مجلة العودة

اتفاقية أوسلو.. رؤية قانونيةمغامرة خطيرة بحقوق شعب عظيم

اتفاقية أوسلو.. رؤية قانونية
مغامرة خطيرة بحقوق شعب عظيم

محمود حنفي/ بيروت


إن القانون الدولي الإنساني ليس مبادئ وقواعد أخلاقية يُؤمل تطبيقُها، لكنه مجموعة من القواعد القانونية التعاهدية والعرفية ذات الطبيعة الآمرة، التي تحاول الحفاظ على الإنسان قبل الحرب وخلالها وبعدها.
ويمكن القول، بصفة عامة، إن فكرة "النظام العام" من المفاهيم الثابتة في كل النظم القانونية الداخلية، بل إنه لا يتصور أن يخلو نظام قانوني متطور منها.
والقانون الدولي العام يعرف مثل هذا التقسيم – أيضاً – حيث يصنف الفقه الدولي القواعد الدولية إلى قسمين رئيسيين، هما:
القواعد الرضائية، وهي القواعد التي تفسّر قوتها الإلزامية بمبدأ (الملتزم عبد التزامه)، ذلك أنها تترك لشخص القانون الدولي حرية تحديد نطاق ممارسته لسيادته في علاقته بسيادة أخرى، أو منظمة دولية، وهذه القواعد يمكن تعديلها باتفاقات مخالفة. والقواعد الآمرة هي التي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها.
المادة الـ53  من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات المؤرخة في عام 1969 تنص على ما يأتي: "تعتبر باطلة كل معاهدة تتعارض مع حكم آمر من أحكام القانون الدولي العالمي التي لا يجوز الخروج عليها والتي لا يمكن تعديلها إلا بحكم جديد من أحكام القانون العالمي له الصفة ذاتها – ويعتبر لأغراض الاتفاق – أنّ حكم القانون الدولي آمر إذا قبلته وأقرته الجماعة الدولية للدول في مجموعها لوضعها حُكماً لا يجوز الإخلال به ولا يمكن تعديله إلا بحكم جديد من أحكام القانون الدولي يكون له الصفة ذاتها".
ويؤكد الفقه الدولي أن قواعد القانون الدولي الإنساني تندرج في طائفة القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها.
فالقواعد الواردة في اتفاقيات جنيف لسبب طبيعتها الآمرة تختلف عن القواعد الأخرى في القانون الدولي. ويعني ذلك أن تطبيق القانون الدولي الإنساني لا يخضع لأي شرط كان. فلا يجوز للدولة أن تعلق تطبيق الاتفاقية على قيام الطرف الآخر ببعض الأعمال، أو توافر ظروف معينة سياسية أو عسكرية بعيدة عن نصوص الاتفاقيات.

 ويتناول اتفاق أوسلو قضايا تُعَدّ من صميم القانون الدولي الإنساني، وبناءً عليه، إن أي مخالفة وردت في بند في اتفاقية أوسلو يخالف قواعد القانون الدولي الإنساني يعتبر باطلاً حكماً. والقراءة الأولية تشير بوضوح إلى أن العديد من بنود اتفاقية أوسلو يتعارض مع الحدود الدنيا من قواعد القانون الدولي الإنساني. كذلك إن طريقة التفاوض وتقسيم الملفات إلى مرحلي ونهائي أيضاً، يشكل انتقاصاً جديداً من حقوق الفلسطينيين.
المشكلات الخمس الكبرى التي تركت لمفاوضات الحل النهائي هي: اللاجئون، والمستوطنان، والمياه، والحدود، والقدس. إذا كان التفاوض على قضايا أقل من ذلك بكثير استمر لعشرين سنة، فما بالك بالقضايا الكبرى؟ والمعروف أن المفاوضات تبدأ بمناقشة القضايا الجوهرية كي تُحسَم منذ البداية. إن التكتيك الإسرائيلي بتأجيل القضايا الكبرى لمفاوضات النهائي يكشف خطورة التلاعب بحقوق الشعب الفلسطيني.

