مجلة العودة

عشرون عاماً على أوسلو.. والعودة لم تتحقق

عشرون عاماً على أوسلو.. والعودة لم تتحقق


جنين/ زيد أبو عرة


مفتاح قديم معلَّق بسلسلة حديدية قديمة أكل منها الزمن ما أكل، وشيخ طاعن بالسنّ يحمله بجانب مجموعة أوراق تثبت حقه في أرضه المسلوبة. ذلك المشهد طبع في مخيلة كل فلسطيني أينما كان، وبمجرد أن تراه يتبادر إلى ذهنك دون تردد "حق العودة".
لن تمرّ حينها إلا بعد أن تسترجع ذاكرتُك مشهدَ ذلك الفلسطيني الذي لم يعد يملك سوى مفتاح من مجمل إرث كبير تركه خلفه قبل ستة عقود، وكل ما في فكره من أسئلة يدور حول مصير بيته وأرضه، هل كُسِر الباب ولن يصلح مفتاحي بعد اليوم؟ هل هدم البيت وبُني مكانه كنيس لمتطرفين حاقدين، أو ملهى لزبانيته المارقين، أو قد يكون بيتاً سكنه غريب جيء به من الشرق أو الغرب؟
هي حكاية أمل وأمنيات، تورث من جيل لآخر، فبعد غياب جيل النكبة ورحيل معظمهم إلى جوار ربهم، ما زال الأمل معلقاً بأبنائهم وأحفادهم، علّهم يوماً يعودون إلى أرضهم حتى لو عاشوا في ظل شجرة زرعها الجد وتحتها استشهد الابن مدافعاً عنها، ساقياً لها دمه، وذرف الحفيد تحتها ولها دموع عشق أزلي لم يخبُ يوماً.
تمسّك بالحق
لكن، بعد أن أكد الفلسطينيون تمسكهم بحقهم في العودة إلى أرضهم، أجبروا العالم كله على أن ينظر إلى معاناتهم، وأن تصبح قضيتهم من القضايا التي تؤرق أصحاب القرار، بدءاً من الفلسطينيين أنفسهم، مروراً بالدول المستضيفة للاجئين، ولا تنتهي عند كيان الاحتلال الصهيوني أو "الولايات المتحدة الأميركية" وباقي دول العالم التي تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، باعتبار أنّ استمرار وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين يقضّ مضاجعهم، فما كانت تحسبه "إسرائيل" أنها تهجّر الفلسطيني من أرضه، ومع مرور الوقت يقبل بوطن بديل أو توطين في أي مكان بعيد عن وطنه فلسطين، وأنه سينسى حقه بالعودة. إلا أنّ كل تلك الحسابات الاستعمارية لم تكن دقيقة، فكانت رياح الفلسطيني بما لا تشتهيه سفن المغتصب؛ فهذا الفلسطيني، لاجئاً كان أو نازحاً أو لا هذا ولا ذلك في كل محفل من محافل الدول، وأينما استطاع، كان يدق ناقوس الخطر في المخيمات، وأنّ هناك شعباً يرفض الاستسلام، ولم يكن في معتقدات كل فلسطيني حر أن الحق يمكن أن يموت بالتقادم.
ومع مرور الزمن، وتقادم الوقت على إقامة الكيان الصهيوني المسمى "إسرائيل" على أرض فلسطين، بدأت متغيرات تغزو الحركات النضالية الفلسطينية، وعلى رأسها في ذلك الوقت منظمة التحرير الفلسطينية، التي بدأت تبحث عن حلول أخرى غير الحل العسكري، وبعد عدة نكسات خاضتها في أشهرها الأردن ولبنان، ثم توجهها إلى تونس قبل العودة بعد اتفاق أوسلو، وما سبقه من تمهيدات من طريق الدول العربية ومن طريق قادة المنظمة.
