مجلة العودة

استعادات:المكتبة الخالدية - تراث عريق وماضٍ أصيل

المكتبة الخالدية: تراث عريق وماضٍ أصيل

خليل الصمادي/دمشق

تقع المكتبة الخالدية في قلب مدينة القدس القديمة على مسافة مئة متر من الحرم الشريف من الناحية الجنوبية من طريق باب السلسلة، وتطل على البراق وعلى حيّ المغاربة.

أما آل الخالدي، منشئو هذا المعلم الحضاري، فيرجع نسبهم إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد، رضي الله عنه. وقد نبغ من هذه العائلة ثلة من العلماء والمفكرين على مدى العصور تنبهوا للخطر الصهيوني مبكراً منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل. كذلك كان كثير من رجال العائلة منارات يُهتدى بها، أقاموا المؤسسات العلمية والتربوية، وأهمها المكتبة الخالدية التي سنتحدث عنها.

الفكرة بدأت مبكرة

يذكر المؤرخ وليد بن أحمد سامح الخالدي أن نواة المكتبة الخالدية بدأت عام 1720م على يد محمد صنع الله الكبير، حيث سجّل وقفاً شرعياً صحيحاً بإنشاء مكتبة تكون دار علم لآل الخالدي. ويبدو أن هذه الكتب ظلت في مكان ما يستفيد منها بعض الخاصة والعامة ردحاً من الزمن. ومن الجدير أن نذكر شروط الواقف:

1. ألا يكون المستعير للكتاب متجوِّها "أي صاحب جاه" ولا ذا شوكة ولا من يعسر عليه الخلاص منه.

2. تكون المطالعة في المكتبة بحضور الناظر الذي يعيد الكتاب إلى مكانه.

3. تسمح الإعارة الخارجية بشرط وضع رهن يسترد عند رجوع الكتاب.

4. لا تزاد الإعارة على مدة شهر.

وبعد وفاة محمد صنع الله 1786م، ورث المهمة الابن الحامل الاسم نفسه، الذي كان له شغف بالكتب واقتنائها، فزاد المكتبة مخطوطات عديدة وقام بالمهمة خيرقيام، وقد عدل شروط الإعارة، فاختصر فترة الإعارة من شهر إلى ثلاثة أيام وألغى الرهن الذي فرضه والده على المستعيرين.

وتمر السنون ويتوارث الورثة كتب محمد صنع الله الكبير وابنه محمد صنع الله، وتتشتت في أحياء القدس العتيقة بين الورثة ومحبي الكتب من آل الخالدي وغيرهم، ويضاف إليها البعض وينقص من خزنها البعض، إلى أن قيض الله للعائلة رجل الفكر والسياسة روحي بن ياسين الخالدي الذي جمع المكتبة في مكان واحد بانتظار المبنى المرتقب، وذلك خلال عامي 1885 و 1886. يقول الحاج راغب بن نعمان "إن روحي همَّ بتأسيس مكتبة عمومية في القدس، لكن انشغاله في دار السعادة ــ أي إستانبول ــ لتحصيل العلوم حال دون ذلك، ولكنه أبقى الروحتنمو في عروق بني مخزوم"

مساعي الشيخ راغب الخالدي

وظلت الحال على ما هي عليه إلى عام 1899، حيث رغب الحاج راغب الخالدي في إحياء مشروع أجداده وجعله وقفاً عاماً، حيث استفاد من وصية أمه خديجة بنت الخالدي، التي أوقفت مبلغاً من المال ومبنى لعمارة دار للمكتبة تضم المخطوطات المتناثرة والمخبأة. وخديجة هذه يبدو أنها كانت غنية؛ فهي بنت موسى أفندي الخالدي، الذي كان قاضي عسكر الأناضول في عام1832.

وبالفعل، سرعان ما نفّذ الشيخ راغب الوصية، فبنى المكتبة وأودع فيها ما كان في حوزة أسرة الخالدي من مخطوطات وكتب جمعها جيلاً بعد جيل كل من محمد صنع الله الأب، والابن ومحمد علي، ويوسف ضياء باشا، والشيخ موسى شفيق، وروحي بك، وياسين وكثيرون غيرهم. وكان القصد من المكتبة أن تكون مكتبة عمومية لتعزيز نشر العلم وبعث الاهتمام بأمهات الكتب في العلوم الإسلامية وفي الموضوعات الحديثة.

