مجلة العودة

الغلاف: مسيرة العودة الثانية... كلنا شهداء حتى التحرير -وسام حسن

العودة لم تعد حلماً
 مسيرة العودة الثانية... كلنا شهداء حتى التحرير
 

وسام حسن: عين التينة/ الحميدية

بين زحفين ووطن كانت المسيرة الثانية للعودة تخطّ طريقها نحو فلسطين، تشقّ بالدماء كما شقت أول مرة في ذكرى النكبة دروب العودة وطرقها الوعرة.

حتى اللحظات الأولى من صباح يوم الأحد 5/6/2011 لم يكن هناك قرار شعبي واضح بالخروج في مسيرة العودة الثانية التي كانت تتوجه إلى منطقتين حدوديتين: الأولى، عين التينة المواجهة لمجدل شمس المحتلة. والثانية، للحميدية قرب مدينة القنيطرة. وتفاجأ أهالي المخيمات الفلسطينية بأن هناك مئات من الشباب استأجروا حافلات للذهاب بأنفسهم إلى هذين المحورين، وما لبثت الأخبار تتوالى من هذين المحورين عن سقوط شهداء وجرحى برصاص الجنود الصهاينة لتنطلق عدة مركبات بعد الظهيرة إلى محاور الاشتباكات.

وصلنا إلى المحور الأول في عين التينة، وكانت المواجهات على أشدها، ومع أول نزول إلى الوادي الذي تمركز فيه الشباب الفلسطيني، كان عشرات منهم يصعدون الجبل وعلى أكتافهم جثمان الشهيدة إيناس عبد الله شريتح التي ارتقت شهيدة وهي تضع علم فلسطين فوق الساتر الترابي.

كان السياج الشائك الذي وضعه الصهاينة لمنع الوصول إلى أراضي المحتلة مجرد وهم سقط بأيدي الأطفال قبل الشباب، حيث تمزق إرباً كقطعة قماش مهترئة لتفتح بذلك أول ثغرة للوصول إلى الجهة المقابلة. وكان عدد من الأطفال يمزقون الأسلاك الشائكة ويحتفظون بها علامةً على كسرهم الجبروت الصهيوني، ودلالةً على أن الحواجز ستتقهقر أمام إصرار هذا الشعب على العودة.

ومع اجتياز الساتر الترابي أخذت قوافل الشهداء والجرحى بالمسير، وعلى بعد عشرات الأمتار كان الجنود الصهاينة يرمون بالرصاص الحي كل من يحاول اجتياز الساتر الترابي الذي صنعه جيش الاحتلال قبل أيام من ذكرى النكسة.

وسقط الشهداء واحداً تلو الآخر والجريح تلو الجريح. طواقم الإسعاف الموجودة مع العائدين لم تستطع أن تغطي كل الإصابات لأنها كانت من الكثرة بحيث استشهد بعض الجرحى، بالرغم من إصاباتهم بالأطراف، وذلك نتيجة النزف الحاد وصعوبة الوصول إلى أعلى الجبل حيث سيارات الإسعاف.

واشتدت المواجهات بعد أذان المغرب وازداد تطاير الرصاص والقنابل الغازية ليصاب العشرات بالاختناق ويصبح الجو كله ملوثاً بغاز الحقد والإجرام، ومن لم يتنشق الغاز شعر بألم شديد بعينيه. وبالرغم من كل ذلك، أصرّ عدد من الشبان على البقاء في ساحة الحرب تلك، معلنين بذلك اعتصاماً مفتوحاً حتى تحقيق ما يصبون إليه.

أما المحور الثاني من المواجهات، فكان في قرية الحميدية على الحدود المصطنعة بين أرضنا المحررة وأرضنا المحتلة والمواجهات على أشدها منذ الساعات الأولى من هذا اليوم. وكانت طبيعة المنطقة السهلية تتيح لجنود الاحتلال التحكم أكثر بالإصابات، وكان من الصعب المناورة في هذه المنطقة، فسقط هناك المزيد من الشهداء والجرحى، وقد استخدم المتظاهرون وسائل حماية بدائية من الرصاص. فلم تمنع رقاقات الحديد الصدئة الرصاص من اختراق الصدور والرؤوس.

مجزرة صهيونية أخرى...25 شهيداً و350 جريحاً

وتكشفت في المساء، في مستشفى القنيطرة تحديداً، الأعداد الكبيرة للذين أصابهم رصاص الحقد الصهيوني في محوري المواجهات، حيث بلغ عدد الشهداء في ذلك اليوم 24 شهيداً و350 جريحاً من المحورين، وهذه الأعداد لم تكن نهائية لأنها استثنت من تعرضوا لاستنشاق الغاز السام وكانوا بالمئات.

