ طوعاً نخوةَ الرجُلِ
ويتأسف لحال الأمة التي ابتليت بالخلافات والمنازعات، وما أكثر الزعماء الذين يدعي كل منهم أنه بطل وعلم من الأعلام، ويدعي النصر مع أنه مهزوم، وجميع هؤلاء الزعماء قد كمّوا أفواه شعوبهم فأعجزوها عن أن تنبس ببنت شفة، بينما اشتغل الحكام بالمنافسة والمشاحنات واشتعلت فيهم حمّى الثأر والمهاترات:
قالوا العروبة قُلّنا أمةٌ درجتْ 
على الشِّقاقِ فأضحتْ مَضرِبَ المثلِ
في كلّ شبرٍ زعيمٌ رافع علماً 
يقولُ إني وحيد الناس في مُثُلي
تمشي الهزيمة عاراً فوقَ منكبه  لكنه باحتفال النصرِ في شُغُلِ
في كل شبرٍ زعيمٌ مد قبضتهُ  
على الجموع فلم تفعل ولم تَقُلِ
وكيف ينطق من سدّوا حناجِرَه؟  وكيف يمشي بعبء القيدِ ذو شلل؟
في كل شبرٍ زعيمٌ مَن ينافِسَهُ  
على الزعامةِ أمسى طُعمةَ الأسلِ
فداحسٌ لم تزل بالثأر مولّعةً  ونشوةَ الحربِ في الغبراءِ لم تزلِ
وقادةُ العرب سَلّوا السيف وارتَجَزوا 
يا أمَّةَ العُربِ سُلّي السيفَ واقْتِتلي!
لكنه بعد كل هذا يرى أن نهر الدم الذي يسيل من العروق يحمل بشائر الأمل بالنصر، حتى إن دماء الأطفال تجأر إلى الله داعية مبتهلة، والله عزّ وجل لا يضيع عنده الدعاء والابتهال، وكذلك فإن المناضلين المؤمنين قادمون يحملون راية الله تعالى، والشاعر يجري الدم في عروقه يبشره بالفوز بالشهادة:
نهرٌ من الدمِ عبر اليأسِ وشوشني 
بِأنّهُ سوفَ يسقي الكونَ بالأملِ
وقال: إنَ دمَ الأطفالِ مُبتَهِلٌ  
عند الذي لم يُضَيِّعْ جُرحَ مُبْتَهلِ
وقال: إنّ خيولَ اللهِ قادِمةٌ  وقال: إنّ بُنودَ اللهِ لم تَـمِلِ
نهرٌ من الدمِ في قلبي يُبَشّرُني         
كما أبشِّرُهُ أنّ الـشهادةَ لي
وأما الشاعر يحيى برزق فيرى مجازر صبرا وشاتيلا فيفقد رشده من شدة الصدمة ويصاب بنوبة قلبية فيحمل إلى المشفى وهناك تشرف على تمريضه ممرضة هندية، وقد كانت تلاطفه وتوادّه وهي لا تعلم بسبب مصيبته (الرجز):
هِنْدِيَّةٌ كَنَسْمَةِ الصَّبَاح    فَوَّاحَةُ الأَنْدَاءِ وَالأَقَاحِ
تَدَفَّقَ الحَنَانُ مِنْ أَلحَْاظِهَا    وَالهَمْسُ في الغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ
تَجُسُّ نَبْضِي رَاحُهَا فَأَنْتَشِي   كَأَنَّنِي أُسْقَى بِتِلْكَ الرَّاحِ
تَقُولُ لِي: وَأَنْتَ شَيْخٌ زَاهِد  
هَلْ ضَرَّجَتْكَ فِتْنَةُ المِلاَحِ؟
وَلَوْ دَرَتْ بِقِصَّتِي لَغَصَّتْ   
مِنْ خَطْبِ نِضْوٍ تَاهَ في البِطَاحِ
أَهْلُوهُ في صَبْرَا وَشَاتِيلاَ عَلَى 