وكان الافتتاح الرسمي عام 1900 م، وكان اتفاق بين أفراد أسرة الخالدي على أن من يتوفى منهم تنتقل مكتبته الخاصة إلى المكتبة الخالدية، واتفقوا على تعيين ناظر ومساعد له، نظراً إلى ازدياد روادها من آل الخالدي وغيرهم. ولما كثرت مصاريفها، أوقف الحاج راغب نصف ريع حمام العين للمكتبة.

تطور المكتبة

مرت المكتبة الخالدية منذ افتتاحها رسمياً وحتى يومنا هذا بعدة مراحل، أهمها:

المرحلة الأولى: 1900 ــ1917

تميزت هذه المرحلة بنموها وازدياد عدد كتبها؛ فقد أضيفت إليها خزائن الأسرة الخالدية بما تضم من نفائس المخطوطات والمطبوعات، فكان من يموت من بيت الخالدي ويملك مكتبة يوقفها للمكتبة الخالدية. وتمتاز هذه المرحلة باتساع المكتبة وكثرة روادها، ما اضطر الشيخ راغب إلى تعيين مساعد له، هو الشيخ خليل بن بدر الخالدي. وقد زار المكتبة في هذه المرحلة عدد من المستشرقين أمثال مرغوليوث، وقد وصل عدد المجلدات إلى ما يقرب 4000 مجلد. وقد وصل إلى القدس العلامة الشيخ طاهر الجزائري مؤسس المكتبة الظاهرة وصاحب الباع الطويل في عالم الكتب والمعرفة، وسرعان ما التحق بمكتبة الخالدي وعمل لها فهارس قيّمة بمساعدة محمد محمود الحبال البيروتي صاحب جريدة "ثمرات الفنون" الذي طلبه خصيصاً للفهرسة، بالتنسيق مع صديقه الشيخ راغب. وسرعان ما تمّت الفهرسة، وطبع كتيّب بالفهرسة عام 1900م بعنوان "برنامج المكتبة الخالدية العمومية".

المرحلة الثانية 1917 ــ 1948

وتمتاز هذه المرحلة بالاستقرار السياسي، ما انعكس ذلك على وضع المكتبة؛ فبعد أن اكتمل نموها وفهرستها، طارت شهرتها بالآفاق، فقصدها كثير من الزوارمن خارج فلسطين. فقد ذكرها محمد كرد علي في خطط الشام، وزارها من المستشرقين الفرنسي "ماسينوس" والألماني "كاله" والبريطاني "غب"، وعُيِّن أمين أنصاري في هذه المرحلة ليساعد الخالديين راغب وخليل، ووصل عدد الكتب وقتها إلى 6000 مجلد معظمها من المخطوطات القيمة. وبعد وفاة خليل، أخذ أحمد سامح الخالدي مهمة الإشراف عن والده راغب بسبب تقدمه بالسن، وبقي أحمد سامح مشرفاً على المكتبة حتى وقوع النكبة.

المرحلة الثالثة 1948 ــ 1967

تأثرت المكتبة الخالدية بالنكبة، وحلّ بها ما حلّ بالشعب الفلسطيني؛ فأسرة الخالدي المقدسية تشرّد كثير من أفرادها هنا وهناك داخل البلاد وخارجها، وتشردت معهم الكتب وتبعثرت هنا وهناك، فلم يعد هناك إضافات إلى المكتبة ممن يتوفى من أسرة الخالدي، كما هو متبع. وظل الشيخ الأنصاري قيماً على المكتبة، إلى أن توفاه الله في أوائل الخمسينيات وتسلم ابنه مهمات الوالد، إلا أن الإشراف عليها آل للدكتور حسين فخري الخالدي، ابن الحاج راغب، بالإضافة إلى عمله في رئاسة بلدية القدس. ولما توفي عام 1962، تولى ابنه عادل الإشراف، وبقي حتى وقوع النكسة؛ إذ حال الاحتلال الإسرائيلي دون دخوله القدس. وفي هذه المرحلة تعاقب عدد من افراد آل الخالدي على الاضطلاع بمهمة مُتولي المكتبة أو أمينها، ومنهم أحمد سامح، وحسين فخري، وعادل، وحيدر، وكامل. وأدى هؤلاء جميعاً دوراً هاماً في حفظ وصون التقليد الذي اتبعته الأسرة منذ أجيال في السير قدماً بالعلم، وبتطوير المكتبة وحمايتها في الوقت ذاته.

