مجلة العودة

كتاب : اتفاق أوسلو وتداعياته للمفكر منير شفيق

كتاب : اتفاق أوسلو وتداعياته للمفكر منير شفيق

بيروت - العودة

إنه الاتفاق الكارثة، ولا بدّ من أن تتضافر الجهود لتعبئة رأيٍ عام فلسطيني وعربيّ وإسلاميّ له الأغلبية الكاسحة من أجل تمزيقه كما سبق أن مزّقت كلّ المعاهدات الاستعمارية الظالمة التي فرضت على أقطارنا العربية والإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى.

****
إن خطورة الزاوية التي فتحها اتفاق أوسلو تحمل أبعاداً مستقبلية خطيرة تتعدّى ما يمكن أن يسجّل على الجانب الفلسطيني ما قدّمه بها من تنازلات لا تمسّ الحقوق والثوابت والتاريخ والمخزون القومي والنفسي فحسب، ولا وما حملته من مخاطر بقاء الاحتلال والمستوطنات وتكريس ضمّ القدس الشرقية إلى دولة العدو فحسب، بل أيضاً تحمل أبعاداً تمسّ الأمن العربي وتجرح الانتساب الفلسطيني إلى الأمة العربية والإسلامية والولاء واتجاه البوصلة. وهذا ما أدّى إلى نشوء معارضة عربية شديدة للاتفاق ولم يخفّف منها إلا إعادة المفاوضات إلى القاهرة لتصبح مصر شريكاً فيها، الأمر الذي وضع العِصيّ في دولاب اتفاق أوسلو ولم يجعله يتحرّك بذلك الزخم الذي أراد له طابخوه أن يمضي فيه.
***** 


إلا أنّ الإشكال الأساسي للمرحلة القادمة سيظل، وفقاً لانعطافة اتفاق أوسلو، متمثلاً في صراع فلسطيني- فلسطيني حادّ على مستوى قمة السلطة في ما يتعلّق بطراز العلاقة الفلسطينية – "الإسرائيلية" في مقابل العلاقات الفلسطينية – العربية. وبالمناسبة، إذا كانت مصر قد استطاعت ضمن الظرف الراهن احتواء جزءٍ من الموقف الفلسطيني، فإن استمرار هذه الاستطاعة سيظلّ موضع تساؤل في ضوء ما يمكن أن تشهده المنطقة من تطورات مستقبلية وما يمكن أن يشهده الوضعان المصري والفلسطيني من تطوّرات كذلك!
***** 


لم يكن من المتوقّع أن يخرج اتفاق فلسطيني- "إسرائيلي" على الحكم الذاتي أقلّ سوءاً من الاتفاق الذي جرى عبر مفاوضات سرية في أوسلو. فمن يقرأ خطابات الدعوة إلى مؤتمر مدريد وما حدّد من أسس للمفاوضات الثنائية المباشرة، كان أمامه أحد احتمالين: إما الدوران في مفاوضات طويلة جداً، وإما اتفاقٌ في السوء الذي جاء عليه الاتفاق الأخير. ومن يتابع التقارير التي صدرت عن مؤسسات الدراسات والندوات في واشنطن، أو يتابع التصريحات الأميركية و"الإسرائيلية" في واشنطن، كان عليه أن يتوقّع اتفاقاً على الحكم الذاتي بالمواصفات التي اتفق عليها في أوسلو، وذلك لسببين: الأول أنّ كلاً من الكيان "الإسرائيلي" وأميركا وروسيا وعددٍ من الدول الأوروبية اتجهوا لصنع تسوية على أساس الشروط "الإسرائيلية"، وإلا فلا تسوية. أما السبب الثاني، فقد أظهرت أغلب الحكومات العربية، ومعها قيادة م.ت.ف. وهنا لا مثيل له في الرضوخ للضغوط الأميركية وهذا أمر أكّدته مسارات الأحداث خلال السنتين الماضيتين تأكيداً يقرّ به الجميع بلا استثناء. أي ثمة عاملان متكاملان أخرجا الاتفاق الراهن: الأول إصرار "إسرائيلي" ودولي على صياغة اتفاقٍ على الحكم الذاتي وفقاً للشروط "الإسرائيلية" بالكامل، والثاني قبول تدريجيّ بتلك الشروط، وقد عُجِنَ بالوهن والعجز حتى لو كان في ذلك التفريط بأعز الحقوق، وأقدس القضايا، وبالأمن القومي والمصالح العليا.
**** 


