مجلة العودة

نسيمة أيوب :أقوى مراكز الدراسات.. تناصر " إسرائيل "

أقوى مراكز الدراسات.. تناصر " إسرائيل "

نسيمة ايوب - بيروت

تُعَدّ أبحاث مراكز الدراسات والفكر وتحليلاتها وتوجيهاتها موجِّهاً أساسياً لصانعي السياسات والقرارات، وبالتالي تُصنع قرارات هؤلاء، بشكل أو بآخر، بناءً على توجيه هذه المراكز. ونظراً إلى هذه الأهمية الكبرى؛ فقد أَولى الغرب عامةً، واليهود خاصةً، اهتماماً كبيراً بها. ففي الولايات المتحدة فقط 1816 مركز دراسات، وفي بريطانيا 278، وفي أوروبا الغربية مجتمعة 1222. أما في «إسرائيل»، فيوجد 54 مركزاً، وفي الدول العربية مصر ذات الرقم الأعلى؛ فلديها 34 مركزاً للدراسات.
نعود إلى الولايات المتحدة لنقول إن أهم ثلاثة مراكز دراسات فيها ـ بناءً على تقويم دولي يجري سنوياً ـ هي معهد بروكنجز Brookings Institution، مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations، ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي Carnegie Endowment for International Peace. وهؤلاء الثلاثة صُنِّفوا الأهم عالمياً أيضاً. ما يهمنا في هذا الموضوع هو تأثير هذه المراكز على السياسات الدولية تجاه "إسرائيل” والقضية الفلسطينية.
بروكنجز  BROOKINGS
نبدأ بمعهد بروكنجز؛ فهو من أعرق مراكز الدراسات (تأسس منذ 1916) في الولايات المتحدة. له عدة فروع، منها مركز بروكنجز الدوحة Brookings Doha Center ومركز سابان لسياسة الشرق الأوسط الذي دعم تأسيسه حاييم سابان بـ13 مليون دولار. ويدير مركز سابان Ken Pollack (يهودي)، الذي كان يعمل سابقاً لدى مجلس الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية CIA. ويضم المركز عدداً كبيراً من الخبراء، من أهمهم مارتن أنديك (يهودي)، وهو سفير سابق للولايات المتحدة في "إسرائيل” ومدير الأبحاث السابق في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC؛ وغابي أشكنازي، وهو رئيس سابق للأركان في الجيش الإسرائيلي، وغيرهما من اليهود وغير اليهود وبعض العرب.
بالنسبة إلى الشأن الفلسطيني، تتجه كتابات مركز بروكنجز ودراساته نحو تحقيق سلام "يرضي” كافة الأطراف. وقد تبدو بعض هذه الكتابات محايدة، إلا أنها في الواقع قلما تهاجم "إسرائيل”. وهي ترى في معظم الخطوات الإسرائيلية أمراً مسلّماً به قد يحتاج إلى بعض التعديلات هنا وهناك. ويرتضي كتّاب معهد بروكنجز وباحثوه إطلاق تسمية "الدولة” اليهودية” على "إسرائيل”، وهو أمر يعبّر عن سياسة تحيّز مسبقة وعنصرية فاضحة. ولا يوجد تسليط ضوء حقيقي على معاناة الفلسطينيين في الداخل واللاجئين في الخارج، فنرى أن مطبوعات بروكنجز قد تتحدث عن الانقسام وإعلان الدولة والسلام مع "إسرائيل” ودعم السلطة... وكأنما لا وجود للمخيمات والاعتقالات والأسرى وجرف الأراضي وهدم البيوت والتشريد والقتل والدمار واستنزاف الموارد... وفي الواقع، ليس على المرء توقع مواقف أكثر انحيازاً إلى الطرف الفلسطيني في ظلِّ غياب العنصر المؤثِّر والداعم الذي يستطيع تغيير سياسات مراكز كهذه وتوجّهاتها.
