مجلة العودة

فلسطين: عامان من عمر الربيع العربي

فلسطين: عامان من عمر الربيع العربي


حازم عياد -  الضفة الغربية

عامان على الربيع العربي وضعا القضية الفلسطينية على مفترق طرق حقيقي تقف فيه الضفة الغربية خصوصاً بين خيارين: التمسك بمسار التفاوض العبثي والتنسيق الأمني والمتاجرة بالأوهام، أو السير في طريق المقاومة والانتفاضة، دولة فلسطينية ذات سيادة منقوصة ومبادرة عربية لم تخضع للمراجعة وكونفدرالية يراد لها أن تعيد انبعاث أوسلو والمفاوضات لتكبّل المقاومة كما كبّل الصراع الطائفي المقاومة اللبنانية وجعلها تحت نيران الشرعية مطالبة بنزع سلاحها، في المجمل يبرز الهدف الاستراتيجي هنا، وهو إعادة توجيه التحولات الإقليمية والدولية الناجمة عن الربيع العربي باتجاه مسار أوسلو، ولكن بأدوات جديدة. هكذا بدا المشهد، وهذه هي الخيارات بالنسبة إلى من أرادوا السير في طريق التفاوض. أما المشهد على الجانب الآخر، فنهج مقاوم حقق إنجازات وتمكن من استثمار التحولات التي تولدت عن الربيع العربي بإعادة توجيهها نحو مراكمة إنجازات فلسطينية جديدة كسرت الحصار الصهيوني على غزة وعززت مقولات النهج المقاوم في الضفة الغربية والشتات.

حالة الشد والجذب بقيت قائمة بين كلا النهجين، إلا أن الربيع العربي وسقوط نظام مبارك أربك الإقليم والساحة الدولية، وخلق فراغاً كبيراً كان من الصعب ملؤه بمجرد الحديث عن المفاوضات. حالة النزف السياسي والاستراتيجي لاتباع نهج التسوية والتفاوض لم تقتصر على هذه الخسارة، بل امتدّ تأثيرها إلى جبهات جديدة كانت ساكنة، أبرزها الجبهة المصرية.

حاول أتباع هذا المسار من النخب وحلفائهم الإقليميين والدوليين تجاوز هذه التحولات باحتواء المازق الذي بلغته المفاوضات بتجنب التصعيد أو الاشتباك مع المقاومة الفلسطينية ، واستثمار حالة الارتباك التي تولدت عن الربيع العربي بعدما اتسعت الدائرة لتشمل سوريا وعدداً من الدول العربية، بهدف استعادة التوازن الإقليمي.

أمام هذه الصورة التي اتسمت بالثبات على مدار عامين، سعى قادة الكيان إلى الابتعاد عن التورط في أي صراع مع الفلسطينيين، إلا أن الغرور عاد فتملكهم وسيطرت الحسابات الخاطئة والرغبة الملحّة بإعطاء دفعة لنهج المفاوضات العبثية وإعادة توجيه التحولات الإقليمية نحو هذا النهج، وهو ما دفع قادة الكيان الصهيوني إلى ارتكاب حماقة باغتيال أحد أبرز قادة المقاومة في قطاع غزة، وهو القائد أحمد الجعبري، وكان الهدف إحراج القيادة المصرية الجديدة وإظهارها بمظهر العاجز، مراهنة على ضبط حركة حماس وقوى المقاومة نفسها بتأثير من المشهد المصري والإقليمي المرتبك.

ردّ المقاومة الفلسطينية ورفضها إمرار حادثة الاغتيال، كان الاختبار الأول لكل المقولات السياسية التي راهنت على إمكانية تجاوز آثار الربيع العربي وإعادة توجيهه نحو خدمة الوجود الصهيوني؛ فالمقاومة طورت الحالة إلى اشتباك شامل نقل المعركة إلى أرض العدو ومدنه ليمتد تأثيرها إلى الضفة الغربية فانهمرت الصواريخ على المستوطنات والمنشآت الصهيونية في القدس الشريف وتل الربيع.

الصورة التي تشكلت سفّهت نظرية التنسيق الأمني القائم، وهزّت الكيان الصهيوني وأركان الإقليم بأكمله، لتفوّت المقاومة على الكيان الصهيوني تحقيق أي إنجاز حقيقي على الأرض، بل وعلى الساحة الدولية والإقليمة؛ فصعود نهج المقاومة عزّز التحولات الإقليمية المؤكدة للتحرر والسيادة، وعظّم أهميتها وقيمتها السياسية.

مأزق السلطة والكيان الصهيوني في الفشل بإعادة إحياء المفاوضات تحوّل إلى هزيمة أمام نهج المقاومة، ولم تعد السلطة والكيان الفاعلين الأساسيين في تحديد معالم المستقبل، لم تعد المبادرات والتسويات والحلول المقترحة لإنشاء دولتين أو إنشاء جزر سكانية أو أي حلول ممكنة في ظل حالة من الممانعة بلغت إلى حدّ إلحاق الهزيمة بالآلة العسكرية الصهيونية.

أمام هذه الحالة، أخذت تبرز خيارات جديدة قديمة لها عرّابوها من العرب والعجم لإحياء المفاوضات وإعادة توجيه التحولات الإقليمية باتجاه القبول والاعتراف بالوجود الصهيوني، أبرزها محاولة إحياء المبادرة العربية كمرجعية للمفاوضات والتسوية أو الكونفدرالية مع الأردن كحلٍّ يسمح باحتواء الآثار الكارثية الناجمة عن اختلال ميزان القوى لمصلحة النهج المقاوم الذي أخذ بالتسلل والتسرب إلى الضفة الغربية.

بالرغم من خطورة التوجهات الجديدة لإحياء مشاريع قديمة ومبادرات مهملة، إلا أنها ما زالت تتجاهل حجم التبدل والتحول في موازين القوى التي باتت تؤدي فيها الشعوب العربية دوراً فاعلاً. إن المأزق الحقيقي الذي تعانيه "إسرائيل" وأصحاب نهج التفاوض هو غياب الرؤية الناجمة عن التمازج العضوي بين أتباع هذا النهج والمشروع الصهيوني، إلى درجة بلغت حرصاً غير مسبوق على دمجه في الإقليم وشرعنته بأي وسيلة كانت. هذا التوجه بحدّ ذاته قد يتحول إلى مادة تشعل انتفاضة ثالثة لن تتوقف آثارها عند حدود إقامة دولة فلسطينية في القطاع والضفة، بل قد تمتد إلى فضاءات جديدة لم يسبق أن كانت فاعلة فيها، الأمر الذي سيعيد قضية اللاجئين الفلسطينين إلى الصدارة، ولعل هذا هو التراكم المطلوب في المرحلة المقبلة والهدف الغائب.