مجلة العودة

ناجي علوش: الساعون وراء التسوية يدفون إلى تأبين النكبة

على الكاتب والمثقف أن يكتب بالدم لفلسطين
ناجي علوش: الساعون وراء التسوية يهدفون إلى تأبين النكبة

تامر الصمادي/ عمان

أكد المناضل الفلسطيني ناجي علوش أن العودة تعني شطب مفهوم النكبة من الوجود، ولن يشطب مفهوم النكبة إلا بالعودة المنشودة، فهي الحل الوحيد الذي سيُنهي موضوع النكبة، وإذا لم تحصل العودة كما يقول فإن نكبة الفلسطيني المشرد ستظل قائمة، مشدداً على أن كل من يتحدث عن حلول لا تسمن ولا تغني من جوع يهدف إلى تأبين النكبة.


«العودة» زارت علوش في منزله الموجود في العاصمة عمان ودار معه في حوار عميق، تناول كعادته المفاصل المهمة من القضية الفلسطينية، مؤكداً الثوابت الفلسطينية وداخلاً في التفاصيل الحساسة للقضية ومسيرتها.

ولأنها شهادة للتاريخ، ووثيقة للمستقبل، ننشر الحوار كما هو دون التدخل في مضامينه التي تعبّر عن مواقف علوش ذي التاريخ النضالي المعروف ورأيه في هذه المسائل، دون أن يكون الحوار معبّراً بالضرورة عن وجهة نظر المجلة.. وفي ما يلي نص المقابلة.

«العودة»: أين ولد الأستاذ ناجي علوش وكيف كانت نشأته؟

 
ولدت في قرية اسمها بيرزيت في الضفة الغربية، أما نشأتي فكانت كنشأة أي فلسطيني يعيش أجواء عائلة فلاحة، فقد نشأنا في الأرض وعلى حب التعلق بشجرها وبياراتها الجميلة، والدي كان فلاحاً أصيلاً يعمل مستشاراً زراعياً لكل القرية، وكل من يريد أن يعرف شيئاً عن الفلاحة والزراعة في ذلك الوقت كان يذهب لوالدي كي يستشيره.
 
«العودة»: وكيف تفتحت عيناك على القضية الفلسطينية؟

تفتحت على القضية الفلسطينية منذ الصغر والفضل في ذلك يعود إلى والدي، فقد كان فلاحاً فقيراً، وكان ككل الفلاحين منخرطاً في صفوف الحركة الوطنية بقيادة الحاج أمين الحسيني عندما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية حركة نضالية بكل معنى الكلمة لا تعرف المراوغة. في أحد أيام 1948 استيقظت في الصباح فرأيت جماهير فلسطينية تتدفق من الغرب متجهة من يافا واللد والرملة، تساءلنا عن السبب ماذا حدث؟ فكان الرد: لقد سقطت يافا واللد والرملة وهؤلاء السكان هربوا من جحيم «إسرائيل». جاء قسم من هؤلاء وسكنوا في مدينتنا وأصبحنا نراهم صباحاً وظهراً ومساء ونعاين مأساتهم في كل يوم، كان قسم منهم يذهب إلى الأرض المحتلة ليعود ببعض أشيائه التي خبأها، فنقول فلان ذهب ولم يعد، وفلان ذهب ونجح في الغاية التي ذهب من أجلها، ليتحول هؤلاء في ما بعد إلى مقاومين وليسوا زائرين لبيوتهم فقط...

الحاج أمين في هذه الأثناء جعل بيرزيت مقر قيادته للجهاد المقدس، فكنا نلتقي كل يوم مع المقاتلين القدامى الذين جاؤوا من اليمن وليبيا والمغرب العربي، وكانت هذه بداية احتكاكي الفعلي مع الحركة الوطنية ومع المقاومة.

أذكر حينما كنت صغيراً أن هؤلاء المقاتلين كانوا يجلسون تحت شجرة كبيرة لوالدي، وهي شجرة خروب، كانت وارفة الظلال وكانوا في أوقات الظهيرة يجلسون هناك، كنت أحب أن أجلس معهم لأرى الأسلحة.. ولكي يحدثوني كيف جاؤوا مشياً على الأقدام من اليمن إلى فلسطين ليقاتلوا اليهود، أو كيف جاؤوا من المغرب العربي فأعجب من فعلهم.