اتسم وضع المكتبة في تلك الفترة بالركود، لكن محتوياتها حُفظت بمساعي آل الخالدي ومحبي العلم والعرفة. وخلال تلك الفترة، توفي أعلام كبار من أسرة الخالدي، أمثال أحمد سامح الخالدي الذي نزح إلى لبنان، والشيخ راغب الخالدي الذي نزح إلى نابلس، وقد استولى الجيش الإسرائيلي على مكتبته الخاصة وضاع معظمها. وقد حرمت مكتبة الخالدي ما كان متبعاً وعرفاً بالنسبة إلى آل الخالدي

المرحلة الرابعة بعد نكبة 1967

بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967 جرت محاولات حثيثة من القوات الإسرائيلية وبعض المتطرفين للاستيلاء على المكتبة، أمثال الحاخام "شلومو غورين" الذي دأب جاهداً في احتلال المكتبة والمباني المجاورة لها، إلا أن المفكرين من أسرة الخالدي فتحوا معركة قضائية مع المتطرفين، وبعد سنوات عديدة وبمساعي بعض المستشرقين أمثال المستشرق أمنون كوهين وعالم الآثار دان باهَت، وبعض أثرياء العرب، كسبت أسرة الخالدي القضية، فرُمِّم المبنى وافتتح من جديد كمكتبة في سنة 1995، ورُمِّمت الكتب أيضاً، وأُدخلت أحدث الوسائل العصرية في صيانة الكتب وحفظها، وأُلِّفت لجان عالمية لدعم المكتبة، أهمها "جمعية أصدقاء المكتبة الخالدية"، وأصبحت السيدة هيفاء الخالدي مديرة المكتبة، وقد ناضلت نضال الأبطال في استعادة تراث آبائها وأجدادها. ولم ننس نضال الأستاذ وليد الخالدي ابن المربي أحمد سامح ودوره في المعارك القضائية وفي تأليف اللجان العربية والعالمية لدعم المكتبة.

دروس مستفادة

المتتبع لأخبار المكتبة الخالدية يستفيد من دروس عديدة أهمها:

للقدس مكانة ثقافية قديمة؛ فهي بحق العاصمة الأبدية للثقافة العربية. فأسرة الخالدي التي تكلمنا عليها مثال الأسرة العربية المثقفة، ناضلت من أجل أن تنشأ مكتبة للعامة يستفيد منها القاصي والداني، وربما كانت هذه الأسرة هي الأولى التي باشرت وحققت الفكرة التي لا شك في أنها من أروع الأفكار على الإطلاق.

ومن الدروس أيضاً، أن أسرة الخالدي بوقفيتها للمكتبة وبوصايا من يموت أن تنقل مكتبته إلى المبنى، لا شك في أن هذه الوصايا من أروع المعالم الحضارية؛ فقلما يوصي المرء بما يتعلق بشأن الثقافة، وعمل الأسرة هذا عمل ريادي سار على نهجهم الكثير من أهل العلم والمعرفة في القدس وغيرها. فمكتبة أسرة البديري ـ كما يذكر عارف العارف ـ من المكتبات التي سارت على نهج أسرة الخالدي، وقد أوقفها جد الأسرة الشيخ محمد البديري المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وأما آل النشاشيبي في القدس، فافتتحوا مركزاً ثقافياً سمي «دار إسعاف النشاشيبي للمخطوطات»، وقد عني بالمخطوطات التي كانت ملكاً لآل النشاشيبي والتي بلغ عددها أكثر من 700 مخطوط ما بين عثماني وعربي. وبفضل هذه السنّة الحميدة انتقلت العدوى المفيدة إلى حواضرالعالم الإسلامي، فنشأت مكتبات ومراكز موّلها أفراد لتخدم العامة. وقد انتشرت هذه السنّة في الخليج العربي بعد ثورة النفط، فبرزت أسماء لامعة أمثال عبد العزيز البابطين في الكويت والرياض وسلطان العويس في الإمارات العربية المتحدة. وأما في المغرب العربي، فبرز اسم الدكتور عبد الجليل التميمي الذي أنشأ مكتبة خاصة للعامة متخصصة بالدراسات العثمانية والموريسكية.