 وكان التوجه الفعلي للمفاوضات، وبشكل سري عام 1978، أي في العام الذي وقّع فيه أنور السادات مع مناحيم بيغن اتفاقية كامب ديفيد، وكأن التوجه الفلسطيني ليس وحده الذي ذهب إلى المفاوضات، بل كان بغطاء عربي ودولي وبضغط لتغيير معالم القضية الفلسطينية، وكان لـ"إسرائيل" ذلك من خلال التخلي عن مسؤولياته تجاه الفلسطينيين الذين تسلمت أمور حياتهم بعد توقيع اتفاقية أوسلو بتاريخ 13 سبتمبر 1993م، وسمي الاتفاق نسبة إلى مدينة أوسلو النرويجية التي جرت فيها المحادثات السرّية عام 1991 أفرزت هذا الاتفاق في ما عرف بمؤتمر مدريد.
20 عاماً.. دون إنجاز
بعد مرور 20 عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، ما زالت النقاط الأساسية كالاستيطان والقدس واللاجئين تراوح مكانها، وفي كل جولة من جولات المفاوضات تؤجَّل هذه القضايا إلى مفاوضات الحل النهائي التي يبدو أنّ الوصول إلى هذه المرحلة "كحلم إبليس في دخول الجنة"، هذا ما قاله الحاج أبو نضال (67 عاماً) لاجئ يسكن في مخيم الفارعة شمال الضفة الغربية، مضيفاً في حديثه لـ"العودة": "كيف لنا أن نحلم بأن نعود و"إسرائيل" موجودة؟"، وتابع: "أن يكون هناك عودة للفلسطينيين إلى أرضهم وإسرائيل قائمة مثل الذي يريد أن يجمع النار والماء معاً ولا يريد للنار أن تنطفئ أو الماء يبقى كما هو".
وأكد الحاج سعيد الصالح (73 عاماً) من مخيم جنين ذلك، مضيفاً: "عندما خرجنا من أرضنا خرجنا بالقوة والتخويف والإرهاب الشديد من الذي فعلوها بالقرى المجاورة، وكل فكرنا أننا سنخرج أياماً قليلة ونعود، كان خطأنا أننا خرجنا وصدقنا من خدعونا في هذا الكلام، واليوم تأتي المنظمة وتعلن بصراحة أنه ما في عودة إلا بشكل بسيط، أو من طريق المفاوضات، لكن أنا وكل أولادي وأحفادي نقول إحنا خرجنا بالقوة من أرضنا، وما برجعنا غير القوة".
وعن اتفاقية أوسلو والعودة، يرى أبو نضال أن حال المخيمات الفلسطينية في كل أماكن وجودها لم تتحسن ظروف معيشتها، وقال لـ"العودة": "ما تغير علينا شيء نحن في المخيمات، إلا بعض فرص عمل التي قدموها للبعض، وصار عندنا حكومة ووزارات، بعدها أعلنوها دولة وصار عندنا دولة مراقب بالأمم المتحدة".
وأضاف ساخراً: "سنرى قريباً إلى أين ممكن أن توصلنا مفاوضاتهم وكيف سيحققون عودتنا، والظاهر أنهم سيذهبون بنا للجزيرة العربية، وتكون عودتنا تاريخية".
ومن جهته، الحاج سعيد قال: "دعوهم ليجربوا حظهم في الحياة، رغم أنها واضحة، من عشرين سنة لليوم، وصدق المثل الذي قال: "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي"، "وبكرا بذوب الثلج وببان المرج"، عليهم أن يعرفوا وعلى الشعب الفلسطيني كله أن يدرك أننا لن نعود إلا عندما نخرجهم بالقوة".
في المقابل، علق الشاب محمود الحسن (28 عاماً) على مرور عشرين عاماً على اتفاقية أوسلو قائلاً: "اليوم في عندنا واقع، لا نستطيع تغييره بسهولة، ومضطرون أن نتعايش معه، وعبر عشرين سنة من وجود السلطة على الأراضي الفلسطينية لم تقدم أي جديد بالنسبة إلينا في قضية العودة، لكن كل ما قدموه للاجئين والمخيمات هو مشاريع خدماتية، ووظائف وفرص عمل هنا وهناك، ورغم ذلك فقد فشلوا في تقديم الخدمة الحقيقية التي تتناسب ووضع المخيمات الفلسطينية، وأوسلو وباريس وكل اتفاقيات العالم لا تمنع أصحاب القرار من الاهتمام بأساسيات المعيشة للفلسطينيين، لكن الموضوع هو فسادهم وقلة حيلتهم، أو بالأحرى غباؤهم وعدم أحقيتهم بقيادة الشعب الفلسطيني".
