مجلة العودة

الشاعر محمد إقبال في القدس

الشاعر محمد إقبال في القدس

خليل الصمادي/ دمشق

Description: http://alawda-mag.net/assets/issue71/p-28.jpg-الزمان 7- ديسمبر/ كانون الأول 1931

-المكان: مدينة القدس الشريف
-
المناسبة: المؤتمر الإسلامي العام
الشاعر محمد إقبال، ومَنْ من المثقفين لا يعرف الشاعر العظيم؟ إنه فيلسوف الإسلام، الشاعر الذي أسس دولة باكستان قبل أن يراها، الشاعر الذي نبّه إلى الخطر الصهيوني قبل عام النكبة بعشرين عاماً!! الشاعر الذي حمل الهمّ الإسلامي من جاكرتا إلى تطوان، مروراً بالقدس ودمشق مع التفاتة تاريخية يعصرها الألم لما كانت عليه غرناطة وأخواتها قبل السقوط المريع.
لم ينسَ إقبال ما تتعرض له البلاد الإسلامية من استعمار ودسائس ومؤامرات، لذا نجده مدافعاً في شعره وخطبه السياسية ومواقفه عن حرية الشعوب ومستقبلها الذي ترضيه، ونجده في أكثر من مناسبة لا يلين أو يستكين. وذات مرة دعَتْه فرنسا إلى زيارة مُستعمَراتها في شمال أفريقيا - وكان آنذاك شخصيَّة إسلاميَّة عالميَّة يخطب الغرب وُدَّه - فرفَض ذلك، وذكَّر الفرنسيين بجرائمهم في الشام فقال: "إنَّ هذا ثمن بخس لإحراق دمشق".
ومنذ شعر إقبال بمكر اليهود في الاستيطان في فلسطين، عمل على عدة جبهات، أُولاها كشف الشخصية اليهودية الجشعة واستغلالها للمال من أجل السيطرة على العالم، وثانيتها حضور المؤتمرات والندوات التي تعزز صمود الشعب الفلسطيني، وثالثتها مقاومته الاحتلال بالكلمة الحرة الصادقة؛ ففي المجال الأول نراه قد انبرى في كشف الزيف اليهودي. ويقول مُشيراً إلى سيطَرِة اليهود على أوروبا: "انظروا، فمع هذه الرَّفاهية السائدة في الغرب والسيطرة والتجارة، إلا أنَّ القلوب قَلِقَةٌ في الصُّدور المظلِمة؛ فقد أمسَى الغربُ مُظلِماً بدخان الآلات والمصانع، ولم يعد ذلك الوادي الأيمن يَصلُح ليكون مصدراً للتجلِّي؛ فالحضارة الغربيَّة قد أوْشَكَتْ على الانهِيار، وهي في عمر الشباب، وبعدَها قد يتولَّى اليهود زِمام أمور الكنيسة".
ويتجلى هذا في شعره فيقول:
لاَ يَزَالُ الزَّمَانُ يَصْلَى بِنَارٍ
لَمْ تَزَلْ فِي حَشَاكَ دُونَ خُمُودِ
لاَ دَوَاءَ بِلَنْدَنٍ أَوْ جنوا
فَوَرِيدُ الْفِرْنِجْ بِكَفِّ اليَهُودِ
وَمِنَ الرِّقِّ لِلشُّعُوبِ نَجَاةٌ
قُوَّةُ الذَّاتِ وَازْدِهَارُ الْوُجُودِ

