مجلة العودة

بلا أسوار: بين النكبة والنكسة.. اللاجئ الفلسطيني أراد ولكن - ماهر شاويش

بين النكبة والنكسة.. اللاجئ الفلسطيني أراد ولكن

ماهر شاويش

لو أنّ اللاجئ الفلسطيني ركن لحسابات الربح والخسارة، لما خرج ربّما في ذكرى النكبة ليعبِّر عمّا يتملّكه من عشق لأرضه وتوْق إلى دياره. فهو يعلم ما قد يواجهه من عدوّ تمرّس على القتل والإرهاب. مع ذلك، خرج اللاجئون وأبناؤهم وأحفادهم على تخوم فلسطين من كلِّ جانب، وقدّموا شهداء وجرحى، وسطّروا بدمائهم الزكية ملحمة بطولية جسّدت إرادتهم الجارفة بالعودة.

كانت حسابات الربح والخسارة هذه مطروحة على الطاولة بقوّة أكبر، أمام كل من أراد استئناف التجربة في ذكرى النكسة، وخاصة مع استحضار السيناريوات التي توقّعها المحلِّلون. وربّما زاد بعضهم بأنه لا داعي إلى تكرار التجربة ما دام العدوّ قد تحصّن هذه المرّة وتأهّب للحشود الفلسطينية، واحتمالات أن تباغته جماهير اللاجئين قد قاربت الصفر. كيف لا وقد أرغى كبار قادة الاحتلال وأزبَدوا، وتوعّدوا العائدين بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن حاولوا الاقتراب من فلسطين المحتلة أو تخطّوا أسلاك الحدود. لكنّ اللاجئ الفلسطيني قلب الموازين، فكانت ذكرى النكسة بالنسبة إليه محطّة أخرى على طريق العودة. ذلك أنه خاض التجربة بزخم أكبر، وبدماء متجدِّدة، وبمخزون عالٍ من الإرادة والتصميم، ومن جُرح في ذكرى النكبة عاد ليستشهد في ذكرى النكسة. هل هناك ما هو أصدق أنباءً من ذلك على تصميم هذا الشعب على عودته؟! لم يَكتفِ الشهيد عزت مسودة بنيل شرف العودة إلى القدس في ذكرى النكبة، وإن ظلّت تلك العودة وساماً يكفيه طوال حياته، فقد أبى إلاّ أن يكون في عداد الشهداء متقدِّماً الصفوف وضارباً مثلاً في القدوة والالتزام، وهو ما لمسه رفاقه وإخوانه الذين شاركوه مسيرة العودة الثانية. إنه وجه مُشرق للمشهد الفلسطيني في ذكرى النكسة، بعيداً عن التوظيف والاستثمار المغرض للدماء الزكيّة التي لا يجوز ولا يصح أن نشكِّك، ولو للحظة، في من قدّمها وبذلها وفقاً لاقتناعات مبدئية طاهرة ودوافع وطنية خالصة. لكنّ ما حدث في مخيم اليرموك بدمشق، أثناء التشييع وبعده، يحتاج إلى وقفة جادة، نتناول من خلالها بعين فاحصة ملابسات الحدث وتداعياته. ربّما كان السؤال المطروح هنا: من المستفيد ممّا حدث؟ ومن تخدمه هذه الواقعة؟ 

وفي أي أجندة يمكن أن تصبّ؟ وهل كان الشعب الفلسطيني، ولاجئوه تحديداً الذين تدفّقوا إلى الحدود، ينتظرون مآلات كهذه في ساحتهم الداخلية؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا المقام، وكلّها تبقى برسم من خالف إجماع الفصائل والقوى الفلسطينية التي قرّرت عدم الخروج إلى الحدود في ذكرى النكسة. في كل الأحوال، تقتضي الحكمة أن نعرف كيف ندير صراعنا مع عدوِّنا، وأن نعرف متى يكون الإقدام ومتى ينبغي الإحجام. فلأيّ مشروع مقوِّمات، على رأسها الرؤية والهدف والوسائل والأدوات، وبإسقاط ذلك على المشروع التحرّري الفلسطيني، ينبغي استجماع رؤية واضحة، وهدف أو جملة أهداف محدّدة، تشترك الوسائل والأدوات في تحقيقها وفق أجندة وطنية فلسطينية خالصة. إنه مشروع يتفاعل في إطار عمق عربي وإسلامي داعم يرتكز على رؤية الوجوب، لا بدافع المنّة أو الرغبة في التعاطي مع الشعب الفلسطيني على أساس أنه «بنك دم» أو رصيد مصرفي يُستدعَى وقت الحاجة تبعاً لأجندات متفرِّقة وحسابات عارضة. لا رغبة لدينا في أن ننكأ الجراح، ولكنّها قدسية حقّ العودة والدماء الزكية التي أُريقت لأجله، ورمزية مخيّماتنا الشاهد الأساس على هذا الحقّ. ما يحتِّم أن نقف بالمرصاد لكل من يحاول العبث داخل مخيّماتنا، فعلينا أن نتكاتف بكلِّ قوانا الفلسطينية الحيّة لاعتراض سبيل من يحاول النيل من أمن مجتمعات اللاجئين، فأمن المخيمات وأمانها مسؤولية الجميع؛ الجميع بلا استثناء، بعيداً عن أي حسابات فئوية ضيِّقة. مع ذلك، تبقى الرسالة واضحة، عبر ذكرى النكبة والنكسة وما بعدهما. فقد تحقّق الجميع من أنّ الوجهة الشعبية الفلسطينية محسومة باتجاه حقّ العودة وعدم التفريط به، بل والعمل الضاغط لتفعيله وإنفاذه.