يمكن أن نلخّص اتفاق أوسلو بما يأتي: بقاء الاحتلال "الإسرائيلي" والسيادة "الإسرائيلية" على فلسطين كلّها، بما في ذلك قطاع غزة وأريحا، أما الانسحاب من القطاع وأريحا وإقامة نوع من الحكم الذاتي الانتقالي، فهو انسحاب الجيش من المناطق الآهلة بالسكان حيث الانتفاضة والمقاومة، وتسليم الأمن فيها للشرطة الفلسطينية. وبهذا إعفاءٌ للاحتلال من الاصطدام بالفلسطينيين، مع بقائه مسيطراً على الوضع عموماً، وممسكاً بكلّ النقاط الاستراتيجية على كلّ الحدود، وفي كلّ النقاط المشرفة وفي الطرقات الواصلة في ما بين المدن والقرى. وقد أعطي الجيش "الإسرائيلي" حقّ العودة إلى احتلال كلّ منطقة سكانية تحت الحكم الذاتي إذا فشِل الأخير في المحافظة على أمن الاحتلال "الإسرائيلي" فيها ومنها. أما تسليم إدارة الحكم الذاتي شؤون التعليم والصحة والبلديات والسياحة فهو إعفاء للاحتلال من الإنفاق على تلك المجالات التي هي الجانب السلبي بالنسبة إلى كلّ احتلال.
**** 


الذين وقّعوا الاتفاق، أو أيّدوه، لم يستطيعوا أن يقدّموا نقطة واحدة يعتبرون فيها أن الاتفاق تضمّن زوالاً نهائياً، أو تدريجياً، للاحتلال، ولو على بقعة واحدة، أو فيها استعادة لسيادة على أرض، ولو على شبرٍ واحد، فكلّ ما يتعلّق بزوال الاحتلال، أو السيادة على المناطق التي ينسحب منها الجيش، أو وضع المستوطنات التي أقيمت في الضفة وقطاع غزة. وهذه التي عُدَّت دائماً غير شرعية، أصبحت الآن واقعاً مسلّماً به وتحت السلطة "الإسرائيلية". وقبل أن يكون أمنها ذاتياً لا علاقة للإدارة الفلسطينية به، أصبحت موضوعاً للمفاوضات والتراضي لاحقاً. والأهم تمّ الالتفاف على قضية القدس ومصيرها وقضايا العودة، ولا نتحدّث عن الحقوق بكلّ فلسطين، من خلال تأجيل بحثِ تلك المواضيع لمرحلة قادمة، أي ترك مصيرها لما يمكن أن يتفق عليه الطرفان، دون أن تكون هنالك مرجعية ملزمة لزوال الاحتلال.
**** 


الذين أيّدوا الاتفاق، سواء أكانوا من الفلسطينيين أم من العرب، لا يملِكون سوى تسويغه بالأمل في أن يكون خطوة على طريق استرداد كلّ الحقوق، أو مرحلة لتطبيق قراري مجلس الأمن 242 و 338، وهو أملٌ أضعف من أمل إبليس في الجنة كما يقول المثل؛ لأن أي اتفاقٍ جديدٍ دائمٍ غير ممكن إلا بالموافقة "الإسرائيلية". فإذا كان الاتفاق الأول لم يقم إلا وفقاً للشروط "الإسرائيلية"، فبأي منطق وعلى أي أساس يؤمَل أن يقوم الاتفاق التالي على غير الشروط "الإسرائيلية". وإذا كان الاستمساك بالموقف أو بالحقوق من الجانب الفلسطيني وبعض العرب في ما يتعلّق بالمسار الفلسطيني هو على الصورة التي خبِرناها في اتفاق أوسلو ومن قبله في إحدى عشرة جولة من مفاوضات ثنائية، ومن قبلِها في مؤتمر مدريد، فكيف يؤمَل أن تسترد السيادة على القدس والسيادة على الأرض، أو تفكيك المستوطنات، أو تحقيق انسحابٍ فعليّ من الأراضي التي احتلت عام 1967 على الأقل؟ هذا مع معارضتنا أصلاً للتفريط بالحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في كلّ أرض فلسطين ما قبل حزيران 1967.
***** 