ويذكِّر اليهودَ بأنّ المسلمين فتحوا لهم أبوابهم وأكرموهم يوم لفظتهم الشعوب كافة لمكرهم ودهائهم، فيقول: "لقد كانت الدُّوَل كلُّها تستَذِلُّ اليهود وتضطهدهم، ولم يكونوا يجدون ملجأً سوى الدُّوَل الإسلاميَّة، ولم يَكتَفِ المُسلِمون بإيواء اليَهُود؛ بل أعطوهم مَراتِب عاليةً، ووَضعُوهم في مَناصِب ممتازة، وظَلَّ الأتراك يُعامِلونهم بِبالِغ التسامُح والإكرام، وسمحوا لهم بالبكاء بجانب جِدار البُراق في أوقاتٍ مُعيَّنة؛ لذلك اشتَهَر جِدار البراق بحائط المبكى في اصطِلاح اليهود، وموضع المسجد الأقصى بكامله وقفٌ لله - تعالىفي الشَّريعة الإسلاميَّة، ولا يجوز امتِلاكُه لأحدٍ إطلاقًا، فدعوى اليهود بامتِلاك جزءٍ من المسجد الأقصى باطلة وغير شرعيَّة من الناحية القانونيَّة والتاريخيَّة".
ومما قاله شعراً في هذا الاتجاه :
مَرْحَى لِحَانَاتِ الْفِرِنْجِ فَقَدْ
مُلِئَتْ بِهِنَّ زُجَاجهَا حَلَبُ
إِنْ فِي فِلَسْطِينَ الْيَهُودُ رَجَتْ
فَلَيَأْخُذَنْ إِسْبَانِيَا الْعَرَبُ
لِلْإِنْجِلِيزِ مَقَاصِدٌ خَفِيَتْ
مَا إنْ يُرَادُ الشَّهْدُ وَالرُّطَبُ
وبعد كشف الزيف الصهيوني نجده قد تنبه مبكراً للخطر المحدق؛ فبالرغم من أنَّه تُوُفِّي قبلَ النكبة بسنوات عديدة، إلا أنَّ له الفضل في التنبيه على أهمية الجهاد والاستشهاد على أرض فلسطين يقول - عليه رحمة الله -: "إنَّ المسلمين يُستَشهَدون في فلسطين، وتُقتَل نساؤهم وأطفالهم، وتُسفَك دِماؤهم في القدس التي فيها المسجد الأقصى الذي أُسرِي إليه بالرَّسول- صلَّى الله عليه وسلَّم".
لم يكتف إقبال بجهاد الكلمة والحرف والقصيدة والمقال، بل ترجم ذلك عملياً؛ فسرعان ما استجاب لدعوة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس في حضور المؤتمر الإسلامي الأول الذي عُقد في القدس برئاسة الحاج أمين الحسيني وحضور مندوبين عن 22 بلداً، وحضره علماء وشخصيات إسلامية كبرى مثل الشيخ محمد رشيد رضا، والزعيم الهندي شوكت علي، والزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي، ورئيس وزراء إيران السابق ضياء الدين الطبطبائي، والزعيم السوري شكري القوتلي… وغيرهم، وصدرت العديد من القرارات العملية كإنشاء جامعة إسلامية، وتأسيس شركة لإنقاذ الأراضي، وتشكيل لجان لفلسطين في مختلف البلدان بتحريم بيع الأرض لليهود، وتكفير من يرتكب ذلك، ثم قيامهم بحملة توعية كبرى في فلسطين وخارجها تنبه إلى خطر الهجرات اليهودية المدعومة من الاستعمار البريطاني.
وفي هذه المناسبة ألقى محمد إقبال كلمة، ومما جاء فيها: "على كل مسلم عندما يولد ويسمع كلمة لا إله إلا الله أن يقطع على نفسه العهد على إنقاذ الأقصى، وإنني أعتقد أن مستقبل الإسلام متوقف على مستقبل العرب، ومستقبل العرب متوقف على وحدة العرب؛ فإذا تمت وحدتهم علا شأن الإسلام والمسلمين".
لقد وعى المؤامرة مبكراً، لقد عرف أسّ المشكلة وخطرها على المسلمين، في وقت لم ينتبه فيه إلا النزر اليسير من المثقفين لخطورة الهجرة اليهودية ودعم الدول الغربية لها، في وقت كان يتباكى فيه أكثرُ المثقفين العرب وغيرهم المستفيدون من دعم الغرب على الهولوكوست بتأثير من اللوبي الصهيوني. وكما قلنا، وعى إقبال المؤامرة، وصدح بصوته يعلنها جهاراً نهاراً أنه مع الحق، مع الجهاد، مع العدالة، مع كشف الحقيقة، ويقول في هذا المجال: "إنَّ لمشكلة فلسطين أثراً كبيراً في نفوس المسلمين، وإنَّني أنا شخصياً لَمُستَعِدٌّ أن أذهَبَ إلى السجن لأمرٍ له تأثيرٌ على
الإسلام، فإنَّ وجود مركزٍ غربي على بوَّابة الشرق خطيرٌ جداً".
وقرب المسجد الأقصى تحرَّكت مَشاعِرُه، وكتَب قصيدةً كلها حرقةٌ وحرارة على أرض النبوَّات والمقدَّسات، فكان ممَّا قال فيها:
ترك سحاب الليل في السماء نتفاً حمراء وبنفسجيَّة
فارتَدَى جبل "إضم" حُلَلاً ملوَّنةً
وهَبَّ النَّسِيم عَلِيلاً بليلاً
وهفت أوراق النخيل مصقولة مغسولة بأمطار الليل
وأصبحت رمال "كاظمة" في نعومتها وصفائها حريراً
وما إن رجع إقبال إلى الهند، حتى انبرى للمخططات الصهيونية التي كانت مدعومة من الاستعمار البريطاني المسيطر على شبه القارة الهندية، ودعم التبرعات التي قام فيها المسلمون الهنود لدعم القدس، وقد لاقى من جرّاء ذلك المتاعب الكثيرة من قبل المحتل.
رحم الله إقبال وجعله في مستقر رحمته وحشره مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.