مجلس العلاقات الخارجية
ننتقل إلى مركز الدراسات الثاني، وهو مجلس العلاقات الخارجية الذي تأسس سنة 1921 والذي يُصدر مجلته الشهيرة Foreign Policy. وهو من أقوى، إن لم يكن الأقوى تأثيراً على السياسة الخارجية الأمريكية. وهنا أيضاً، وعند عرض أعضائه وهيئته الإدارية، بالإضافة إلى خبرائه، يتبين لنا مدى تغلغل اليهود واللوبي الإسرائيلي في هذه المؤسسة، وبالتالي تأثيرهم على سياسة الإدارة الأمريكية عامةً وموقفها من "إسرائيل” والقضية الفلسطينية خاصةً.
نبدأ برئيس المجلس ريتشارد هاس، وهو من اليهود الأشكناز، وقد كان سابقاً مديراً لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، وكان أيضاً نائب رئيس قسم دراسات السياسات الخارجية في معهد بروكنجز ومديره. أما عندما نعرض مجلس الإدارة، فيتبين لنا أن نحو 26 عضواً من أصل 40 هم يهود أو أزواج ليهود، وبالتالي 65% من مجلس الإدارة يهودي. هذا مع العلم أن اليهود في الولايات المتحدة يمثلون 2% فقط من مجموع السكان. هذه الأرقام تجعلنا لا نعجب من أن معظم، إن لم يكن تقريباً كل الكتابات المتعلقة بـ”إسرائيل” والسلطة الفلسطينية والفلسطينيين عموماً مكتوبة من قبل يهود عندهم توجّه طبيعي منحاز إلى "إسرائيل”. فلا نرى أي كتابات تأخذ مصالح الطرف الفلسطيني في الاعتبار أو تنقل معاناة الفلسطينيين أو تبحثها. هي تبحث عملية السلام في بعدها السياسي، وقد تحلل بسطحية معاناة القطاع فقط لتعكس مدى الضغوط على حكومة حماس. هي تناقش مسألة إعلان الدولة الفلسطينية من حيث أثرها على "إسرائيل”، ولا تأخذ في البال أثر ذلك مثلاً على حق العودة أو على فلسطينيي الداخل. بمعنى آخر، قد تُخدع بالـ”موضوعية” عندما تقرأ بحثاً معيناً يناقش موقف "إسرائيل” وموقف السلطة الفلسطينية... ثم تدرك أن البحث تجاهل عنصر الإنسان الفلسطيني وآثار أي حدث على
معهد كارنيغي: CARNEGIE ENDO WOMENT
 هذه المؤسسة هي الأقدم؛ فقد تأسست سنة 1910، ولديها أربعة فروع: في واشنطن وموسكو وبيروت وبروكسل. وربما عُدَّت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي الأكثر توازناً بالنسبة إلى الاثنتين السابقتين. فباقة خبرائها متنوعة ومن عدة اتجاهات. صحيح أن الجميع لا يخرج عن السياسة العامة للمؤسسة، وصحيح أيضاً أن رئيسة المؤسسة جيسيكا ماثيوز هي يهودية كما هو نائبها بول بلاران، إلا أن مقاربة الشأن الفلسطيني بالنسبة إلى مؤسسة كارنيغي تظل أقل انحيازاً من مركزي التفكير السابقين. فمثلاً، نرى أن أحد خبرائه الذين يكتبون عن الشأن الفلسطيني هو البروفسور يزيد الصايغ، الذي يُعَدّ موضوعياً في كثير من كتاباته. وكذلك بول سالم مدير فرع مؤسسة كارنيغي في بيروت.
أما بالنسبة إلى كتابات مؤسسة كارنيغي، فهي تتسم بالتنوّع، وتبدو أكثر توازناً بالنسبة إلى عملية السلام أو حصار غزة أو عند الكلام على الأطراف الفلسطينية كافة، أو حتى في دراسة حركة حماس وفكرها. لكن تظل كتاباتها موجهة نحو تحقيق السلام مع «إسرائيل»، ما يضع كثيراً من علامات الاستفهام بالنسبة إلى مصير الملايين في الشتات الفلسطيني.