الذين حاولوا الدفاع عن اتفاق أوسلو كانوا يحتجّون بالسؤال: "وما بديلكم؟"... لو وضعنا جانباً كلّ حديث عن بدائل أخرى بالرغم من وجودها قطعاً حتى في مجال طريقة إدارة المفاوضات، فإنّ من الممكن القول ـ وقطعاً هنا أيضاً ـ إن استمرار الواقع الراهن بديل أفضل من الواقع الذي سينشأ عن الاتفاقية. ولعلّ الحكم الفصل في هذا سيكون التجربة الواقعية القريبة القادمة، حيث سنسمع الكثيرين يترحّمون على الوضع الراهن حين يرون الترجمة الواقعية لاتفاق أوسلو. وإنّ غداً لناظره قريب. فالاحتلال الوسخ المصطدم بالأهالي والمكلّف للعدو والمحاصر والمقاوم خيرٌ من الاحتلال "النظيف" المدفوع الأجر والمعترف بشرعيته والمدعوم دولياً، وأن يكون العدو مغتصباً خيرٌ من أن يعترف بحقّه في الوجود. بينما حقوقنا جميعاً موضوع نزاعٍ بيننا وبينه، ومؤجّلة للمفاوضات، وما يمكن أن يوافق عليه ويقبل به. كذلك إن بقاء حقّنا في استخدام كلّ أشكال المقاومة للاحتلال والاغتصاب، أفضل من أن نعترِف بأنّ ما كنّا نمارسه إرهاب لا كفاح تحريري مشروع، وأن نكون الضحايا أكرم من أن يكون عدوّنا هو "الضحية"؛ إذ وصلت الجرأة برابين أن يصوّر نفسه في خطابه في واشنطن بالضحية، في حين لا مقارنة بين ما نزل بنا من ويلاتٍ وقدّمنا من تضحيات في القتلى والجرحى والتشريد واليتامى والأرامل وفقدان الأمن وما نزل به في مقابل ذلك. أفلا تقلّ النسبة عن مئة لواحد، بل ألف لواحد؟ فكيف يقلب كلّ شيء رأساً على عقب؟ هذا فضلاً عن الذي يحتل موقع المعتدي أصلاً.
****

 

إلا أنّ الجانب الآخر الذي يجب أن يسترعي الانتباه في اتفاق أوسلو، وربما كان من الناحيتين الواقعية والمستقبلية أشد خطورة وسوءاً من الجانب الأول، يتعلّق بالإلحاق الاقتصادي والاجتماعي وبتلك القائمة الطويلة من لجان التعاون الفلسطينية – "الإسرائيلية" التي نصّ عليها الاتفاق، وهي تمتد من شؤون الأمن إلى المياه إلى الطاقة إلى التنمية إلى التجارة إلى السياحة، وما إلى ذلك. بكلمةٍ أخرى، إن ما أقرّ به من تعاون ثنائي فلسطيني – "إسرائيلي" في مختلف المجالات أقرب ما يكون إلى إقامة الحكم الذاتي الفلسطيني في ظلّ الدولة "الإسرائيلية"، أي كما لو كنا أمام محور فلسطيني – "إسرائيلي"، وهو أمر يحمِل أبعاداً خطيرة على الأمة العربية والإسلامية كلّها؛ فبدلاً من أن تكون المرحلة الأولى خطوة باتجاه إزاحة النفوذ "الإسرائيلي" عن أجزاء من فلسطين، تصبح خطوة باتجاه امتداد النفوذ "الإسرائيلي" إلى البلاد العربية والإسلامية، الأمر الذي يشكّل خطراً محدِقاً بالأمن العربي والعلاقات الفلسطينية – العربية، ويشكّل معبراً تحت مظلة فلسطينية للتطبيع العربي – "الإسرائيلي" ولما هو أكثر من ذلك. ومن ثم يتضمّن مدخلاً لفقدان الهوية العربية والإسلامية للمنطقة ولضرب مقوّمات الأمة الواحدة المصالح المشتركة في ما بين شعوبها، ليحلّ مكان ذلك نظام شرق أوسطي، يؤدي فيه الكيان "الإسرائيلي" بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية الدور الرئيسي في تحديد هويته وحالته، وأسس العلاقات في ما بين دوله وطريقة توزيع ثرواته وتحديد سياسته.
**** 


