مجلة العودة

مشاهدات النكبة حاضرة في عقول الفلسطينيين رغم طول السنين

مشاهدات النكبة حاضرة في عقول الفلسطينيين رغم طول السنين


العودة - عمان


خمسة وستون عاماً على نكبة فلسطين، وما زال اللجوء السمة الغالبة على مجريات القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، إلى جانب قضايا أخرى ترتبط بمصير الأرض ومدينة القدس والحدود وحتى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجّروا منها عام 1948.
ولما كان اللجوء القسري للفلسطينيين من أرضهم بفعل آلة الإجرام الصهيونية عاملاً رئيسياً في رسم ملامح القضية الفلسطينية، كانت دول الجوار الحاضن الأبرز للمهجرين من ديارهم، لأنها على مقربة من الوطن السليب، لذلك كان الأردن البلد الأكثر استيعاباً للاجئين الفلسطينيين مقارنة بدول الطوق، لبنان وسوريا ومصر.
لم تكن سنوات عمر الحاجة نعسة خالد (أم علي) لتتمكن من تغييب ذكرى النكبة عن مخيلتها لدى خروجها من بلدتها دير طريف هي وأخواتها الثلاث، وتذكر التهجير والأوضاع المأسوية، التي مرّ بها اللاجئون الفلسطينيون، أثناء إخراجهم من أرضهم.
تحافظ أم علي على ثوبها الفلسطيني وإلى جانبه مفتاح بيت والدها الذي ورثته عنه، وأمسى أمانة تتناقلها الأجيال القادمة من أبنائها وأحفادها.
عندما تروي الحاجة أم علي قصة خروجها من دير طريف، تستحضر ذاكرة المكان، عندما كانت في ربيع العمــر، تعمل على التعلم من والدتها، ولا شي غير الحياة بكل سكون وهدوء.
تقول أم علي: "أنا من دير طريف، أخذنا المختار إلى شقبا، بعد أن خرج أهلنا، وابتعدنا عن أهلنا أسبوعاً، وأخذونا إلى بلد على كفر ثلث قضاء نابلس، ونحن خارجون استشهدت ابنة خالتي وبقيت تحت ضوء الشمس حتى حاول أخي وأصدقاؤه جلب الجثث ودفنها في قبيا".
وتضيف: "حتى إن الجثث التي بقيت في الشوارع أثناء التهجير لم تسلم من إطلاق الرصاص؛ فقد كان كثيفاً". وتتحدث عن خروج أهلها من قريتهم إلى دير ثلث، ومن ثم إلى دير عمار، وصولاً إلى عمان في مخيم وادي السير، ثم إلى مخيم الوحدات إلى اليوم.
وتختتم الحاجة أم علي وهي تتوسط أحفادها وأبناءها: "عندما خرج والدي من اللد، نسي مفتاح البيت، ورجع من بيت نبالا إلى بيت طريف لأخذ المفتاح".
المفتاح بقي أمانة في عنق أم علي، وقد طالبها والدها بالحفاظ عليه هي وأخواتها الثلاث، وأوصاها إن لم تستطع العودة إلى اللد بأن توصل المفتاح إلى أحفادها حتى عودة أرض فلسطين، وكما تقول: "ولا أغلى من الوطن إلا الوطن".
ورغم قسوة فقدان الوطن على الفلسطينيين ومرارة العيش بعيداً عن ثراه، إلا أن فلسطين ما زالت تسكن قلوب وعقولهم اللاجئين في دول الشتات، ومنها الأردن الذي وجد فيه اللاجئ الفلسطيني ملاذا آمناً ومستقراَ لا يغنيه عن التشبث بحق العودة إلى دياره، والتشديد دائماً على رفض فكرة الوطن البديل التي يروج لها الكيان الصهيوني وجهات دولية من فترة إلى أخرى.
ويحتفظ اللاجئون الفلسطينيون في الأردن بمفاتيح بيوتهم التي هجروا منها ويعلقون على جدرانها الداخلية خريطة الوطن الفلسطيني، انطلاقاً من إيمانهم بحتمية العودة إلى أرض رحلوا عنها قسراً تحت وطأة الإرهاب الصهيوني وإجرام عصابات "الهاغانا" و"الشتيرن" و"الأرغون".
"مؤامرة دولية على الشعب الفلسطيني". بكل اختصار يتحدث الحاج أبو محمود في مخيم البقعة عن ضياع أرضهم، وتهجير الناس من أرضهم.
وكما لكل فلسطيني هُجِّر من أرضه حكاية حافظ على روايتها، رغم طول السنين، ولا تزال فصولها تتوالى بعد خمسة وستين عاماً... أبو محمود لاجئ من مدينة يافا يقطن وسط مخيم البقعة، ومع سكنه في أكبر المخيمات الفلسطينية، كل يوم يعيش حياة التهجير بكل تفاصيلها، ورغم سنوات عمره التي تجاوزت الثمانين، إلا انه ما زال محتفظاً بالحنين إلى يافا، وخاصة بعد تمكنه من زيارتها عدة مرات، عاملاً لا صاحبَ أرض.