• قضية اللاجئين: الانتهاكات الإسرائيلية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، والعلاقة بين حق تقرير المصير وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وبين حق العودة والتعويض، ثم الهوية الفلسطينية بين حق العودة وإعادة التوطين، كلها عناوين مفرغة من مضامينها الحقيقية. قبل المفاوض الفلسطيني أقل بكثير مما كرسه له القانون الدولي، على الأقل ما تضمنه القرار 242  والقرار 194، وغيرهما من القرارات التي تعاملت مع القضية الفلسطينية كقضية شعب  بأكمله. واللاجئون الفلسطينيون تم تقسيمهم إلى فئات، والفئة المسموح لها بالعودة إليها (إن وافقت دولة الاحتلال  طبعاً) محدودة جداً ولا تمثل إلا الجزء اليسير من جموع الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وبناءً عليه فإن حق العودة بهذا المفهوم سواء في نصوص اتفاقية أوسلو أو في إجراءات الاحتلال لم يعد ممكناً.
• المستوطنات: يعتبر بناء المستوطنات من أسباب هروب الفلسطينيين من ديارهم. ويترافق مع بناء المستوطنات ارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين. ذلك أن بناء المستوطنات يُعَدّ ركيزة استراتيجية في بناء دولة الاحتلال. بناء المستوطنات وخروقات المستوطنين يشكلان خرقاً لسلطات الاحتلال لقواعد القانون الدولي، وخاصة ما جاء بنصوص اتفاقية لاهاي، وبنصوص اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949 في شأن حماية السكان المدنيين وأملاكهم الخاصة في ظل الاحتلال الإسرائيلى. إن انتشار المستوطنات في الأراضي الفلسطينية بطريقة سريعة، وكأن سلطات الاحتلال تسابق الزمن، يشير بوضوح إلى أنّ تأجيل المفاوضات بشأنها إلى الوضع النهائي كان قراراً غبياً جداً بالمفاهيم السياسية والاقتصادية؛ لأنه عندما تبدأ مفاوضات الحل النهائي بالنسبة إلى المستوطنات تكون أمراً واقعاً يصعب تجاوزه، ما يعني أنّ الحديث عنها يكون بلا قيمة.
•  مشكلة المياه: تحاول دولة الاحتلال السيطرة على منابع ومصبات المياه في الدول العربية المجاورة مثل سوريا ولبنان والأردن، ومن قبلهم فلسطين، غير عابئة بأن ذلك يشكل تجاوزاً لقواعد وقوانين المياه الدولية، وخاصة اتفاقية المياه الدولية الأخيرة لعام 1997. إذن، فمسألة المياه تتعدى استعمال وتنظيم المياه إلى استغلالها كورقة ضغط سياسية تستعملها بعض الدول ضد دول أخرى. واستغلال سلطات الاحتلال للمياه الجوفية في الضفة الغربية أو للحدود مع قطاع غزة يجعل نسبة استخدام المياه من قبل مستوطن ما تساوي 70 ضعف حصة مواطن فلسطيني، ويجعل حياة الفلسطيني في الضفة والغربية وقطاع غزة أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
• الحدود الفلسطينية الإسرائيلية: ثمة تآمر مع قوى الاستعمار الكبرى آنذاك المتمثلة في بريطانيا وفرنسا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ابتداءً من وعد بلفور عام 1917 وحتى الآن مروراً بقرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي حدد حدود فلسطين، وكذلك حدود "دولة الاحتلال". لكن دولة الاحتلال ترفض حتى الآن إعلان حدود دولتها لتعارضه مع أطماعها وأحلامها التوسعية من النيل إلى الفرات، وبما يتنافى مع الأحكام القانونية الدولية التي تلزم كل دولة بتحديد حدودها وإعلانها للمجتمع الدولي طبقاً لقواعد القانون الدولي. إن غياب أي تحديد للحدود بين سلطة الاحتلال وأرضي السلطة الفلسطينية أوجد حالة خنق أمني إسرائيلي للسلطة الفلسطينية، وأصبح هناك خنق اقتصادي أيضاً؛ إذ إن 70% من صادرات السلطة و85% من وارداتها هي مع الكيان الإسرائيلي، وتستطيع سلطات الاحتلال متى أرادت وقف صادرات السلطة ووارداتها، كذلك احتفظت سلطات الاحتلال بحق التحكم في تحرك الأفراد، حتى إن رئيس السلطة نفسه لا يستطيع أن يدخل أو يخرج إلا بإذن من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
 القدس المحتلة: سلطات الاحتلال فرضت إجراءات ميدانية على الأرض جعلت من مدينة القدس ذات أغلبية يهودية وأقلية يهودية، وهي تعمل بدأب على تهويد المسجد الأقصى المبارك. ولعل هذه الإجراءات تتعارض مع الأنظمة القانونية الدولية التي مرت بمدينة القدس، وثمة خرق لمختلف قواعد القانون الدولية. وتأجيل النقاش في قضية القدس إلى الوضع النهائي يعطي الاحتلال وقتاً كافياً لتهويد القدس بنحو كامل، حتى إن بدأت المفاوضات بهذا الملف تكون القدس مدينة يهودية خالصة، وعندها هل يقبل الاحتلال الإسرائيلي بالنقاش حول "مدينته المقدسة" اليهودية الخالصة؟
الوضع القانوني للمفاوض الفلسطيني: لقد أحدث اتفاق أوسلو حالة من التشويش على الشعب الفلسطيني، فتقسيمه إلى فئات كما سبق الحديث، واختصار القيادة الفلسطينية بأشخاص لم يكن اختيارهم وفقاً لمبدأ انتقال السلطة والمشاركة الديموقراطية، جعلا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية طرفاً ضعيفاً وهشّاً يسهل الاستفراد به في أي مناسبة. كذلك إن الغموض الذي يرافق الشخصية القانونية للمفاوض الفلسطيني، وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية وتغير مركزها القانوني في ضوء قواعد القانون الدولي المعاصر ما بين منظمة تحرير فلسطينية وسلطة وطنية فسلطينية، جعل الطرف الإسرائيلي في حل من أي التزام لو شاء، ولسان حاله قد يقول: إن القيادة الفلسطينية لا تمثل كافة الفلسطينيين، وإن الوضع القانوني لمنظمة التحرير الفلسطينية غير محسوم. 
أظهر اتفاق اوسلو مدى حرفية الاحتلال الإسرائيلي في تزوير الحقائق والقدرة على تسويقها، وفي المقابل أظهر مدى "هشاشة" قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعدم ثقتها بنفسها وبشعبها، وقبل ذلك بحقها، وركنت إلى تقدير خاطئ عن موازين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية، متغافلة عن قدرة الشعب الفلسطيني وإرادته في مقارعة الاحتلال وانتزاع حقوقه بيده.