فعند وصولنا إلى مستشفى القنيطرة، كان يعجّ بالمصابين والزائرين على حد سواء، ولا تجد غرفة في البناء إلا كان يعالج أحد الجرحى حتى امتلأ المستشفى عن بكرة أبيه، ما استدعى طواقم الإسعاف لإرسال عدد من الجرحى إلى مستشفيات مدينة دمشق.

وفي جناح بارد إلا من حرارة الدماء جُمعت الجثامين بجانب بعضها لتكون شاهداً آخر على المجزرة الصهيونية التي ارتكبت بحق أصحاب الأرض الفلسطينية الحقيقيين الذين كانوا ينوون العودة إلى ديارهم السليبة المغتصبة.

وفي طريق العودة إلى دمشق، كانت سيارات الإسعاف تسابق الريح لتصل بجريح أو مصاب إلى مكان يعالج فيه، وكان الطريق الذي خيّم الليل عليه مضاءً بأمل العودة والمضي في هذه المسيرة.

وفي مخيم اليرموك حين أنزل كل ذي رحل رحله من هذا اليوم الطويل، كان المئات ينتظرون العائدين من محوري المواجهات باستقبال حافل وهتافات تؤكد الحق الفلسطيني وعودة اللاجئين.

الشهداء... يضيئون بالدماء المسيرة

هي الدماء مشاعل النور على طريق العودة إلى فلسطين المحتلة، وهم الشهداء دوماً من يحمي المسيرة ويلهمها الاستمرار والمضي قدماً من أجل التحرير.

24 شهيداً خطّوا بأرواحهم وأجسادهم ودمائهم صفحة من صفحات النضال الفلسطيني والعربي المشرقة والمضيئة بحروف البذل من أجل الأوطان.

من مستشفى القنيطرة الذي تجمّع الآلاف أمامه بانتظار خروج الجثامين الطاهرة، انطلقت الجموع وسط صوت القرآن الكريم والهتافات تزفّ عرسان الشهادة إلى مثواها الدنيوي الأخير، إلى مخيم خان الشيح الذي قدّم كوكبة من الشهداء في هذه المسيرة بلغ عددهم سبعة شهداء ارتقوا إلى العلا مع إخوانهم من المخيمات الفلسطينية الأخرى، وفي عرس فلسطيني زّف ستة منهم والأعلام الفلسطينية ترفرف فوق الجثامين كأنها تلتحم معها لتشكل فسيفساء الوطن الذي اقترب تحريره والعودة إليه.

وإلى مخيم اليرموك، عاصمة الشتات الفلسطيني، انطلق المشيعون يحملون نعوش العائدين إلى التراب، القابضين على حب الوطن والشهادة. تسعة شهداء بينهم شهيدة حُملوا على أكف الإصرار وعلى أكتاف الثوار من جيل الشباب يعاهدونهم على متابعة المسيرة ويتوعدون القاتل بالثأر لكل شهيد علا في سماء فلسطين.

الشعب يريد تحرير فلسطين

تسعة شهداء وهتاف واحد يدوي في شارع اليرموك: «الشعب يريد تحرير فلسطين» وهذا الهتاف البسيط في كلماته الكبير في معناه شتت مساعي كثيرين في تفريق الشعب الفلسطيني وتشتيته ديموغرافياً وتاريخياً، فكان الجميع يرددون هتافات الوحدة الوطنية ومنها هذا الهتاف. ولأن الشعب الفلسطيني يوحده دم الشهيد كان جميع المشيعين شيباً وشباناً يتطلعون إلى العودة القريبة بإذن الله، لأن هذا الشعب توحّد من جديد على غاية واحدة، هي العودة وإسقاط مؤامرات بيع اللاجئين والمتاجرة بقضية فلسطين.

ووسط مخيم اليرموك وفي جامع الوسيم الذي صُلي فيه على جثامين شهداء مسيرة العودة الأوائل اجتمع الشهداء بجانب بعضهم كما كانوا مجتمعين أجساداً وأرواحاً تنبض بحب فلسطين أثناء مواجهتهم للعدو الصهيوني. واجتمع المئات في صلاة لن تكون الأخيرة على شهداء سقطوا لأجل فلسطين.

وبعد الصلاة على أرواحهم، مرة أخرى يمشي الشهداء للمرة الأخيرة محمولين في شارع اليرموك نحو إخوانهم الذين سقطوا منذ شهر تقريباً ليدفنوا بجانبهم وليتزاوروا في برزخهم ويكتبوا تاريخ التحدي المعاصر وحضارة الشباب الفلسطيني المقاوم الرافض لكل تفريط بالأرض الفلسطينية.