أبو محمود يرى أن النكبة لم تبدأ بتاريخ الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، بل قبل ذلك هاجمت "عصابات صهيونية" قرى وبلدات فلسطينية بهدف إبادتها أو دب الذعر في سكان المناطق المجاورة بهدف تسهيل تهجير سكانها لاحقاً ونجحت في ذلك.
وقال أبو محمد: "حتى عندما رجعت عاملاً من العمّال داخل الخط الأخضر، قبّلت تراب يافا رغم أني لم ارجع كمواطن لها، وسرت في شوارعها وتذكرت أنوار الشوارع التي كانت تنار بالشمع في المساء ويطفئونها في الصباح والصحف التي كانت تصدر وتجمع سكان المدينة حول من يستطيع قراءتها"، مضيفاً أنه لن يقبل أي تعويض بدلاً منها. وأكد توريث مفتاح البيت وأوراق الأرض في يافا لأحفاده، آملاً الرجوع إلى يافا كمواطنين وأصحاب حق.
الحاج عبد الفتاح زايد يعود بذاكرته إلى بلدة الدوايمة في قضاء الخليل، التي هُجِّر منها هو وعائلته قسراً عام 1948، ليتنقلوا بين الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات.
ولا تقتصر معاناة الشيخ الفلسطيني - وقد طرق أبواب الثمانين - على آلام اللجوء، بل يبدي قلقاً كبيراً على مصير اللاجئين وحقهم في العودة، مشيراً بإصبع الاتهام إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي قال إنها أوقفت كثيراً من برامجها الإنسانية إزاء اللاجئين.
ويحيي الفلسطينيون بعد أيام الذكرى السنوية الخامسة والستين للنكبة التي حلت بهم، وشرد على أثرها مئات الآلاف، وقتل آلاف آخرون، لتقوم على أنقاض معاناتهم وقراهم دولة باسم إسرائيل.
يقول الحاج أبو أحمد إنه لم يكن يتجاوز الثانية عشرة من عمره يوم النكبة عام 1948، مضيفاً أن أصعب محطات اللجوء بعد الترحيل وما رافق ذلك من مجازر وقتل، كانت في البداية، وخاصة في السنوات ما بين 1949 و1952.
ويضيف أنه هُجِّر مع عائلته بالقوة، تاركاً خيرات بلدته وآلاف الدونمات من الأراضي، حيث استقبلتهم مخيمات وكالة الغوث بخيام وخدمات متدنية، لم تقهم برد الشتاء.
ويقول إنه عاش قبيل الهجرة سنوات رخاء في كنف والده، الذي كان واحداً من كبار تجار اللحوم في الدوايمة، ومن ثم انتقل إلى بلدة دورا غرب الخليل، حيث استقر به المقام، وهو يمارس نفس مهنة والده، دون أن ينسى مسقط رأسه.
ورغم صغر سنه في حينه، يستذكر سوق البلدة التي كانت مركزاً لتجمع التجار من مدينتي الخليل وغزة، وملتقى لبائعي خيرات البلاد من حمضيات وخضار وغيرها. ولا يزال يحتفظ في ملحمته بخريطة تتضمن معلومات عن بلدة الدوايمة.
ويقول إن اللجوء صعب وقاسٍ، ولم يعد يقتصر اليوم على أولئك الذين أجبروا على الهجرة عام 1948 وسكنوا في تجمعات خصصتها لهم وكالة الغوث، بل اتسع ليطاول كل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين أصبحوا يعيشون في حصار وسجون كبيرة، ومدن تحولت إلى مخيمات كبيرة لها بوابات يغلقها الاحتلال متى شاء.
ويؤكد أنه لا يوجد أغلى من الوطن، وأنه ينقل رسالته إلى أبنائه وأحفاده بأن الفرج قريب، والعودة حتمية رغم الصعوبات، وقساوة الظروف، التي قال إنها ستزداد خلال الفترة القادمة "وحينها سيتعرفون إلى أرضهم، التي حُرموها وحُرموا معرفة معالمها".
وفي ظل الواقع المرير، يشعر الحاج أبو أحمد بالإحباط وعدم التفاؤل، ويعبّر عن قلقه من نسيان الكثيرين حق العودة وتجاهله، ليس من قبل غير اللاجئين، فحسب، بل من اللاجئين أنفسهم في بعض الأحيان.
وأضاف أنه منذ عام 48 وهو يسمع الكلام والوعود. وما كان يحصل عليه من الوكالة لم يعد موجوداً اليوم. وهاجم الوكالة، قائلاً إن خدماتها الإنسانية والصحية تراجعت، ما يوحي بدورها في شطب حق العودة، مطالباً إياها باستعادة دورها المحافظ على حق اللاجئين.
ورغم حالة الإحباط التي يشعر بها، يتمسك الحاج أبو أحمد بحق العودة، قائلاً إنه رغم "المؤامرات" لشطب حق العودة من القاموس الفلسطيني، لن يتخلى عنه. ولو ملك الدنيا كلها، فلن يقبلها بديلاً من مجرد سقيفة في بلاده.♦