وبهذا يكون اتفاق أوسلو أبعد خطراً من هدر الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين، وأبعد خطراً من بقاء الاحتلال والسيادة "الإسرائيلية" على كلّ فلسطين. إنه جسر لعبور "إسرائيليّ" إلى المنطقة، ولا حاجة إلى ذكر ما يحمله ذلك من شرّ مستطير على الأمة كافة، عقيدة ووجوداً وهوية وحضارة، بل ومصالح ومستقبلاً.
****

*****
فالقول إن اتفاق أوسلو خطوة على طريق استعادة بقية الضفة الغربية وقطاع غزة، واستعادة القدس الشرقية وإقامة الدولة الفلسطينية تقديرٌ يخالفه كلّ ذلك المسار على هذا الطريق، لا بالنسبة إلى التجربة الراهنة خلال السنتين الماضيتين. لقد جاءت رسائل الدعوة لمؤتمر مدريد أسوأ من مشاريع التسوية التي سبقها بما في ذلك اتفاقات كامب ديفيد، وإذا كانت مسوّدات إعلان المبادئ التي تقدّم بها كريستوفر في مفاوضات واشنطن أسوأ من رسائل لمؤتمر مدريد فإن اتفاق أوسلو جاء أسوأ من تلك المسوّدات، فكيف يمكن أحداً أن لا يتوقّع أن تكون الخطوة الثانية اللاحقة لاتفاق أوسلو أو الخارجة من أحشائه، أسوأ منه كثيراً. بل إنه لمن المضحك أن يحاول بعض المتحفظين على الاتفاق ممن يؤيّدونه إبداء تخوّفهم من أن يجمد عود ذلك الحد ولا يكون هناك "ثانياً"، إذ إن عليهم أن يتخوّفوا من الآتي "ثانياً" لأنه سيكون قطعاً أسوأ من الاتفاق. فهذه الأحشاء لا تلد إلا "كافراً" "فجّاراً" يأتي دائماً أشدّ كفراً وفجوراً مما سبق.
**** 


إن كلّ حديثٍ عن سوءٍ في الأوضاع العربية أو عن ميَلانٍ لميزان القوى في غير مصلحتنا ليس بالأمر الجديد. بل كان الأمر كذلك دائماً. بل مرّت ظروف على القضية الفلسطينية واجهت أوضاعاً عربية أشدّ سوءاً وواجهت موازين قوى أكثر رجحاناً في مصلحة عدوّنا. فمن يستعيد أوضاع الأمة بعد الحرب العالمية الأولى في العشرينيات والثلاثينيات، يمكنه أن يرى الوضع العربي الرسمي الراهن أفضل نسبياً، في عددٍ من النواحي، عمّا كان عليه في العقدين المذكورين؛ فعندما دخل الشعب الفلسطيني في النصف الثاني من الأربعينيات، وخاض الصراع لمقاومة قيام الدولة "الإسرائيلية" أو للمحافظة على بقاء المقاومة متأجّجة، والقضية حيّة، واجه أوضاعاً أشدّ سوءاً مما يواجهه اليوم. وكان الجواب الصحيح دائماً هو التوجّه لمعالجة الخلل في الوضع العربي والإسلامي وليس في التسليم له تسليماً يضيّع القضية ويفتِك بها. فالمعادلة بين الحال الفلسطينية والحال العربيّة والإسلامية عضوية مباشرة حرباً وسلماً.
**** 