«العودة»: في عام 48 هل قامت القيادات الفلسطينية والمفكرون الفلسطينيون بدورهم الوطني على أكمل وجه؟ وهل توقع الفلسطينيون أن تكون النكبة بهذا الحجم؟

لم تكن القيادات الفلسطينية في ذلك الحين واعية للخطر الصهيوني ولمدى الحقد الإمبريالي البريطاني، كانت القيادات تعتقد أنها تقوم بواجبها لكنها في الحقيقة لم تفعل ذلك، لأنها لم تُعدّ المدن والقرى للدفاع عن ذاتها جيداً، بينما كان العدو الصهيوني يُعدّ قوة هائلة لاكتساح المناطق الفلسطينية.

هذا الخلل كان يسهم فيه الوضع العربي الذي لم يكن مع الإعداد لمقاومة قادرة على صد العدو، ومن الأسباب التي درستها أنا في ما بعد، أن القيادة كانت تصنف الناس على أساس من هو معي أو من هو ضدي، فمن هو معها يصبح له دور ومن ليس معها لا يُعطى دوراً حتى لو كان كفوءاً أو وطنياً، وعلى هذا الأساس لم يكن الاستعداد كافياً للدفاع عن المدن. هل تعرف كيف سقطت يافا مثلاً، العدو بنى مدينة تل أبيب بالقرب منها، وكانت تل أبيب مدينة صهيونية بكل معنى الكلمة، وكان بها عدد كبير من السكان، وقد جهز العدو الصهيوني لها القوات كي تكون قادرة للدفاع عن نفسها، بينما يافا لم تكن محصنة ومستعدة. أذكر أن أهلها كانوا يرسلون باستمرار للقيادة الفلسطينية رسائل عاجلة مفادها «نحن بحاجة إلى مساعدة، نحن بحاجة إلى قادة..»، ثم نشأت لجنة في دمشق بقيادة ضابط عراقي أعتقد أنه الهاشمي وهو رجل وطني وجيد.

كان أهالي القرى الفلسطينية يتصلون بتلك اللجنة ويطلبون النجدة، وفي أحد الشهور العصيبة أرسلت نجدة ليافا ووصلت في وقت كانت المدينة ضمن ترتيبات قيادة الجهاد المقدس الخاضعة لقيادة أبو حسن سلامة بالإضافة إلى اللد والرملة. أذكر أيضاً أنه عندما وصلت القوات من دمشق لنجدة يافا قال لهم الحاج أبو حسن سلامة: «أنتم تحت قيادتي»، فاختلفوا. وعندما تأزّم الموقف قرر الحاج سلامة أن يذهب ليطمئن على اللد والرملة، فلحق به العدو الصهيوني بقنابل المورتر والهاون ليقتل في الطريق قبل أن يصل إلى اللد. أقول بكل وضوح إنه لو تيسر لنا في ما مضى قادة كأمثال بهجت أبو غربية في المدن الفلسطينية الأخرى لما سقطت، وللأسف فإن مدينة كالناصرة كان قائد المقاومة فيها أبو إبراهيم الكبير، وهو من القساميين الشجعان، سقطت بعد أن خصص لها فقط 500 مقاتل، في حين أن العدو الصهيوني جنّد لاقتحام المدينة ذاتها آلاف المقاتلين.

«العودة»: أستاذ ناجي عايشت النضال الفلسطيني منذ البداية، هل كانت الأهداف أحلاماً بعيدة ثم أصبحت واقعية في أيامنا هذه؟

في الحقيقة إن الأهداف لم تتغير.. الأهداف واحدة، لكن الشعب كان بريئاً من الألاعيب السياسية، لذلك كان هدف المقاتلين والقادة منذ البدء هو الدفاع عن كل فلسطين، لا أخذ جزء من فلسطين. عندما تطور الوعي كما هو في أيامنا، سيطرت نزعة فسيفسائية وأنا أسميها نزعة صغيرة انتهازية على بعض الفلسطينيين، فهم يريدون مكسباً بأي طريقة من الطرق، ولو كان هذا المكسب شبراً من الأرض!! أتذكر أحد لقاءات المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1974، حينها كان البعض يحاول كسب القضية عن طريق التنازل بالتكتيك، حيث قدموا فكرة النقاط العشر وهي النقاط التي استندت إليها كل فكرة التسوية، عندها وقفت أمام الجميع قائلاً: «إن العدو الصهيوني إذا وافق على التسوية وهو لن يوافق، فسوف يعطينا بلدية فلسطينية مقزمة لا تتوازى مع بلدية مدينة كبرى»، فوقف [الرئيس الراحل] ياسر عرفات آنذاك ورد عليّ بالقول: «هي كرخانة وأنا عايزها..!!»، فصفق له الحضور من الانتهازيين الذين جاؤوا للتصفيق».