دِمَائِهِمْ أَثْرَى بَنُو السِّفَاحِ
وَالنَّاسُ مِنْ حَوْلِيَ هَذَا نَابِحٌ   وَذَاكَ يَشْكُو كَثْرَةَ النُّبَاحِ
مَا عَادَ لِي إِلاَّ يَدُ الرَّحْمَانِ لا  
أَرْجُو سِوَاهَا مُطْلِقاً سَرَاحِي
وتمضي الأيام والسِّنون ويبقى جرح صبرا وشاتيلا نازفاً طريّاً يملأ القلوب بالأسى، فتخطر الذكرى ببال الشاعر جهاد إبراهيم، فيبعثها من جديد بعد سبع وعشرين سنة على ألمها، ويعلن أنه سيبقى يذكرها حتى يموت (الوافر):
سأذكرُ من قَضَوْا بغياً بصبرا  وشاتيلا الدماءِ ليومِ أقضي
إن الذكرى السابعة والعشرين هيجت في الشاعر حب الثأر، فأي حديث عن الصفح عن الأعادي يلهب الجراح كأنما سكب عليها الحمض، وكيف يصفح الشاعر واللواتي اغتصبن، والذين قطعت رقابهم هم أهل الشاعر وعرضه:
أتتنا السبعُ والعشرون ذكرى 
فجَلْجَلَ طبلَ ثأرٍ خَفْقُ نَبضي
دَعوا لَغوَ الحديثِ فذكرُ صفحٍ 
يسيلُ على الجراحِ كسكبِ حَمْضِ
فإنَّ مَنِ اغْتُصِبْنَ بها وجُزَّتْ 
رقابُهمُ بنو أمّي وعِرضي
ويغمز من قناة حزب الكتائب الذي نفّذ أوامر رئيس وزراء الكيان الصهيوني أرييل شارون، ويعزم على الانتقام منهم أينما كانوا:
كتائبُ حقدِهم سُعِرت كلاباً 
تُنَفِّذُ ما به شارونُ يقضي
وإنّا مُدرِكوهم حيثُ كانوا 
وراءَ الغيمِ أو وُوروا بأرض
ويعترض على العرب الذين طُلب منهم أن يرفعوا رؤوسهم بالثأر من الأعداء ولكنهم خفضوا رؤوسهم ومضوا لمجلس الأمن، فهم لا يحتكمون للسيوف إلاّ في قتال بعضهم:
وعُرْبٍ قد دعاهم فرضُ ثأرٍ 
لرفع رؤوسِهم رَدّوا بخفضِ
طلبتُ سيوفَهم غَوْثاً فقالوا 
علامَ؟ لمجلسٍ للأمنِ نَمضي
وما احتكموا لحدِّ السيفِ إلاّ 
ليضربَ بعضُهُمْ أعناقَ بعضِ
وكيف يرجون عدلاً في مجلس الأمن مع أن مجلس الأمن مبني على حكم ظالم هو حق النقض، وهو المجلس الذي يجب أن يشكى بدلاً من أن يرفع إليه الشكاوى؟ ثم يختم الشاعر بمخاطبة العرب بأنهم إذا قصدوا الغرب لينصفوهم فهو لن يقصد إلاّ السيف: 
رجَوا في مجلسٍ للأمنِ عدلاً 
وأيُّ عدالةٍ مع (حقِّ نَقْضِ)
ومن يُشكى له يُشكى عليه 
فمَن بجريمةِ القاضي سيقضي
أتِمّوا فرضَكم حَجّاً لغربٍ 
بغيرِ السيفِ ليس يَتِمُّ فرضي
لقد حسب الصهاينة وأعوانهم الذين ارتكبوا جريمة صبرا وشاتيلا أنها ستمحى من ذاكرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولكن أثبت الشعر العربي أن هذه الجريمة ستبقى في الذاكرة حتى يأتي اليوم الذي ينتقمون فيه منهم لجريمة صبرا وشاتيلا ولكل الجرائم التي ارتكبت بحق شعبنا المظلوم. ♦