فلا أمل للفلسطينيين في مواجهة عدوّهم أو في معالجة قضيتهم، تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، إلا في تصحيح الخلل، أينما وجد، في الأوضاع العربية والإسلامية، وهو أمرٌ لا يعنيهم وحدهم فقط، ولا يخصّهم وحدهم، بل هو شأن حيوي يمسّ وجود الأمة ومستقبلها. ولهذا حين يردّون على كلّ سوءٍ في الأوضاع العربية والإسلامية، وعلى كلّ خللٍ في ميزان القوى بالاتجاه نحو المطالبة بالتصحيح والتغيير في تلك الأوضاع، يكون ردّهم هو الرد الصحيح والناجع. أما إذا جاء ردّهم انكفاءً على الذات، وقبولاً بما يمليه العدو، فإنهم يرتكبون الخطيئة الثقيلة بحقّ أنفسهم وحقّ قضيتهم وأمتهم، بل لن يعالجوا شيئاً أبداً؛ فما يفعلونه يكون محطة هدوءٍ خادع لانحدارٍ جديد ونكبة جديدة، وذلك قانون حتميّ ما دامت أوضاع الأمة لم تصلح ولم تصحّح وكان مسارها إلى قهقرى، وهنا يكون الانكفاء الفلسطيني على الذات الضعيفة والمريضة والممزقة ويكون القبول بشروط العدو للتسوية، المجحفة، والظالمة الكارثية، قد أسهما في زيادة الأوضاع العربية والإسلامية سوءاً، ودفعا مسارها إلى قهقرى وزادا في ميلان القوى في غير مصلحة الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
***** 


يمكن القول إن الدول العربية عموماً، وحتى مصر إلى حدّ ما، تواجه الآن حالة تناقض مع الموقف الرسمي الفلسطيني، وذلك على الرغم مما يقال في اتفاق أوسلو علناً. ويتلخّص جوهر المشكلة في قلقٍ عربي مشروع من الاتجاه الذي يمكن أن تأخذه العلاقات الفلسطينية – "الإسرائيلية" وفقاً لاتفاق أوسلو. وهنا تطرح إشكالية الولاء والمحاور، والتحالفات، فإذا كان الوضع الفلسطيني قد واجه في السابق الكثير من الإشكاليات والمشاكل المتعلّقة بالانحياز والولاء والمحاور والتحالفات في خضم التناقضات العربية – العربية، فإن اتفاق أوسلو أدخل الكيان "الإسرائيلي" طرفاً في جذب الوضع الفلسطيني إلى محوره.
**** 


إلا أنّ للشعب الفلسطيني سمتين ميّزتاه في عهد الاستعمار والغزو الصهيوني لبلاده: الأولى كانت ازدياد توتّر العداء في تكوينه ونفسيته وعقليته ضد الاستعمار والصهيونية أكثر من أيّ شعب عربي أو إسلاميّ آخر، وذلك بسبب تعرّضه المباشر للمعركة مع الصهيونية وما كلّفته من تضحيات ومشاقّ، وما أنزلت به من كوارث ونكبات، وقد أنمت هذه السمة في داخله تياراً جارفاً نحو الوحدة والتحرّر والتغيير على مستوى الأمة إذا أدرك منذ الوهلة الأولى أن معركته مع الصهيونية والإمبريالية العالمية يجب أن تكون معركة الأمة كلها، وإلا فلا مجال لخلاصٍ حقيقي أو لإنقاذ فلسطين.

أما السمة الثانية، فقد لحِق بالشعب الفلسطيني من الأذى الجسديّ والنفسي والمعيشي والأمني من بعض أشقائه العرب، ما لم يتعرّض له أيّ شعب آخر، والأهم أن قضية فلسطين عانت الكثير من التفريط الرسمي العربي أو التقصير في المعالجة والاهتمام، وأحياناً التواطؤ من لدن البعض.
وجاء اتفاق أوسلو متصادماً تماماً مع السمة الأولى كما مع السمات العامة المشتركة كذلك، ولكنه جاء ليضرب على وتر السمة الثانية في محاولة لإثارة العصبيّة الفلسطينية ضد العرب حتى يسحب قوة الدفع من السمة الأولى؛ فقد كان الشعب الفلسطيني طوال تاريخه الحديث يعضّ على جوارحه ليوجّه كلّ الجهود، بل كلّ البنادق ضد العدو الصهيوني، وإذا توقّف أمام السمة الثانية، فما كان يفعل ذلك ليرتد عن عروبته وإسلامه، ولكن ليطلب التغيير في الداخل العربي ليستقيم أمر الأمة؛ فالجراح ما كانت لتدفعه إلى فقدان الاتجاه الصحيح، أو التخلي عن سماته المكونة الأساسية.
***** 


