مجلة العودة

في ذكرى أوسلو: المقاومة الفلسطينية، والثورة العربية، ما بين الواجب والممكن

في ذكرى أوسلو: المقاومة الفلسطينية، والثورة العربية، ما بين الواجب والممكن

ساري عرابي/ رام الله

" أ- إن قيام الدولة الفلسطينية ضمن التسوية المقترحة يشترط تجريدها من السلاح ووقف كل الإجراءات التي تعني العداوة، مثلاً: تصفية المقاومة المسلحة، وإبقاء الكيان الصهيوني متفوقاً عسكرياً، بصورة مطلقة، هذا فضلاً عن الاعتراف به، وإفساح المجال لتوسعه الاقتصادي والسياسي والثقافي.

ب- هل هناك مقومات اقتصادية وعسكرية وسياسية لدولة فلسطينية تقوم في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ إنّ عدم وجود تلك المقومات لا يجادل فيها اثنان. وهذا يعني أن تلك الدولة ستكون بحاجة إلى «المعونات» العربية والأجنبية حتى لصرف رواتب موظفيها، أي إن تلك الدولة لن تستطيع أن تكون مستقلة بسياستها واقتصادها وإرادتها، وبالتالي لا مفرّ من أن تكون كياناً هزيلاً تابعاً تحت رحمة «الأجاويد» إلى جانب العيش تحت رحمة تغلغل الإمبريالية الأميركية وسيطرتها، وتحت رحمة سيطرة النفوذ الإسرائيلي والجيش الإسرائيلي".

قد يبدو الأمر عجيباً، وحتى صادماً، للقارئ الكريم إذا علم أنّ النص أعلاه، الذي يبدو كأنه يصف واقع السلطة الفلسطينية اليوم إلى درجة المطابقة، وصالحاً لأن يصف أي دولة فلسطينية تفضي إليها عملية التسوية الجارية انطلاقاً مما استقر عليه حال السلطة الفلسطينية، وبعد الخبرة المكتسبة مع مشروع التسوية، والإدراك الواعي باشتراطات اللحظة الراهنة، قد كتب قبل اتفاق أوسلو بـ ٢١ عاماً، أي في عام ٧٢.

ولعله، يبدو عجيباً أيضاً، إذا عُلم أنّ هذا النص الذي كتبه المفكر المناضل منير شفيق، قد كتب أساساً في الردّ على فكرة الحل المرحلي التي كانت خجولة في حينه، ثم تبلورت في صيغة مشروع فعلي في عام ٧٤ تحت عنوان «برنامج النقاط العشر»، فكيف إذا كان هذا الوصف هو الحال السرمدي، المعروف سلفاً للدولة الفلسطينية المقترحة الآن، التي لا يمكن تصورها إلا على شكل السلطة الفلسطينية الحالية مع تغيير الاسم إلى دولة فلسطين فقط؟!

وعلى أية حال، إن مقترحات تسوية القضية الفلسطينية بما يرسخ وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، وذلك بانتزاع اعتراف فلسطيني وعربي بحقه في أرض فلسطين، ودمج اللاجئين الفلسطينيين في دول اللجوء، مقابل قيام كيان فلسطيني هزيل أسفل سقف الهيمنة الإمبريالية، وبالإذعان لشروط المستعمر، أقدم من ذلك بكثير، على الأقل منذ قرار التقسيم في عام ٤٧، لكن المقصود أنّ مآلات مشروع التسوية، ما دام يجري في المسار المفروض استعمارياً، لن تكون إلا على هذا النحو الذي استشرفه منير شفيق قبل ٤١ عاماً.

المطروح هنا الآن، وفي مقالة الأخ منير شفيق المشار إليها، لا يرفض قيام كيان للمقاومة الفلسطينية على أرض محررة، تنتزع من العدو بالفعل المقاوم، وتقوم عليها بالرغم منه، وفوق إرادته، وهذا مختلف تماماً من أن تقدم المقاومة الفلسطينية للعدو، أو لقوى المنظومة الإقليمية المنتجة استعمارياً، أو للنظام الدولي الاستعماري، مبادرة لحل مرحلي، لا تعني بالضرورة إلا الدخول من البوابة التي وضعها المستعمر، ومن ثم الولوج إلى التنازلات التي لا تنتهي.

وفي هذا السياق، ونحن لا نزال نعيش أجواء الثورات العربية، ومخاضها العسير، وآلامها الثقيلة اليوم في مصر، فإن من المصادفات اللافتة، أنّ هذه الرؤية المقاومة المبصرة المكتوبة قبل أربعة عقود، تشترط أن يتحقق مع قيام الكيان المقاوم الفلسطيني، أو قبله، "انتصار حقيقي للثورة العربية في أحد الأقطار المجاورة"، "حتى يكون بالإمكان إيجاد قاعدة خلفية للمناطق المحررة ترفدها بكل أسباب الحماية والدعم والمشاركة، وتؤمنها من الوقوع تحت وصاية أحد بسبب ما يمكن أن تحتاجه تلك المناطق من مساعدات ودعم".

هذا الاشتراط هو ما كان مأمولاً أن تحققه الثورة المصرية في رفد المنطقة الوحيدة المحررة في فلسطين نسبياً، والمحررة بفعل مقاوم أساساً، أي قطاع غزة، وإن كان وجود الحكومة فيها قد تأسس أيضاً على الدخول في السلطة الفلسطينية الناجمة عن اتفاق أوسلو، بيد أنه الأمر الذي لم يمنع أن تكون حكومة مقاومة، تخوض الحروب وتأسر الجنود، وإن بقيت إكراهات النموذج القائم المتمثل بالسلطة وفي كون حكومة غزة جزءاً منها بشكل أو بآخر، وعدم إنجاز الثورة في مصر، يجعل ظرف حكومة غزة حرجاً.

هذا الترابط التاريخي المستمر يلقي الضوء على ظروف تزامن استئناف المفاوضات أخيراً برعاية أميركية، مع انقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ومن ثم استهداف غزة وحماس، بالتحريض والحصار، بل والتهديد، وهذا يعني بالضرورة الأهمية الاستثنائية لإنجاز الثورة العربية في محيط فلسطين، لتحرير فلسطين، ولإنجاز النهضة العربية؛ إذ لا يمكن قيام أي نهضة عربية، ونجاح أي مشروع تحرر عربي من الهيمنة الاستعمارية مع استمرار الحالة الاستعمارية المباشرة الممثلة بالكيان الصهيوني؛ فالعلاقة بين الثورة العربية وتحرير فلسطين متلازمة وضرورية.

وفي ذكرى أوسلو، وحديث الثورات، وتحرير فلسطين، لا بد من الإشارة إلى أنّ الإشكال يكون دائماً في بحث الضعيف عن الممكن في مواجهة القوي، الذي لا معنى له في النتيجة إلا التنازل والمساومة على القضية، بينما المطلوب هو القيام بالواجب، للحفاظ على القضية كما هي، ثم البحث في الممكن المتعلق بالواجب حصراً، أي في سبيل تعظيم المقاومة، وتوفير القوة الذاتية لها، فلسطينياً، وربما من ذلك إعادة تقديم مقاربة جديدة لشكل الحكم في غزة، وإنجاز الثورات العربية على أساس التخلص من الهيمنة الاستعمارية وتحرير فلسطين، وهو ما سيحتاج تضحيات كبيرة ودماءً كثيرة.