القضية الفلسطينية برأيي كانت واضحة وشعبنا كان متمسكاً بها، أما قيادتنا غير الكفوءة فكانت تريد مكسباً صغيراً أو دنيئاً، ولذلك لم يتورع الرجل في أن يقول: «هي كرخانة وأنا عايزها». وأنا أؤكد أن أحلامناً دائماً كانت واقعية، ولكن تربية قياداتنا كانت تربية موظفين صغار يعملون في الأجهزة العربية، وكان يحلم الواحد منهم أن يكون مجرد موظف صغير، ولم يكن يحلم أن يكون قائداً شعبياً كبيراً، وللأسف ظلت هذه الفكرة مسيطرة حتى يومنا هذا..

«العودة»: متى بدأت البذور الأولى لمعارضتك منهج المنظمة في التعامل مع القضية ولماذا؟

بدأت معارضتي منذ أن انتسبت لحركة فتح بعد حزيران في عام 67، انتميت إلى الحركة وبدأت أقرأ بجدية نشرة كانوا يصدرونها تحت مسمى «فلسطيننا»، هذه المجلة كانت مليئة بالمؤشرات التي تؤكد أن أهدافها ليست الأهداف الحقيقية التي نطمح إليها. فقد طرحت علناً أن موضوع حركة فتح هو الضفة الغربية، والضفة الغربية ليست كل فلسطين طبعاً، فهي جزء منها، ونحن نريدها لكنها ليست كل فلسطين.

المهم في الموضوع أنني بدأت أشعر بأن هناك نفساً غير مستقيم، كان لدي فكرة من دراساتي وقراءاتي عن الثورة وكيف تقوم وكيف تقاتل، فاكتشفت أن التنظيم الذي كانوا يبنونه في فتح وفي غيرها من الفصائل ليس تنظيماً كفوءاً لقيادة ثورة حقيقية، قلت لهم مرة: «أنتم لا تصلحون لقيادة قطيع من الأغنام»، فالعمل لديهم كان عبارة عن تجميع ناس من مختلف الأشكال والألوان دون التدقيق في النوع، ودون الاهتمام بالتعبئة الفكرية والعقائدية، ومثل هذا التجميع برأيي لا يصلح للثورة ولمواجهة العدو، فالمواجهة بحاجة إلى نوعية.

من هنا بدأت حملة التعبئة نحو تطوير أطر المنظمة وإعادة بنائها على أسس أخرى غير الأسس المبنية عليها فغضبوا مني، وكلما استاؤوا مني كنت أزداد حراكاً في كشف العيوب. في ذلك الوقت أيضاً أنشأنا اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، فانتخبت أميناً عاماً لهم دون موافقة أحد من القيادة.

«العودة»: على سيرة اتحاد الكتاب، كيف تقوّم دوره في القضية الفلسطينية، وخصوصاً في مرحلة السبعينيات؟

في السبعينيات دحضنا سياسة التسوية والاستسلام، وابتدعنا شعاراً للاتحاد هو «بالدم نكتب لفلسطين»، وطرحنا على الكتّاب والقيادة أن الكاتب لا يقبل على نفسه أن يكون موظفاً ويكتب مقالاً لا أكثر ولا أقل. كنا نؤكد أن الكاتب هو من يكتب بالدم لفلسطين، كان هذا التأكيد يثير غضبهم، حتى أن قيادة [الرئيس الراحل ياسر] عرفات حينما قررنا عقد مؤتمر للاتحاد في تونس رفضت ذلك، مع العلم بأن القيادة التونسية وافقت، وهي تعلم أن بيننا وبينه خلافاً كبيراً. ذهبت إلى الجزائر لأفاوضهم على عقد المؤتمر فاعتقلوني وقرروا أن يرسلوني إلى مقرّه [مقرّ عرفات] في بيروت، ومع ذلك بقي شعار الاتحاد «بالدم نكتب لفلسطين» يقاوم التسوية ويحظى باحترام أكثر من أي فصيل فلسطيني.

«العودة»: برأيك هل ما زال للمثقف الفلسطيني والعربي دور في قيادة القضية الفلسطينية؟

طبعاً ما زال هناك دور كبير، لكن معظم المثقفين للأسف لم يقوموا بدورهم، باعتبار أن الأنظمة العربية تراجعت عن موقفها السابق، صحيح أن الأنظمة كانت قمعية، لكنها طالما اعترفت بأن القضية الفلسطينية قضية وطنية.