إن من ينظر إلى وجه رابين ويراقب تحرّكاته في أثناء مراسيم توقيع الاتفاق، يستطيع أن يلاحظ درجةً من الامتعاض، وهو امتعاضٌ لم ينبع من تحفّظٍ على الاتفاق، بل من تسليط الأضواء على بيريز منافسه ووزير خارجيته، الذي كان مبعداً رسمياً عن الإشراف على مفاوضات واشنطن. بل إن خطورة ما حمله الاتفاق من تنازلاتٍ فلسطينية مذهلة للكيان "الإسرائيلي"، هي التي جعلت رابين يتخطّى امتعاضه من بروز بيريز ودوره في الاتفاق، ويقبل بإمراره، ولعلّ في إبعاد بيريز عن الإشراف المباشر عمليّاً على مفاوضات طابا، وفي تسلّم رابين الأمر بيده، ما يؤكّد ما ذهب التحليل إليه أعلاه، وهذا دليل أيضاً على أن صاحب اتفاق أوسلو (بيريز) هو طرفٌ ضعيف في المعادلة "الإسرائيلية"، بما في ذلك معادلة الحكومة "الإسرائيلية" الراهنة.
**** 


الذين لم يجِدوا في اتفاق أوسلو ميزة إيجابية واحدة يمكن أن تسجّل له، يستطيعون الآن أن يخرجوا من هذا الإطلاق ويسجّلوا له ميزة واحدة، وهي أنه أقلّ سوءاً من اتفاق القاهرة؛ فقد أزال الأخير بعض الغموض المتعلّق بالانسحاب من أريحا وقطاع غزة، أو بالسيطرة الأمنية على الحدود والطرقات والمعابر والمستوطنات وما يمكن أن يكون عليه حال الحكم الذاتي في اتفاق غزة - أريحا أولاً. وجاءت هذه الإزالة من خلال محو كلّ كلامٍ عن انسحابٍ للاحتلال ولو من قطاع غزة وأريحا، أو على قيام حكم ذاتي له السيادة، في الأقل، على الخروج والدخول منه وإليه، وذلك حتى لا يكون حاله حال معسكر اعتقال كبير.
**** 


على المرء أن يعجب من منطق الذين تفاءلوا بأن يكون اتفاق أوسلو، أو اتفاق غزة وأريحا للانسحاب "الإسرائيلي" من الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أنه مرحلة ستتلوها خطوة أخرى تفيض باستيراد الحقوق وتحقيق الأماني، ولو بنسبة الثلث أو الربع أو العشر؛ لأنّ كلّ المعطيات لا تسمح بمثل هذا المنطق أو تسمح بتصوّرهم جادين فيه. لكن على أيّ حال، إذا كان تفاؤلهم جاداً وصادقاً، فعليهم أن يراجعوا أنفسهم بعد اتفاق القاهرة، والأهم عليهم أن يتذكّروا أن كلّ الأسباب والعوامل الموضوعية والذاتية التي قادت إلى التراجع تلو التراجع، وصولاً إلى اتفاق أوسلو، قد زادها هذا الاتفاق تفاقماً وسلبية، ولن يفعل اتفاق القاهرة الجديد، أو ما سيتبعه من اتفاقات، فيها إلا تفاقماً في اتجاه التراجع والتقهقر. أما إذا كان ذلك التفاؤل غير جادّ، بل هدفاً إلى تسويق الاتفاق، فهذا أمرٌ لا يحتاج من جانبهم إلى إعادة تقويم، أو وقفة صدق مع النفس، بل إلى تجديده وإعادة إنتاجه لتسويق اتفاق القاهرة وملحقاته كذلك.
**** 


أكثر الذين أيّدوا اتفاق أوسلو أقاموا حجّتهم على أن الطرق جميعاً سدّت، ولم يبقَ من بديلٍ غير الموافقة على مثل هذا الاتفاق. وكان عندهم كلام كثير يقولونه في انهيار الوضع العربي، أو الاختلال في ميزان القوى العالمي والإقليمي في مصلحة أميركا والصهيونية والكيان "الإسرائيلي". أي إن القبول هنا بما حواه اتفاق أوسلو من شروطٍ يقوم على حالة من الاضطرار إلى حدّ انعدام الخيار الآخر، وإذا كان المدافع عن الاتفاق ممن امتلك في السابق خلفيّة فقهية أسند دعواه إلى قاعدة اختيار أهون الشرّين، أو قاعدة الضرورة التي تبيح للمسلم المضطر حتى أكل لحم الخنزير.