أما عبد الرحمن (32 عاماً) من مخيم جنين، فقال لـ"العودة" إنه يرى في هذه المفاوضات أنها مفاوضات عبثية، وأنها قد مرت عشرون عاماً عليها والقضايا الرئيسية التي يجب نقاشها ما زالت في الصفر إن لم تعد للوراء أكثر. ويضيف: "نحن حملنا أعباءً كان الاحتلال يتحملها نتيجة احتلاله لأرضنا، واليوم أخذنا جزءاً من الأرض دون أدنى سيطرة عليه؛ فلا ماء ولا هواء ولا حدود، وهذه الأرض تقطعها المستوطنات والحواجز الإسرائيلية، والعالم كله صار يحسب أنه قامت لنا دولة وانتهت كل المآسي، لكن الحقيقة المرة أنّ كل ثوابتنا أصبحت أحلاماً فقط، وكلمات القادة لإثارة حماسة الجماهير، يتحدثون عن العودة، لكن الواقع يتحدث بعكس ما يدعون، هم اكتفوا ببطاقات الـ"VIP" التي حصلوا عليها، والمناصب الرفيعة والكراسي المزخرفة، واعتبروا ذلك إنجازاً وطنياً، لكن الواقع يقول إنه إنجاز شخصي، وهم يحاولون الدفاع عنه بكل قوتهم بغض النظر عن القضية".
20 عاماً أنتجت دولة!
لكن في المقابل، كان لأحمد دويكات (30 عاماً) رأي مخالف، حيث قال: "استطعنا اليوم أن نثبت للعالم أننا قادرون على فعل أي شيء، وأننا استرجعنا جزءاً من أرضنا من بين براثنهم، واليوم أخذنا الدولة بعد كل عناء"، وأضاف: "نحن نشدّ على أيدي قادة فلسطين، وعلى رأسهم محمود عباس، ونحن معه في أي إنجاز يقدمه لدولتنا. اليوم أصبح لفلسطين صوت مدوٍّ يصل إلى كل أرجاء العالم، ويعترف به الجميع، ولا أحد يستطيع أن ينكره. أصبح له وجود على الساحة السياسية الدولية رغماً عن أميركا وإسرائيل".
واختلفت رسائل من قابلتهم "العودة"، ووجهوها إلى من يقودون المفاوضات مع الاحتلال، ومن كانوا في يوم من الأيام مهندسي "أوسلو" وعملية السلام.
فمنهم من رأى أنه يجب عليه المواصلة في المفاوضات لتحقيق شيء ما، فيما يرى آخرون أنه إذا واصلت السلطة المفاوضات، فعليها إيجاد أوراق قوة تواجه بها المحتل؛ فمن دون ذلك هو كمن يذهب إلى المعركة بلا سلاح ومؤونة، وهذا ما فعله المفاوض الفلسطيني عبر 20 سنة من المفاوضات سبقتها 15 سنة غيرها من مفاوضات سرية وعلنية حتى وُقّع اتفاق أوسلو. في المقابل، رأى بعضهم أنه يجب على المفاوض الفلسطيني اليوم التوقف عن المفاوضات والعودة إلى حضن الشعب الفلسطيني وسط رؤية تعتمد في نضالها ضد المحتل على القوة والمقاومة، وأن لا يكون هناك جلوس مباشر مع المحتل إلا إذا كانت القوة والقدرة موجودة، ويستطيع فرض ما يريد على طاولة المفاوضات، فلا مشكلة في المفاوضات، لكن المشكلة في كيف نذهب للمفاوضات.