ولعل هذه الهشاشة وعدم الثقة بالنفس والمجازفة بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية تظهر بوضوح في عدة أمور:
1. اعترفت منظمة التحرير في اتفاق أوسلو بحق الاحتلال في الوجود على أرض فلسطين المحتلة عام 1948، وهذا يشكل 78% من أرض فلسطين.
2. الاتفاق لا يشير إلى أنّ الضفة الغربية أو قطاع غزة أرض محتلة، وهو ما يعزز الاعتقاد بأنها أراضٍ متنازع عليها، وهذا السلوك الذي أراد الاحتلال الإسرائيلي إثباته طوال الفترة الماضية، رغم القرارات الدولية العديدة والدراسات القانونية العدية التي تشير إلى أنها أرض محتلة. وبالتالي تثبيت موضوع الاستيطان وتبادل الأراضي.
3. تعهدت منظمة التحرير الفلسطينية وقف المقاومة المسلحة، والامتناع عن ممارسة الانتفاضة أو أي شكل من أشكال "العنف"، والتزمت تماماً المسار السلمي، والتزمت كذلك حذف كل النقاط والبنود الداعية إلى تحرير فلسطين أو تدمير الكيان الصهيوني من الميثاق الوطني الفلسطيني. هذا ينسف حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان، وهو الحق في مقاومة الاحتلال بكافة الطرق الممكنة. وقد بذلت السلطة جهوداً صادقة في تنفيذ هذا التعهد.


خلاصة القول:  تبين أن ثمة تقصيراً كبيراً من قبل المسؤولين الفلسطينيين، جعل المجتمع الدولي ينظر باستضعاف إلى الشعب الفلسطيني واستخفاف بمطالبه. إن القضية الفلسطينية قضية قانونية دولية بامتياز، إن هذا التقصير مثله مثل من يضع قضية ناجحة في يد محامٍ فاشل. ثمة استخفاف فلسطيني رسمي متواصل بالجوانب القانونية للقضية الفلسطينية، لعل أشهر حلقاته ظهرت حين أبرمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية دولية عام 1993 مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من دون وجود قانوني دولي واحد في الوفد الذي قاد المفاوضات في الجانب الفلسطيني، فيما كان الوفد الإسرائيلي يضم فريقاً من أشهر المحامين الدوليين.
وبعد إبرام اتفاقية أوسلو عام 1993، استمر الجانب الفلسطيني في تخبطه القانوني من دون الرجوع إلى أهل الخبرة في القانون الدولي، حتى إذا أراد الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يعلن قيام الدولة الفلسطينية في ربيع عام 2000، كما كان مقرراً له بموجب اتفاقية أوسلو، واجه تحدياً عارماً من الجانب الإسرائيلي، ليكتشف لاحقاً أن ذلك الإعلان مرتبط بشروط قانونية في ملحقات الاتفاقية الدولية، يكاد يستحيل تحقيقها على أرض الواقع. فبدلاً من أن يطالب بتفعيل المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة في الجمعية العامة، بعد كل اعتداء يقوم به الاحتلال الاسرائيلي، ليتمكن من محاكمة المسؤولين الإسرائيليين في محاكم دولية، يكتفي المسؤولون الفلسطينيون بتكرار طلبهم، السياسي لا القانوني، في مجلس الأمن ليُواجه بفيتو أميركي في كل مرة، أو يحصل على مجرد تنديد من المجلس في أحسن أحواله من خلال بيان رئاسي أو ما شابه.