إلى هنا لا يجد المرء إلا أن يرثي للحالة التي وصل الوضع العربي والعالمي إليها، والأكثر لحالهم وسط هذا الاختلال المريع لميزان القوى. وإذا كان له أن يقيم الحجة المقابلة، فما عليه إلا أن يعيد صيغة تقدير الموقف ليثبت توافر البدائل الأخرى، أو ليؤكّد أنّ في الوضع العالمي والإقليمي عناصر كثيرة تسمح باختراق ما يبدو على السطح من اختلالٍ في ميزان القوى في مصلحة العدو، أو عليه أن يؤكّد الموقف المبدئي ويعلي من شأن روح التضحية والتمسك بالمثل والحق حتى في أسوأ حالات الاختلال في ميزان القوى.
**** 


****
ستثبت الأيام القادمة أن منظمة التحرير الفلسطينية أخطأت مرتين أساسيتين في إدارة الصراع: الأولى حين دخلت مشروع التسويّة، ولا سيما تحت شعار إقامة كيان فلسطيني - سلطة حكم ذاتي – دولة؛ لأنّ إقحام هذا الموضع قبل الانسحاب "الإسرائيلي" وتفكيك المستوطنات، وإنقاذ القدس، جعلته موضوع المساومة ، إن لم يكن على ثوابت وأساسيات تمسّ القضية الفلسطينية برمّتها ، ففي الأقل على حسابِ إنجاز دحر الاحتلال، وخصوصاً من القدس، وتصفية المستوطنات، ولا سيّما من القدس كذلك.

أما الخطأ الثاني، فالدخول في اتفاق أوسلو الذي مثّل هو وما استتبع من اتفاقات في القاهرة، صلحاً منفرداً أو القبول بالتعاطي الانفرادي بديلاً من وحدة الموقف التفاوضي العربي، وقد جاء هذا ناسفاً لخطّ ثابت طالما تبنّته م.ت.ف.، هو رفض الطريق الانفرادي والدعوة إلى وحدة الموقف. ولشدّ ما سمع الرئيس المصري السابق أنور السادات كلاماً جارحاً بسبب نهجه الانفرادي أو التفرّدي – ودعك من المحتوى!
هذان الخطآن تركا بصماتهما على اتفاق أوسلو، ومن ثمّ اتفاق القاهرة الأول والثاني (الآتي)، واتفاق باريس الاقتصادي (الآتي كما يبدو كذلك)، وسيظهر هذا بصورة أوضح ، إذا ما أقيم الحكم الذاتي وفقاً لشروط الاتفاقات المذكورة.
فهو حكمٌ يستمد أمنه من حماية الجيش "الإسرائيلي"، ولا يبالغ المرء إن رآه أشبه ما يكون بمعسكر اعتقالٍ محاطٍ بالأسلاك الشائكة، وبروج المراقبة وحواجز التفتيش تقام كلّما اقتضت الضرورة، أما المعتقِلون فمسؤولون عن أمنهم الداخلي، ومعاشه ، وما يحتاجونه من خدمات.
وهو حكمٌ يرتبط اقتصاده باقتصاد العدو إلى حدّ بعيد، إن لم يكن المسار لا سمح الله، اندماجاً كاملاً وسيكون اندماج تبعية لا شراكة‍!
وهو حكمٌ لا يستطيع أن يتمتّع بحقٍ سياسي أو قانوني أو اقتصادي أو أمني أو ثقافي إلا من خلال التفاوض مع قادة الاحتلال "الإسرائيلي" وموافقتهم. وهذا ما كشفته مفاوضات طابا والقاهرة وباريس – وما أشير إليه، صراحةً، في اتفاق أوسلو. أي هو حكمٌ يفتقر إلى أدنى معاني السيادة التي تمتّع بها أي حكمٍ ذاتي معروف حتى لو كان هزيلاً و شكلياً.
والخلاصة، أنّ أهل الحكم الذاتي الفلسطيني سيترحّمون في غدٍ على ما كانوا يبكون منه اليوم وأمس، ولا منقِذ إلا بالعودة إلى الثوابت والأساسيات لا من حيث الحقوق والمبادئ فحسب، بل أيضاً من حيث إدارة الصراع وتحديد الأولويات.
*****