مراكز أخرى
صحيح أننا تناولنا أهم ثلاثة مراكز تفكير، إلا أنّ من المهم بمكان أن يُذكر أن هناك الكثير من المراكز الحقوقية الأجنبية التي تنصف الجانب الفلسطيني عامةً في جميع أنواع معاناته. وبالرغم من أن هذه لا تحتل المراكز الأعلى في الترتيب العالمي لمراكز التفكير، إلا أنها ـ بلا شك ـ تمثّل أدوات ضغط فعّالة، سواء على الحكومات الأجنبية، أو على طرفي النزاع. كذلك إن الدراسات التي تجريها هذه المراكز تمثّل ركيزة ومرجعاً لكل من يريد أن يحمل هذه القضية على كاهله ويطرحها في المحافل العالمية الرسمية منها والخاصة، الحقوقية منها والإعلامية. وهنا، على سبيل المثال لا الحصر، أذكر هيومان رايتس واتش وأوتشا التابعة للأمم المتحدة ومعهد ﻓﺎﻓوﻮ للدراﺳﺎت الدولية التطبيقية.
إن تناول القضية الفلسطينية من قبل أي مركز دراسات يخاطب العقل الأجنبي والناطق باللغة الانكليزية تحديداً، يُعَدّ مؤثراً، سواء على الرأي العام الغربي أو على السياسات الحكومية الأجنبية. وهنا تكمن أهمية إيجاد مراكز دراسات فلسطينية تزاحم مثيلاتها الغربية.
لغاية الآن، للأسف، نجد النزر اليسير يخصص صفحاته لمقارعة العقل الغربي بالحجة المضادة وباللغة الإنكليزية، والتي تُفحم الأطراف الأخرى. على صعيد الداخل، عندنا مثلاً معهد الأبحاث التطبيقية (أريج ARIJ)
الذي يمتلك موقعاً باللغة الإنكليزية غزًيرا بالمعلومات والإحصاءات والخرائط، إلا أنه يفتقر إلى الكتابات المؤثرة على السياسات. أما خارج فلسطين، فإن أبرز مرجعين فلسطينيين ناطقين باللغة الانكليزية هما مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تأسست 1963 والتي لها موقع ومجلتان باللغة الانكليزية، وهي متنوعة في موضوعاتها، مقالاتها محكّمة ومؤثرة على السياسات. أما خبراؤها فلهم سمعة طيبة عند الغربيين، بحيث يمكن كتاباتهم التأثير على الرأي العام.
أما مركز التفكير الثاني، فهو مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. صحيح أن هذا المركز يُعَدّ فتياً من حيث عدد السنوات؛ إذ تأسس سنة 2004، إلا أن موقعه وكتبه باللغة الانكليزية أخذت موقعها في عملية التأثير على السياسات. فسعة انتشار كتبه الإنكليزية وترتيبه بالنسبة إلى زائري مواقع الدراسات الفلسطينية يجعلانه مزاحماً وذا تأثير على الرأي العام وعلى صانعي السياسات.
من الواضح بعد عرضنا الموجز لبعض مراكز التفكير الغربية وكيفية تناولها للشأن الفلسطيني وما يقابلها من مراكز تفكير مؤيدة للشأن الفلسطيني وناطقة باللغة الإنكليزية، ضعف هذه الأخيرة في التأثير المعاكس على صانعي السياسات عالمياً. وبمجرد عرض ميزانيات هؤلاء، تتضح لنا الأهمية التي يوليها اللوبي الإسرائيلي لهذه المراكز، فيما يرها البعض منا ترفاً أو نافلةً غير أساسية في عملية التغيير.
إن تغيير الرأي العام النخبوي الأوروبي والأمريكي لن يكون إلا من خلال مراكز تفكير تتكلم بلسانهم وتفكّر بعقليتهم لكنها لديها قناعاتنا. لذا، علينا أن ندعم تلك المشاريع بكل ما أوتينا من قوة، وبالتالي يصبح هناك تكاملٌ في عملية المقاومة والتغيير. تكاملٌ يجمع بين مقارعة الحجة بالحجة والرقم بالإحصاء الدقيق الموثوق وبين الضغط الشعبي والعسكري والسياسي والاقتصادي وغيره. لكن يبقى الصراع الفكري هو الأساس في أية عملية تغيير. فما بالك بتغيير واقع قد ناهز أربعة وخمسين عاماً!! ♦