أذكر أنني زرت الكويت واستقبلني الشيخ سعد الذي توفي أخيراً، وعندما دخلت عليه قال لي: سألت عنك فقيل لي: إنك معارض للتسوية فهل هذا صحيح؟ قلت له: نعم، وأنا أؤكد لك أنه لا توجد تسوية، فالعدو الصهيوني الذي احتل الأرض والذي فرض سلطته عليها والذي جاء بالمهاجرين من الخارج، ليس مستعداً للتنازل عن شبر من الأرض، فرد عليّ بالقول: إذا كان هذا رأيك فأنا أؤيدك.

إنني أدعو جميع المثقفين إلى المزيد من الشجاعة وعدم الخوف كي يحافظوا على قداسة القضية الفلسطينية، وكي يمنعوا خط الخيانة أن يواصل مسيرته في إيصال القضية إلى التصفية.

«العودة»: كيف ترى الآن أفق القضية الفلسطينية وما هو الحل برأيك؟

اسمح لي.. أنا مناضل ولذلك يجب أن أكون متفائلاً، أنا على اقتناع بأن شعبنا قادر على تلمس المخاطر في الوقت المناسب، فبروز حماس في وقت معين من تاريخ القضية الفلسطينية يؤكد أن فتح شاخت وتحللت وأصبحت عبئاً على الثورة، وهنا انطلقت حماس، وهذا الشيء يجب أن نقدره جيداً. حماس والجهاد الإسلامي هما التجديد الحقيقي لروح الثورة، وهما القوة الجديدة القادرة على أن تضع الثورة في سياقها الطبيعي وفي الوقت المناسب. هذا الأمر جاء بعد أن تراجعت فتح، وبعد أن أصبحت قوة مترهلة وفاسدة. الانتفاضة التي قامت بها الجماهير الفلسطينية لرفع الحصار عن غزة تدلّ هي الأخرى على أن شعبنا يدرك كيف يقوم بالأعمال النضالية الضرورية في الوقت المناسب، وأنا متفائل جداً ببروز قوة شعبنا في مناسباتنا الأخرى القادمة. وأؤكد مرة أخرى أن كل شعبنا يجب أن يكون حماس، فهذا هو الطريق الذي سيقودنا بالاتجاه الصحيح.

«العودة»: أستاذ ناجي، يكثر الحديث هذه الأيام عن حل الدولتين والدولة اليهودية، كيف ترى هذه الدولة؟

أولاً إن كل ما ينتج من سياسة التسوية لا أعتبره شيئاً صحيحاً، وكل ما ينتج من فكرة النقاط العشر وأوسلو يجب أن يسقط، لأنه سيقود شعبنا إلى التهلكة ولا إلى التحرير. فكرة الدولتين هي إخراج لقضية الاعتراف الفلسطيني والعربي بالعدو الصهيوني تحت مسمى أن الفلسطينيين أخذوا حقهم بدويلة لهم، ولكن هذا لا يحل المشكلة، لأن العدو الصهيوني سيبقى عدواً للفلسطينيين وللعرب كافة.

هناك مشكلة يفكر فيها العدو الصهيوني، الأولى أن عدد سكان الوطن العربي بازدياد كل سنة، وبالتالي هناك مشكلة بشرية معقدة، فكيف سيواجه سبعة ملايين يهودي مئات الملايين من العرب على المدى البعيد، ثم كيف ستواجه بقعة صغيرة محاصرة وطناً عربياً كاملاً مساحته 14 مليون كلم مربع.

«العودة»: «النكبة والعودة»، هذان المصطلحان ماذا يعنيان للأستاذ ناجي علوش؟

العودة تعني شطب مفهوم النكبة من الوجود، ولن يشطب مفهوم النكبة إلا بالعودة، فهي الحل الوحيد الذي سينهي موضوع النكبة، وإذا لم تحصل العودة فالنكبة ستظل قائمة. ومن هذا المنطلق فإن كل الذين يتحدثون عن حلول لا تسمن ولا تغني من جوع، يهدفون إلى تأبين النكبة. إن بناءكم برجاً في غزة واصطحاب آلاف من اللاجئين لن يحقق العودة المنشودة، مع أن عودة أي فلسطيني إلى أرضه يجب أن تعتبر أمراً مهماً، ولكن أن تستبدل العودة بشيء رمزي فهذا أمر مرفوض. وإن تهجير شعب كامل لا يُحل بعملية رمزية من خلال بناء عشرة أبراج يسكنها 20 ألفاً من اللاجئين في غزة وفلسطين.

«العودة»: كلمة أخيرة؟

لست متفائلاً بأنني سأعيش طويلاً، فأنا مريض، ولكنني متمسك في المضي قدماً لأكمل أيامي الباقية من حياتي، كاشفاً لخيوط التسوية وخيوط التصفية.♦