مجلة العودة

بين الفلسطيني الشهيد في غزة وشقيقه في سورية

بين الفلسطيني الشهيد في غزة وشقيقه في سورية

طارق حمود / اسطنبول

من مفارقات الزمان أن يستشهد الفلسطيني في مكانين متناقضين من حيث الشكل الظاهر. ففي الوقت الذي تمتع فيه الفلسطينيون في سورية بأرضية خصبة لتمكين مقدراتهم من مقاومة الاحتلال في سورية، ها هم بحاجة لمن يمكّنهم من مواجهة ما يجري لهم في ذات المكان. ومن المفارقة أن يسقط الشهداء في مخيم اليرموك، في الوقت الذي ينازعهم فيه القاتل شرف المقاومة في غزة، ليس ممكناً بعد اليوم إتاحة الفرصة من جديد للتوازن، بعد أن تجاوز شهداء فلسطين في سورية أكثر من 680 شهيداً، وليس ثمة مقالٍ غير الحقيقة الواضحة تجاه من أراد المتاجرة بدماء ضحايا غزة ليدفن عاره في اليرموك.

مخطئ كلَّ الخطأ من يظن أن سورية لم تدعم المقاومة الفلسطينية، ويجانب الحقيقة كل الحقيقة من ينكر دعم إيران لإمكانات غزة منذ سنوات ليست بالقصيرة، لكن مجرم من يظن أن الاعتراف بهذا من شأنه أن يبرر قتل أبناء القضية في مخيمات درعا واليرموك والحسينية؛ فقد واجهنا الإعلام السوري الرسمي بتغطية لأحداث غزة أكثر مما عليه الحال في تغطية أحداث حلب أو حمص، وليس هذا من باب الدعم المذكور سابقاً، فالدعم المذكور كانت حدوده إلى أول قطرة دمٍ سورية، وأول شهيدٍ سوري يسقط بالسلاح نفسه الذي قيل إنه نقل إلى غزة، فالمبادئ واحدة لا تتجزأ، والقيم لا يمكن محاكاتها بلغة تختلف عنها في مكان آخر، ولا يمكن اعتبار المسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه غزة شيئاً يختلف عن المسؤولية تجاه حلب أو حمص أو درعا. مجزرة آل الدلو يصعب على أي إعلام رثاؤها إلا بمقابل رثاء عائلة الخطيب الفلسطينية التي قضت تحت القصف في مخيم اليرموك، وإعلام المفارقات يصنع حتفه بيده إن تجاهل هذه الحقائق، لا يمكن فصل التباكي على حياة الفلسطينيين في غزة، في الوقت الذي تنتهك أبسط مقومات عيشهم في سوية والعراق، ومن غير المعقول أن نطالب الضحية بالاعتراف بفضل السكين التي قتلت شقيقه، لأنها رُفعت في وجه قاتل آخر؛ فالحقوق لا تتجزأ.

كان عاراً أن يستثمر انتصار غزة لمسح الدماء من شارع الجاعونة في اليرموك، وليس من قبيل الشرف أن نرسل صاروخاً ليقاتل مع الغزيين، ونطلق آخر على مخيم درعا.

الأغرب في الأمر، وربما كان الأوضح، أن من دعم غزة من سنوات طويلة، لم يطالبها بما طالبها به اليوم، رغم تعدد جولات الصراع بين المحتل والفلسطينيين هناك؛ فلماذا كانت هذه الجولة رغم أنها الأقصر؟ لماذا هذه الجولة بالذات كانت موضع التنازع الحاد لشد الإنجاز وجذبه؟ ثمة شيء ما يراد له أن يدفن بهذا الإنجاز، وهو ما رأينا فيه الإعلام الرسمي السوري يتخبط تخبط المبكي المضحك من أجل استثمار الحدث الغزي، فمرة بمحاولة تعويم فصائل يدرك الجميع حجمها في القطاع، ومرة بإنكار إنجاز فصائل أخرى كبرى يعلم الجميع أيضاً حجمها، ومرة بشماتة بما يجري، ومرة بتحليل خرافي آتٍ من مريخ المؤامرة الكونية في أن الاحتلال يستهدف الشخصيات التي تدعم النظام، لإتاحة المجال أمام تسوية بين المقاومة والاحتلال، ليست موجودة إلا في الخيال الكوني الواسع لذلك الإعلام، فيما كانت وقائع الميدان في مخيم اليرموك ودرعا والحسينية تتحدث عن حقيقة مختلفة، مساحتها أقل من الكون بكثير، لكنها بحجم مخيمٍ يعرف كيف يصوغ خياراته، وإن كانت باهظة الثمن. فمنذ بداية الأزمة، ونحن الفلسطينيين السوريين، نتحسس الكلمات والحروف حتى لا ينكر خطابنا معروفاً، ولا يتجاهل حقائق الحاضر، لكنهم اليوم يدفعوننا دفعاً لأن نكون أكثر صراحة ووضوحاً، وأكثر يقيناً بخيارات المبدأ، رغم ما في مقابله من تهويل وتشويه، تشويه كلما وصل حدوده القصوى جاءت جولة من جولات الحق لتدمغه. ما جرى في الفصل الأخير من الأحداث في سورية انعكاس جديد لحجم الأزمة الأخلاقية التي وقع فيها من تعالى على النصيحة، ومن تكبّر على القول بالفعل الذي لا يعرف غيره.

وفي الحديث عن الشهيد الفلسطيني في غزة وشقيقه في سورية، فإن وقفةً مع واقعٍ مقابل ليس سوى جزء مهم من حقيقة ينبغي أن تقال؛ إذ تنطع بعض منظري الثورة السورية والمتسلقين على دمائها، ليعتبر أن حرب غزة كانت بقرار إيراني سوري لتخفيف الضغط عن سورية داخلياً، فما كان أغرب من مفارقات النظام سوى مفارقات بعض معارضيه الذين أعياهم مرض الارتباط والتبعية، وخصوصاً مع وصول المعارضة إلى مستويات من التآلف في ما بينها أفضل بكثير من السابق؛ فمن لم يعجبه واقع المعارضة الجديد، ذهب ليضرب في مكانٍ آخر في تحليلات من مريخ آخر، يشبه مريخ النظام، فقط لضرب جهات بعينها عاش عمره كله في حربها، وبعد أن رأى أن العربة تسير على غير الطريق الذي أراد. ليبقى الثمن المدفوع والمسفوح دماً سورياً وفلسطينياً غالياً بين مهرطقي النظام وبعض معارضيه، وبتجاهل تام من الطرفين أن القضية الفلسطينية لا تزال بوصلة الأمة والشعوب، وما تظاهرات النصرة لغزة في كل أنحاء العالم إلا وجه من وجوه هذه البوصلة. فمن أراد الشعوب فعليه الوقوف حيث مؤشر البوصلة، لا خلفه، ولن تنجح محاولة جذب المؤشر مهما كانت قوة المغناطيس، فللشمال وجهة واحدة.